المتغيرات الاقتصادية.. كيف يمكن أن تؤثر في المستقبل العربي؟ عامر ذياب التميمي

المتغيرات الاقتصادية.. كيف يمكن أن تؤثر في المستقبل العربي؟

إن التحديات الجديدة وتوجه العالم المتقدم نحو المزيد من المنافسات المبنية على الجودة والتسعير المناسب تفرض على الدول العربية أن تضع معايير جديدة للإدارة الاقتصادية حتى تتمكن من ولوج المنافسة الدولية باقتدار ومهنية. فكيف يمكن تحقيق ذلك؟

يمضي القرن العشرون نحو نهايته في الوقت الذي يشهد فيه العالم متغيرات في مناحي الحياة كافة، وتتطور الأوضاع الاقتصادية في جميع الدول لتؤكد حتمية الاعتماد المتبادل بين الدول وعدم تمكن أي دولة من حماية نفسها من التأثيرات التي تحدث في بقية الدول الأخرى.. ولا شك أن المتغيرات التكنولوجية قد أوجدت أرضية شاسعة لهذه التحولات الاقتصادية وفرضت على الإدارات السياسية ومنظمات الأمم المتحدة والمنظمات العالمية الأخرى توفير التشريعات والاتفاقات التي تساهم في تسهيل حركة الأموال والبضائع والخدمات والبشر عبر مختلف الحدود. الدولية.. فمثلا من المعلوم أن الخدمات المالية أصبحت متوافرة لرجال الأعمال وأصحاب رءوس الأموال والبنوك بحيث لا يتطلب الأمر سوى الضغط على زرار في أحد الحواسيب الآلية لتحويل الأموال الطائلة من مكان إلى آخر، أو لتبادل أصول سائلة أو غيرها لصالح مستثمرين في أي مكان في العالم في مواقع أخرى خارج بلدانهم. وتقدر حركة الأموال في الأسواق المالية التي يتم تداولها يوميا بأكثر من تريليون دولار أمريكي.

من جانب آخر أدت التطورات في حقل تكنولوجيا الاتصالات إلى توفير المعلومات والبيانات والاتصالات المناسبة لمختلف الأطراف العاملة في الحقول الاقتصادية بحيث يمكن الحصول على بيانات من واقع الشركات وأدائها بشكل إجمالي أو تفصيلي، كذلك يمكن الحصول على بيانات عن المشاريع المنوي الاستثمار فيها من خلال طلبها والحصول عليها بأجهزة الاتصال الحديثة مثل الفاكس والبريد الإلكتروني.. وبذلك أصبحت القيود على حركة الأموال من الأمور التي تعد خارج الزمن والبيئة الاقتصادية الراهنة، بحيث فرضت هذه التحولات التكنولوجية تسريع التعديلات على التشريعات والأنظمة لمواكبة المستجدات.. وفي حقل التجارة أصبح هناك اعتماد كبير على الأسواق الدولية لتصريف المنتجات المصنعة وتصريف الخدمات، حيث لم تعد الأسواق الوطنية كافية لاستيعاب المنتجات التي توفرها المؤسسات العاملة في قطاع الصناعة التحويلية وغيرها من القطاعات.. وقد أدت هذه التحولات إلى تحقيق نتائج مهمة في إطار المحادثات العالمية حول العلاقات التجارية حتى توجت هذه المفاوضات باتفاقية التجارة والتعرفة العامة أو ما عرف باسم الجات GATT، وتأسست منظمة التجارة الدولية WTO لتنظيم العلاقات التجارية بين الدول.. ومما لا شك فيه أن شروط الجات قد أحدثت تحولات جذرية في أصول التعامل التجاري بحيث اشترطت حرية تامة وتعاملا موحدا مع السلع والخدمات ودون تفضيل للمصدر من خلال الرسوم والتعرفات الجمركية أو ضرائب المبيعات، أو القيود الإدارية.. إلخ... وقد تتضرر الكثير من الدول الصناعية والنامية من هذه الإجراءات التي قد لا تسمح بنجاح العديد من الأنشطة الاقتصادية مثل الإنتاج السلعي أو الخدمي في بعض القطاعات، والتي قد لا تتسم بالجدوى الاقتصادية إلا إذا توافرت لها حوافز إدارية مثل الحماية الجمركية أو تفضيل الشراء من قبل المؤسسات العامة، وخاصة في مراحل الإنتاج المبدئية... لكن هناك إمكانات جيدة للعديد من الأنشطة في الدول النامية لاستعادة حيويتها في ظل أنظمة التجارة الدولية الجديدة. فمثلا يمكن للقطاع الزراعي في عدد من الدول النامية أن يصبح مجديا إذا توافرت حوافز للمزارعين تمكنهم من الاستفادة من القدرات الطبيعية في بلدانهم.. وكما هو معروف أن سياسات الدعم للإنتاج الزراعي في بعض البلدان الصناعية المتقدمة مثل الولايات المتحدة وكندا وعدد من الدول الأوربية مكنت العديد من الدول النامية من استيراد المنتجات الزراعية بأسعار منخفضة إلى مستويات قياسية، مما جعلها تفضل الاستيراد بدلا من تشجيع الإنتاج المحلي لسد الاحتياجات الاستهلاكية. ولذلك قد يأتي الوقت الذي يعود فيه الإنتاج الزراعي في الدول النامية إلى مستوى تحقيق الاكتفاء الذاتي، أو على الأقل توفير نسبة مهمة من احتياجات السكان في كل بلد يتمتع بقدرات زراعية معقولة. هناك أيضا إمكانات كبيرة للصناعات التحويلية للاستفادة من عوامل الإنتاج المناسبة مثل انخفاض تكاليف العمالة، وتوافر مواد خام، ونهوض الأسواق المحلية والإقليمية. يضاف إلى ذلك أن اتفاقات الجات يفترض أن تساهم في فتح الأسواق في الدول الصناعية أمام السلع المصنعة في العالم الثالث.

