عازفوا الكمان.. يضربون قبابهم في الكويت ليلى سيد موسى

عازفوا الكمان.. يضربون قبابهم في الكويت

في كل بيئة كائنات خاصة يدعو تأملها إلى الدهشة، وإلى استبيان آيات من الجمال والحكمة تعزز نوازع احترام الحياة، ومن بيئة الخليج الكويتية يختار لنا هذا المقال بعضا من كائناتها.

حين ينحسر الماء عن الشواطئ وفقط حين يكون مستـوى الجزر دون المتر الواحـد، تنشط هذه الفرقة من عـازفي الكمان. بهدوء تتفتق عنها التربة الرملية الممتزجة بالطـين، وبسرعة تلهـث وراءها اللغة تنتشر في الفضاء الرملي المنبسط، تمارس جـدولها بأثرية محيرة. سباق شبـه صامت لممارسة كل العادات اليومية المسطورة في مكان ما من الذاكرة.

جاء أول وصف لهذه الكائنات في عام 1835. عندما صادفها البيولوجي دي هان De Haan في اليابان. وعرّف السرطان عازف الكمان Fiddler Crab حيث للذكور مخلب كبير جدا يصل طوله إلى ضعفي عرض الجسم، وفي وضع الاسـترخاء يشبه وضع ذراع عازف الكـمان وهو يحمل عود العزف.

هنا في الكويت

- حين وصلت إلى الكويت لم أكن أمتلك سيارة، كنت أستقل سيارة أجرة، وأترجل عند الأبراج، ثم أمضى باحثا عن التنوع الحيواني عند السواحل ماشيا نحو "الشويخ" مرة، ونحو "السالمية" أخرى، هنا وجدتها...

كان هذا هو جواب الدكتور يوخن زيل Jochen Zeil ـ أستاذ السلوك في جـامعة الكويت، قسم علم الحيوان - عندما سئل عن كيفية العثور عليها. ويعزف أصدقاءه من عازفي الكمان الـذين يعيشـون هنا، فيقدمهم بـاسمهم العلمي أنيـوليبس annulibes. وهي كـائنات صغيرة جـدا إذ لا يتجـاوز طـولها 11 مليمترا، وعـرضها 20 مليمترا. إنهم يحتمون في ذلك الجزء من الشاطئ الذي تنحسر عنه مياه البحر في أثناء الجزر.

عازفـو الكمان هؤلاء يقطنـون الشواطئ المكسـوة بحبيبات الرمل كـما هو الحال في الشاطئ المقابل لأبراج الكويت، أو الشواطئ الطينيـة مثلا في الدوحة. قبيل الجزر الأدنى يلمـع بيـاض تحت النـور السماوي على الشواطئ تلك. إنها مخالب الذكور الضخمة. وتشكل هذه المخالب مشكلة حقيقية لكل محاولات التصوير. ولهذه المخـالب وظيفـة محددة للغـايـة وتنحصر في الاحتكـاك الاجتماعي لهذه السرطـانـات. ثم إن لهذه السرطانات مخلبا صغيرا يستغل في عدد كبير من الوظائف اليومية كاختيار الطعام ورفعه إلى الفم، وفي حفر وتوسيع الجحور التي تقطنها. أما الإناث فإنها تمتلك فقط مخلبين صغيرين متساويين في الحجم. وظاهرة التباين في الشكل بين الذكر والأنثى ظاهرة شائعة جدا في العالم الحي.

قصة التباين

والجواب العلمي الوحيد المتوافر لمثل هذا التباين بين الذكر والأنثى تضربه النظرية التطورية مثلا لكل أشكال التباين بين الذكور والإناث عبر المملكة الحيوانية. تذهب القصة إلى أنه في بعض المجتمعات الحيوانية يفوق عدد الذكور أعداد الإناث بنسبة كبيرة، وكي تفوز بالزواج يدخل الذكور في صراعات وحروب، أما تلك الأكبر حجما أو الأفضل تسلحاً كالمخالب الأكبر فسيكون لها الفوز بأكبر عدد من الزيجات وأكبر عدد من الأبناء والأحفاد، وبالطبع فإن الأبناء يرثون الميزات الجسمانية ويطرأ على أبعادها تحسن مستمر عبر عدد من الأجيال، تماما كعمليات التهجين وتحسين النسل التي يستخدمها الإنسان مع الحيوانات الداجنة، وإذا تذكرنا الحقبة الزمنية الطويلة فسنتعقل حدوث مثل هذه التغيرات المزعومة في الخواص الجسدية. وللحكاية ملحة أخرى، لكل كائن إرث وراثي معين يعوق الاستمرار اللا نهائي للتحسين على صفة معينة، كما أن لكل كائن عدة اختيارات لا بد من توافرها، فمخالب السرطانات عازفة الكمان لن تكون أطول مما هي عليه الآن لأنها مقيدة بالقدرة الجسدية القصوى الموروثة كما أنها تفرض قيودا على سهولة الحركة والفرار. فمثلا لا تستخدم الذكور مخالبها الكبيرة في الأكل لذا تضطر إلى تخصيص وقت أطول عن الأنثى للأكل، كما تضطر إلى الإسراع من معدل التقاط الطعام بالمخلب الوحيد.

