يتميز النحات
المغربي الحاج سليمان بنغال (45 سنة) بحدس فني مذهل أزكاه التواضع البادي في محياه
وأغناه خمول الذكر المتعمد في الابتعاد عن الشهرة والأضواء وقد اعترف لي بتواضع جم-
بعد أن استأنس لزيارتي رفقة الناقدة الفنية المغربية زهرة زيراوي، وبعد أن فتح لي
قلبه وكعبته الفنية الشاملة للتحف والمنحوتات المتنوعة - بأنني أول صحفي عربي
يزوره، ويرجع السبب في ذلك أولا: لأنه لا يشارك إطلاقا في المعارض الفنية كيفما
كانت باعتبارها تحد من حريته بسبب الرقابة الداخلية / الخارجية المتمثلة في مواعيد
وزمن العرض والقاعة.. إلخ. وثانيا: لأنه لا
يبيع أيا من منحوتاته الكثيرة التي لاحظت أنها تسمو إلى مستوى موازاة أبنائه
الصغار: محبة وفتنة. وثالثاً: لأنه يؤمن- ضمنيا - بأن الفن للفن وكفى!!
يحدثني الفنان
بنغال عن إحساسه الصادق منذ طفولته حين كانت هنالك رغبة (قاهرة) تدفعه دفعا رفيقا
لمداعبة القطع المعدنية والخشبية أو الورقية والطين والأسلاك لتكوين مكعبات ولعب
وأشكال تصنع عوالم وممالك الطفل الصغير. وقد
تغلب بخياله على نواحي القصور وبعض القيود التي يفر منها الزمان والمكان خلال مرحلة
التمدرس، حين التقى فنانا بوهيميا اسمه البشير كان يتيما يعيش في دار الخيرية
بالدار البيضاء. وقد استمتع برفقة خياله وأنامله المذهلة حينذاك وهي تنحت بمهارة
منقطعة النظير في الخشب لتصنع السفن الشرعية الهائمة في بحر الحياة بحثا عن متعة
الصبا وآفاق الحرية والانفتاح والانعتاق.
تلك كانت إبداعات
اللحظة العفوية إذن: السفن الشراعية الخشبية وأبجدية فن النحت على الخشب، ثم التقى
في مرحلة تالية الفنان الفرنسي الأستاذ TUR الذي وجهه برفق وحنان فني بالغ نحو نحت الأسماك..
فاكتملت لديه معالم الطريق، وتكاملت في نفسه خصائص
ودلالات أسلوبه الخاص في التعبير والطموح الذاتي لتطوير حدسه الفني على مستوى البحث
والنظر، التي تغتني وتتسع كلما انغمس بمزاج حيوي جارف في دنيا الرسم والنحت حتى بات
كالمتصوف المتبتل الذي ما إن ينجز عملا فنيا أو منحوتة حتى يسبح بحمد الله شاكرا
على تلك الموهبة الفذة البادية في جمالية أعماله وعوالمه.
لغة النحت
والإبداع
كانت مرحلة
الانتقال من العفوية والانفعال إلى مرتبة النضج الفني والإبداع مشهودة ومحضورة حين
فاز وتم تتويج أعماله الفنية بجائزة المغرب للإبداع الفني عام 1963. وقد منحته
الجائزة إحساسا بثقل المسئولية وإحساسا أصدق بالانتقال إلى البحث عن وسائل التعبير
الفني من نسبة وتناسب وانفتاح لتحقيق المفهوم المحدود واللا محدود للشكل الفني
الأولي على الورق والنظر قبل الإمساك بأدوات النحت والحفر لإخراج العمل الفني من
عالم القوة إلى دنيا الفعل.
ويتميز الحاج
بنغال بلغة خاصة في التخاطب والعلاقات الاجتماعية ترجع إلى تلك القدرة والموهبة
المميزة لجماع المبدعين على الحساسية للمشكلات الاجتماعية والأسلوبية. فهو يلتقط
تجاربه ومؤثراته ودوافعه الفنية من نظره العادي في الظواهر الاجتماعية والمظاهر
الحياتية اليومية في مدينة يشكل مجتمعها المتداخل وصخبها وضجيجها وعوالمها مختبرا
للعديد والجديد من المشاهدة التراجيكوميدية التي تمتد من شاطئ الصخور السوداء
ومروراً بما تلفظه المدينة القديمة من أفكار وآراء ثم شاطئ عين الدِّياب بحاناته
ومراقصه ولياليه الرمادية والحمراء وجنوبا حتى تتكامل الخريطة مع أسوار الأحياء
الشعبية وغابة بوسكورة والمطار ثم الطريق السريع المنفتح على الرباط حتى لا تنفجر.
تلك المدينة الضخمة إذن: الدار البيضاء!
من هذا البحر
الخضم إذن يستلهم الفنان بنغال رموزه الفنية الدالة على معالم اجتماعية وظواهر
إنسانية. طفل متشرد، زهرة متفتحة، عصفور
يغرد في شرفة قصر فاخر، تلميذ مجتهد، امرأة محافظة، وكثير غير هذا من الأشياء
والأحياء التي تتداخل في نفسه، تفور وتمور، تنصهر ثم تتكامل فتنتظم جميعا...