تحديات للدول النامية

إن هذه التحديات الاقتصادية الجديدة تمثل تجربة جديدة في العلاقات بين الدول، وهي دون شك ستضع الدول النامية، ومن ضمنها الدول العربية، أمام مأزق حيث إن الإمكانات المؤسسية والمستويات التكنولوجية ما زالت متخلفة عن العالم المتقدم. وبالرغم من هذه الحقائق الواضحة، فإن إمكانات الدول النامية متفاوتة في قدرات التكيف مع الأوضاع الاقتصادية المستجدة، فهناك بلدان قادرة على الاستفادة من واقعها وقدراتها البشرية والمالية والطبيعية لتزحف إلى مصاف الدول المتقدمة. لكن مقابل ذلك هناك العديد من الدول التي لن تتمكن من الوثوب من مواقعها نظرا لطبيعة الأنظمة السياسية السائدة فيها، أو لافتقارها للقوى البشرية المتعلمة، أو لعدم توافر الأموال الكافية.. وبتقديري أن عدداً كبيراً من دول شرق آسيا والمحيط الهادي مثل الصين والهند سوف تكون من ضمن الدول التي سوف تستفيد كثيرا من اتفاقيات الجات ومن غيرها من تطورات اقتصادية مرتبطة بها.. مقابل ذلك سوف تتعافى العديد من اقتصاديات أمريكا اللاتينية مثل البرازيل والأرجنتين وتشيلي وبلدان أخرى، حيث قامت هذه الدول بإصلاحات جذرية في بنية اقتصادياتها وكذلك واكبت التطورات في التقنية بل ان بعضها أصبح من البلدان المصنعة لأجهزة الكمبيوتر وبرامج الحاسبات الآلية وغيرها من منتجات الـ SOFT WARE .

هناك البلدان الإفريقية التي ربما واجهت صعوبات جسيمة في استيعاب التطورات الجديدة سواء كانت الاقتصادية أو التقنية. وهذه البلدان عانت بعض منها أو مازالت تعاني ويلات الحروب الأهلية والانقسامات الاثنية، ناهيك عن تراكم الديون الصعبة عليها، التي لا بد من أدائها للعالم الخارجي، يضاف إلى ذلك تخلف الأداء الاقتصادي، وترهل الإدارة السياسية وفسادها.. ولذلك قد يستغرق استيعاب المتغيرات وقتا طويلا، اللهم إلا إذا حفزت هذه التحديات قيام أنظمة سياسية واقتصادية متمكنة وقادرة على معالجة كل المعوقات في هذه القارة التي تتمتع بخيرات وإمكانات طبيعية لا نظير لها..