العالم المسطح

برغم الاختلاف بين ذكور وإناث عازفي الكمان في بعض الصفات الجسمانية من طول وعرض ومخالب، إلا أنها جميعا طفقت على رؤية العالم منذ أربعين مليون سنة من خلال عيون زرقاء ضاربة إلى الخضرة. إن لها عيونا مركبة ورثتها كبقية أنواع فصيلها "مفصليات الأرجل" وهما قائمتان على قرنين متحركين مما يعطيها مجال رؤية كثيرا ما نحلم به نحن البشر، إنها ترى العالم من حولها عبر 360 درجة أي تبصر دائرة العالم فعليا!! بحميمية قال د. يوخن زيل:

"إن الإنسان يعيش ستين عاما في هذا العالم، ولعل أفضل ما يطمح إليه أن يفهم جزءا صغيرا منه، وهذه الكائنات أصبحت حلمي الصغير. كيف ترى العالم، كيف تدرك الطريق إلى البيت، كيف تعرف العدو، كيف تتشكل حساسيتها للحركة والسكون" ...

وهنا حاول أن يفهم كيف ترى العالم، دافعه الحقيقي الرغبة في الفهم، والسبب المباح للعامة هو إمكانات استخدام مثل هذا الفهم في تطوير الآليات "الروبوت" وأجهزة الرؤية فيها. فهذه الحيوانات لديها مقدرة فائقة على تجميع المعلومات المختلفة التي تصل إلى دماغها من عينيها ولوامس حساسة للذبذبات في سطح القشرة الأرضية. ثم تشكل صورة دينامكية لكل ما هو متحرك وساكن وبعده عنها. لو فهمت أساسيات هذا النظام العصبي فسيكون من الممكن توظيف ذلك في الرؤية الاصطناعية لآلات الاستشعار والآليات المتحركة. من ضمن الأسئلة المطروحة للوصول إلى فهم أفضل هو كيف تدرك هذه الكائنات مكان بيتها، وكيف تشكل خريطة تساعدها على التجوال بعيدا ثم العودة إلى المنزل؟

العودة إلى المنزل

خلال مغامرة البحث عن الطعام يتجول سرطان لا يزيد طوله على سنتيمترين في دائرة قد يصل قطرها إلى متر حول الجحر الذي يقطنه. وعندما يفزعه اقتراب طائر مفترس أو إنسان، يجري كسهم مارق نحو الجحر وفي خط مستقيم. وتراهن النظرية العلمية على أن المعرفة الدقيقة لمكان الجحر تتأتى من إدراك ذاتي بمكان الجحر وليس من النظر واتخاذ المسار المناسب للجحر، أي كما لو يقوم السرطان بتعديل خريطة داخلية في كل خطوة ومع كل استدارة. هذا الاستنتاج مبني على حقيقة كون بعض هذه السرطانات تخرج إلى سطح الأرض في الليالي غير المقمرة ودوما تجد طريقها إلى جحورها. كذلك قاد عدد من الدراسات والتجارب إلى ترجيح مثل هذه النظرية. ولعل أكثر التجارب إقناعا هي تلك التي أجراها الدكتور يوخن زيل في الكويت. إذ وجد طريقة لتغيير زاوية السرطان بالنسبة إلى جحره دون أن يشعر السرطان بأي اضطراب. وقام بتصوير ردود أفعال السرطانات باستخدام كاميرا فيديو.

أوراق السنفرة المتحركة

تقوم التجربة على وصل قطعة صغيرة من أوراق السنفرة بحبلين من حبال سنارات الصيد بحيث يمكن تحريكها، ثم وضع الورقة في مسار السرطان. عندما يخرج السرطان باحثا عن الغذاء ينتظر الباحث حتى يصبح السرطان فوق الورقة، ثم تحرك بزاوية معلومة، ثم يحرك الباحث يده حركة مفاجئة تفزع السرطان ويهرب نحو جحره. إذا كان السرطان عازف الكمان ينظر إلى جحره ويسلك المسار الأقصر والأكثر مباشرة إليه فهذا سينفي النظرية، أما إذا اتخذ مسارا مطابقا لما هو مرسوم على ذاكرته الداخلية، فإنه سيخطئ في تحديد المكان الجديد للجحر. لذا تكون كاميرا الفيديو دائرة طوال التجربة. ويتم تحليل المسافة التي قطعها السرطان وزاوية الإزاحة والمسار الأصلي والمسار بعد الإزاحة من على شاشة التلفاز باستخدام برنامج كمبيوتر موضوع لقياس المسافات وزوايا الحركة.