تلك الكلمة السحرية التي تكمن كمفهوم انطولوجي فريد
في بنية الكائن الحي، الذي سيطر على نفس وفن النحات بنغال فرمز له بثالوث غلب على
متحفه وأسلوبه: الإنسان والطيور والأسماك.
أفكار
وآفاق
ونلاحظ أن
الأسماك ذات السيف الطويل تحتل مسـاحة من متحفه، وقد ركب لها أجنحة طويلة أسوة
بالطيور المهاجرة. وهي أجنحة طويلة تارة أو عريضة رقيقة تارة أخرى. فالمهم لديه
أنها تسبح أو تحلم بفضاء وأفق فني تتعانق فيه حين يتقاطع المستوى الجمالي الدال
والوجود المشمول بالكوني الدال على عظمة خيال الفنان المبدع، فيصادق بدوره على عظمة
الله الخالق لجمال الإنسان والطبيعة بإطلاق..
تنبض كل منحوتة
في مشغل الحاج بنغال بعمق الحياة وتنطق بلسان الوجود الحي الكامن في رؤيته
الجمالية، وتأخذ الناظر إليها بتسلسل بديع ينتقل متوازيا برفق حين يتعلق الأمر
بالخشب، أو متداخلة فمتكاملة باتساع بديع حين يبرز النحاس الوضيء متكورا أو منسابا
يلتف حول الفضاء الفني الدافع به لامتلاك البصر فيبحث بهدوء في دلالاته ومعانيه عبر
التفاصيل المشكلة للعمل، فالكل يتدفق: سابحا أو طائراً، واقفا أو منسابا يتحرك
متطلعا نحو أضواء الحرية التي يتصورها الفنان ويراها بعين المبدع الباهر والمنبهر
في آن واحد.
"إن موهبة النحت
نعمة وهبها الله لي وأنا بها جدّ مرتاح وسعيد" - يقول بنغال - " أنهض كل صباح
لأتفقد منحوتاتي كما أتفقد أبنائي صباح مساء. أستلهم منها دوما وهي لي وعندي ما
يغني وجداني ويشبع فؤادي ويلهم عقلي قبل أن أنزل إلى معملي متوحدا بذاتي لاختيار
الخام الذي سأعمل عليه. أبدأ بالرسم على الورق حيث أصنع رسما أو تخطيطا أوليا. ثم
أشرع في عملية النحت تاركا لنفسي ويدي وخيالي الانسياب والتحرك ضمن اللحظة وبحسب
الحدس الفني والحس الجمالي... هنا لا منطق
ولا برهان... وإنما فقط تماه واتساق وتصورات ونسب وأحكام تتفاوت،
تتداخل، تتكامل تنتهي أخيرا إلى الشكل الفني الذي يتركب ويتكون من حيث أدري ولا
أدري؛ ما دمت قد تركت للمصادفة حقها وللذات مساحتها وللمخيلة آفاقها
المفتوحة... حينها تنبع أو تبزغ فجأة الكثير
من التفاصيل والمثير من التصاوير وأنا في طريق لإنجاز.. ثم.. بحيوية وجمالية ناجزة، أجد نفسي وقد استسلمت لسلطان
الفن الطاوي لروح الإبداع والمشمول جماعا بأصالة وفطرية الموهبة لكي أوقع بحنان على
العمل الذي كان في الأصل جنينا جميلا، وخرج إلى الوجود منحوتا أصيلا".
المواد والدلالات
الفنية
ويفضل بنغال أن
يشتغل على خامات من الخشب والنحاس مستبعدا الحجر والرخام لصعوبة الاشتغال الفني
عليهما حيث يتطلبان إمكانات كبيرة "فالخشب نسميه المادة الشريفة" لجماليته وسهولة
الاشتغال عليه "بموهبتي وأدواتي الفنية منذ الطفولة والصبا" ويفصح لي أنه يكون
مرتاحا وعاملا بأسلوب السهل الممتنع حين يتنقل بين الخشب والنحاس، كما تشهد بذلك
التحف الفنية المتوزعة في ثنايا داره الأنيقة التي صارت متحفا فريدا بمحتوياته
ودلالاته الفنية الراجعة إلى لحظات حياتية أو ملامح اجتماعية إنسانية المنزع
والمقصد..
حقا إن الأجنحة
المركبة على أظهر الأسماك أو في جوانب الإنسان ضمن منحوتات الحاج بنغال هي الدليل
الحاسم على رغبة في السياحة والانعتاق وكسر الأغلال التي قد يحسها الإنسان في نفسه
أو يشعر عندها بالخطوط الحمر مرسومة في معالم طريقه. وقد اختار أن تكون دعوته إلى
الحرية في معناها الأسمى والأرقى منسجمة مع تعبيره الفني الحالم باستنهاض الإنسان
من التيبس والثبات. فهو ينطلق من بواعث إنسانية ومؤثرات مجتمعية تبدو عادية في
صورتها العامة، ليشكل وينحت منها دعوته الخاصة إلى الحرية والإبداع كما تصادق
ببساطة واقتدار منحوتاته الناطقة بألف لسان وجناح.