ماذا عن الدول العربية؟

البلدان العربية تتميز بإمكانات اقتصادية وبشرية أفضل من واقع الحال في إفريقيا جنوب الصحراء، ولكنها أضعف من حيث التكوينات الاقتصادية والإدارية والتطورات التقنية عن بلدان شرق آسيا أو أمريكا اللاتينية الرئيسية، كما أنها تعاني اختلالات في البنية السياسية واستغلال الموارد الطبيعية والبشرية.. وليس هناك أفضل من أمثلة استخدام موارد الثروة النفطية في سنوات الطفرة للتدليل على عدم الحذاقة وعدم التبصر في استخدام الأموال والثروة.. كذلك تعاني البلدان العربية اختلالات موضوعية تتمثل في فقر البلدان ذات الكثافة السكانية العالية، وانخفاض عدد السكان الأصليين في البلدان التي تتمتع بثروة بترولية مهمة.. وكذلك عانت الدول العربية وما زالت تعاني عدم توافر سياسات تهدف إلى التنسيق بين المؤسسات الاقتصادية وتحقيق تعاون إقليمي وعربي ينتج عنه المزيد من التفاعل ثم التكامل الاقتصادي.. وبالرغم من الاتفاقات التي عقدت على مستوى الجامعة العربية ومن خلال لجانها ومؤسساتها الاقتصادية التابعة، فإنه لم يتحقق حتى الآن تعاون اقتصادي عربي يرقى إلى مستوى الطموحات التي طرحت منذ منتصف القرن الحالي. وبعد توقيع اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية في عام 1964 مازالت التجارة البينية بين الدول العربية لا تمثل إلا نسبة متواضعة من حجم التجارة بين الدول العربية وبقية دول العالم.

وكما هو معلوم فإن النفط يمثل العنصر الأكثر فعالية في الاقتصادات العربية، سواء كان ذلك في الدول المنتجة للنفط مثل السعودية والكويت والامارات والعراق وغيرها، أو في البلدان الأخرى التي لا تعتبر من الدول التي تعتمد على النفط بصفة رئيسية مثل مصر والمغرب وتونس والسودان واليمن وسوريا إلخ... ذلك أن النفط أصبح محورا للحياة الاقتصادية من خلال الاعتماد المباشر على موارده في الدول المنتجة أو من خلال الاعتماد غير المباشر على تحويلات العاملين في الدول النفطية أو الدعم الاقتصادي والمساعدات والقروض ونتائج السياحة التي تتلقاها الدول العربية غير النفطية من خلال علاقاتها بالدول العربية المنتجة للنفط. وهكذا أصبحت اقتصاديات النفط من أهم المؤثرات على الأداء الاقتصادي في كل الدول العربية بحيث بات مؤشر سعر برميل النفط من أهم المؤشرات التي يتم بحثها من قبل المعنيين باقتصاديات الوطن العربي. ودون ريب فإن التطورات الاقتصادية الدولية ونتائج الاتفاقات التجارية سوف تؤثر بأشكال مختلفة على دور النفط في الاقتصاد الدولي..

وقد تستفيد الدول العربية المنتجة للنفط من المزايا النسبية ورخص تكاليف إنتاج النفط الخام لديها من كسب المزيد من الأسواق في ظل العلاقات التجارية الجديدة. كذلك يمكن للدول العربية الاستفادة من اتفاقيات الجات لفتح المزيد من الأسواق أمام منتجات النفط المكررة، أو منتجات صناعات البتروكيماويات بالرغم من أن الاتفاقات المذكورة لا تغطيها ولا تمنحها ميزات واضحة.. بيد أن تطوير هذه الاتفاقات بعد البدء في التطبيق لا بد أن يسمح للدول العربية بالاستفادة من توجهات كسر القيود وفتح الأسواق وإلغاء الحمائية في الأنظمة الجمركية السائدة في الوقت الراهن في العديد من الدول وقد تتطلب المسألة أن تقوم الحكومات العربية ومنظمات رجال الأعمال والغرف التجارية والصناعية في الدول العربية بزيادة فاعلية المفاوضات مع بقية الدول ومع منظمة التجارة الدولية لتحسين فرص النجاح أمام سلعها ومنتجاتها في الأسواق العالمية، خصوصا في الدول الصناعية.. ولا يقتصر الأمر على السلع والمنتجات الصناعية والزراعية أو المعدنية، بل إن هناك إمكانات أمام قطاع الخدمات للتغلغل في العديد من الأسواق.. ومن أهم الأنشطة الخدمية قطاع البنوك وشركات الاستثمار حيث إن هناك العديد من هذه المؤسسات العربية التي لا بد أن يكون لها وجود في مختلف الأسواق الدولية لزيادة حجم الأعمال وتحسين الأداء، وزيادة هامش الربحية لديها وبطبيعة الحال سوف تطالب الدول الصناعية، خصوصا الأوربية، بمعاملة مؤسساتها بالمثل في الدول العربية، وإفساح المجال أمام بنوكها ومؤسساتها المالية للعمل في هذه الدول.. هناك تردد في الدول العربية، أو بعضها على الأقل، لإفساح المجال أمام هذه المؤسسات لمنافسة مؤسساتها الوطنية خوفا من تدهور أعمالها أمام منافسة مؤسسات عملاقة وذات إمكانات مالية وتقنية وبشرية متطورة، لكن هذا التردد قد يؤدي إلى عدم تحفيز المؤسسات العربية على معالجة أوضاعها وتطوير قدراتها وإفساح المجال أمامها في أسواق كبيرة.. ولذلك لا بد من وقف التردد والوثوب بالعمل نحو الأفضل وكذلك التعامل مع المؤسسات الدولية بإيجابية وإفساح المجال أمامها لتقديم خدمات أفضل للمستهلكين في البلدان العربية.