في الجزء الأول من التجربة تركت السرطانات تمارس سلوكها العادي دون أي تدخل من الباحث. فسجلت الكاميرا عدة ملاحظات. إن السرطانات في أثناء بحثها عن الغذاء تمشي بخطوات جانبية (بالنسبة لمركز جسمها) غالبا، وببطء تبتعد عن جحورها في خطوط مستقيمة تقريبا على الدوام. وهي إن شاءت أن تغير اتجاه سيرها تعود إلى جحرها، تلامس فتحة الجحر بأطراف أرجلها قبيل أن تنطلق في رحلة جديدة. وتظل في سيرها تشير إلى الجحر بجانب واحد من جسدها المسطح. في بعض الأحيان، تتحرك في مسارات قصيرة متعامدة مع الخط الأساسي المنبعث من مركز الجحر. في مثل هذه المسارات تدير جسدها بحيث يشير طرف واحد من الجسد إلى الجحر. هذه الملاحظات العامة على الحركة العادية لعازفي الكمان تعرض بوضوح معرفة السرطانات بالاتجاه والمسافة لبيوتها.

أما في الجزء الثاني من التجربة أي في حالة الإزاحة ثم تعمد الإفزاع، دون أي تحيز سجلت الكاميرا أن السرطانات تركض إلى المكان الذي يفترض أن يوجد فيه الجحر، أي تركض في الاتجاه المفترض ولنفس المسافة المفترضة، وبهذا تعرض السهم الموجه المخزن في ذاكرتها، ولا تعتمد على النظر المباشر.

ولتأكيد عدم استعمال العامل البصري في حالة الهروب لدى هذه السرطانات، أجريت تجربة أخرى ومع أخرى باستخدام ورقة السنفرة الصغيرة المغطاة بالرمل.

حين يبتعد السرطان عن جحره تلقائيا مسافة تزيد على 10 سم، تسحب الورقة باستخدام حبال الصيد بحيث تغطي فتحة الجحر. ثم تفزع السرطانات. تركض السرطانات في اتجاه فتحة الجحر وتتوقف تماما عند الموضع الفعلي للباب والمغطى بالورقة!! وتدور حول المكان باحثة عن الباب.

أما إذا أحدثت فتحات في التربة بجوار الفتحة الأصلية للجحر فإن السرطان المفزع يغير مساره نحوها حين يقترب منها مسافة تقل عن 10 سم. هذه التجربة تقودنا إلى الاعتقاد بأن عامل البصر يقوم بتوجيه السرطان في دائرة لا تتجاوز 10 سم. أما فيما يزيد على ذلك فإنها تفضل الاعتماد على الخرائط الداخلية.

هذه الدراسة تبين جزءا بسيطا من خارطة السلوك لدى هذه الحيوانات، ولا تزال الأبحاث جارية لمعرفة الظواهر التي يستخدمها السرطان عازف الكمان كبوصلة تساعده على الابتعاد لمسافات طويلة ثم العودة إلى البيت دون خطأ. ويتجه جانب من البحث لتشريح عيونها وتحديد الأماكن الأكثر حساسية فيها ومحاولة معرفة كيف تقيس المسافات والأحجام المختلفة حولها.

لقد قضى د. يوخن زيل ثلاث سنوات يعالج عددا من الأسئلة تدور حول مشاكل الابصار وتحديد الموقع، وصل إلى بعض الإجابات المقنعة، وتناسلت في هذه السنوات أعداد كبيرة من الأسئلة الجديدة والمثيرة، ولا ينتهي الطريق..

فإذا أردت التمتع بحيويتها فكل ما تريده هو كرسي قصير وصبر طويل، اجلس بهدوء تام، قلل من حركتك قدر الإمكان، وستراها تضرب قبابها، هنا في الكويت.

 

ليلى سيد موسى

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




أنثى عازف الكمان وهي تحمل كرة من الرمل في مخلبها الأيمن





ذكران يتنازعان على جحر





ذكر السرطان العازف للكمان بجوار مدخل جحره





جحر عازف الكمان، الكريات الرملية