أهمية التحولات المؤسسية

ولا يتوقف تطوير العمل الاقتصادي العربي، في ظل بيئة من التحديات الدولية، على الانفتاح على التطورات الاقتصادية الدولية والتجاوب مع الاتفاقات التجارية المعاصرة مثل اتفاقية الجات، بل أن المطلوب هو تطوير البيئات الاقتصادية العربية نفسها وجعلها أكثر قدرة على استيعاب المستجدات .. ومن أهم الأمور التي تستدعي المعالجة هو تحديث الإدارات الاقتصادية ورفع الكفاءة بحيث تصبح تلك الإدارات متوافقة مع ما هو جاري العمل به في العالم المتقدم.. وكما هو معلوم فإن الإدارة الاقتصادية قد أصبحت علما مستقلا منذ أمد طويل، لكن الاستفادة من هذا العلم في الدول النامية، والدول العربية منها، ما زالت محدودة فالتعيينات في المواقع والمناصب المتعلقة بالمؤسسات الاقتصادية تتم على أسس موضوعية، حيث الاختيارات لهذه المناصب مرتبطة بالولاء السياسي أو العلاقات الاجتماعية والأسرية.. ولقد أدت النزعة نحو الاقتصادات الموجهة سواء في الدول التي تعرضت لانقلابات عسكرية، أو في الدول التي حباها الله بثروة النفط مما وسع من قطاع رأسمالية الدولة، أدت هذه النزعة إلى هيمنة البيروقراطية على المقاليد الاقتصادية وإفراغ الإدارة من المحتوى النفسي والمهني.. ولذلك أبعدت العناصر الأكثر كفاءة، وأصبحت المؤسسات تسير بمعايير لا تمت للإدارة الاقتصادية بصلة..

الإدارة والبشر

إن هناك شوطا طويلاً حتى نستطيع اللحاق بالعصر الحديث وقيمه.. ولا شك أن من أهم العناصر التي ستعجل باللحاق بالعصر، تطوير أنظمة التعليم والارتقاء بالتعليم العالي والمهني لكي تكون مخرجات التعليم متمكنة من العمل في مختلف القطاعات الاقتصادية بدرجة من الكفاءة تضاهي ما هو موجود، على الأقل في دول أمريكا اللاتينية. أن الاعتماد على الثروة، والثروة النفطية فقط، سوف لن يسمح للعرب بتطوير الإمكانات الكافية لديهم وسوف يزيد من حالة الاتكالية لدى الحكومات والشعوب.. وعلينا الإقرار بأن التطوير اللازم لمواجهة العصر وتحديات يتطلب معالجة الاختلالات المؤسسية والإدارية، ودعم الجهود الهادفة لتعظيم قدرات الأفراد.

من جانب آخر لا بد من العمل لتأكيد دور القطاع الخاص في التنمية وإدارة المؤسسات الاقتصادية.. ولا شك أن على القطاع الخاص أن يزيد مبادراته ويعمق دوره في الحياة الاقتصادية ويتخلص من نزعة الاتكالية التي سادت في العديد من البلدان العربية، بالرغم من تفاوت أنظمتها السياسية والاجتماعية.. وكذلك لا بد أن يقوم القطاع الخاص بتوظيف أمواله في البلدان العربية وخصوصا تلك التي تعمل حثيثا من أجل إصلاح هياكلها وأنظمتها وتطوير قوانين الاستثمار فيها. ودون ريب فان القطاع الخاص يمكن أن يلعب دورا مهما في تعزيز القدرات الاقتصادية في الكثير من البلدان العربية لمواجهة التحديات الاقتصادية.

إذن فان خلاصة الحديث أن أمام العرب شبكة من العناصر الواجب معالجتها في سبيل الارتقاء بالأوضاع الاقتصادية حتى يمكن تحقيق القدرة على مواجهة العصر والتطورات الاقتصادية الجديدة. ومن الطبيعي أن وجود أنظمة سياسية تعتمد الديمقراطية منهجا لا بد أن يساهم في معالجة كل الاختلالات الاقتصادية التي سبق الإشارة إليها بأساليب موضوعية ودون حرج يذكر.

 

عامر ذياب التميمي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات