أندلسيات..

أندلسيات.. "جاك بيرك"

لم يكن "جاك بيرك" أستاذا أكاديميا منغلقا، بل كان منفتحا على العصر بكل منجزاته الفكرية والعلمية.وكان على علمه العميق الغزير أقرب إلى روح الشاعر البالغ الرقة، الأمر الذي كان يؤهله لتأسيس مدرسة اجتماعية علمية جديدة تتجاوز مرحلة الاستشراق التقليدية.

منذ لقائنا الأول عام 1952 في القاهرة، أي منذ ما يقرب من خمسة وأربعين عاماً، ما انقطعت صلتي بجاك بيرك. وفي تلك السنة، التقينا لقاء المصادفة. كنت أسكن في نفس العمارة التي يحتل "المركز الثقافي الفرنسي" آنذاك الطابق الأول فيها. وهناك التقينا. قدّمت له بحثا كتبته في بداية ذلك العام عن "السيبرنيطيقا". وحدثني هو عن تجربة علمية اجتماعية كان يقوم بها في "سرس الليان"، لعلها التجربة التي سجلها بعد ذلك في كتابه "دراسة عن التاريخ الاجتماعي لقرية مصرية في القرن العشرين". وافترقنا لنتبادل بعد ذلك ما نكتب. على أنني عندما غادرت مصر إلى أكسفورد عام 1973، حرص هو على أن يتصل بي هناك، وأن يدعوني إلى باريس حيث كان أستاذا في "الكوليج دي فرانس" منذ عام 1956. ومنذ عام 1975 حتى عام 1983، ما انقطع لقاؤنا مرة في الأسبوع على الأقل طوال فترة "السيمينير" الذي كان يقيمه في "الكوليج دي فرانس" أسبوعيا. وكنت أحرص على حضوره، فضلا عن حضور أنشطته الثقافية الأخرى المتعددة. وكان هذا "السيمينير" حلقة بحث يتحلق فيها حوله عدد كبير من الطلبة والباحثين العرب من مختلف البلاد العربية، فضلا عن الطلبة الفرنسيين، والطلبة من جنسيات أخرى. وما أسهل الحديث عن جاك بيرك الأستاذ العالم الباحث الذي كان يؤسس مدرسة اجتماعية علمية جديدة في الدراسات الإسلامية تتجاوز مرحلة الاستشراق ومفاهيمها ومناهجها. أما الحديث الصعب حقا، فهو الحديث عن جاك بيرك الإنسان. لست أغالي إن قلت إنه كان بمثابة الأب الروحي بل والعملي لمختلف طلبته، في مختلف شئونهم العلمية والشخصية. كان على درجة رفيعة نادرة من دماثة الخلق وكرم النفس، واحترام الاختلاف، ومساعدة طلبته وخاصة المغتربين منهم.

ما حضرت بالطبع درسه الافتتاحي في "الكوليج دي فرانس"، ولكن كان لي شرف حضور درسه "الختامي" الذي أعطاه عام 1981 وهو يخرج إلى المعاش. أذكر أنه قال في بدايته: "عندما أعطيت الدرس "الافتتاحي" منذ خمس وعشرين سنة، كانت المدافع قد سكنت في السويس منذ قليل. وها هي ذي تتكلم مرة أخرى في بيروت. ويمكن أن تمتد لغتها إلى أماكن أخرى في المشرق، كما حدث ذلك من قبل أكثر من مرة".

وهكذا بدأ درسه "الختامي" مستكملا به ومعبرا فيه عن منهج دراسته طوال السنوات الماضية. كان درسه الأكاديمي العلمي مرتبطا دائما بما كان يحدث لا في المشرق العربي فحسب، بل في المغرب العربي والبلاد الإسلامية عامة. ولكنه لم يكن مجرد ارتباط بوقائع سياسية بقدر ما كان ربطا بين هذه الوقائع السياسية وواقع الفكر العربي الإسلامي في تراثه القديم وفي تجلياته المعاصرة. ولم يكن جاك بيرك في دروسه مجرد واصف لما يجرى ويحتدم داخل هذه البلاد العربية الإسلامية، أو مجرد محلل علميّ لها، بل كان إلى جانب ذلك يكاد يوحي بالتعاطف معها، والمشاركة الحميمة في البحث عن حلول لمشاكلها، وفي التصديّ لما تواجهه من تحديات. لم يكن العالم العربي الإسلامي مجرد موضوع للدراسة، بل كان عنده هما فكريا ووجدانيا كذلك. ولعل أبرز ما كان يميز هذا الهم هو ربطه بين ماضي هذا العالم وحاضره في إطار العصر الراهن، فضلا عن معالجة هذا الهم في ضوء مفاهيم عقلانية تنتسب إلى العلوم الاجتماعية في الوقت نفسه مع خصوصية هذا العالم العربي الإسلامي. ولم يكن هناك في ذلك الحين - في الخمسينيات - علم اجتماع متخصص في دراسة البلاد العربية أو بلدان الشرق عامة. وكانت هذه البلدان العربية والشرقية - في معظمها - قد تخلَّصت من السيطرة الكولونيالية المباشرة، وأقامت دولها الوطنية، ولكنها - في الحقيقة - لم تكن قد تحررت من النفوذ الكولونيالي في مختلف جوانب حياتها السياسية والاقتصادية والثقافية بوجه خاص التي تعبّر عن هويتها وخصوصيتها، فلقد ظل هناك تواطؤ بين مستعمري الماضي وأنظمة الحاضر. وهكذا تفجرت الصراعات داخل هذه البلاد، ولم تعد المناهج الاستشراقية القديمة الجامدة، صالحة لدراسة هذه الظواهر المتفجرة.

وهكذا تبوأ جاك بيرك كرسيا علميا جديدا في "الكوليج دي فرانس" أطلق عليه اسم "التاريخ الاجتماعي للإسلام المعاصر". وهو يدين بهذه التسمية إلى العالمين الكبيرين "فرناند بروديل" و "إميل بنفينيست" - وهكذا أخرج الدراسات الإسلامية من إطار الاستشراق إلى مجال العلم الاجتماعي التاريخي. وأخذ يدرس مختلف الظواهر الفكرية في البلدان العربية الإسلامية في حركتها التاريخية المجتمعية، التي يلعب الدين الإسلامي فيها دوراً فاعلاً، بحيث تصبح هذه الظواهر جزءا متكاملا من التاريخ الإنساني الحضاري العام وليست شيئا هامشيا متخلفا عن هذا التاريخ، كما كانت تذهب بعض الدراسات الاستشراقية التي كان يغلب عليها طابع "التمركز الأوربي".

وهكذا لم يجد جاك بيرك في بحث العرب عن هويتهم وخصوصيتهم أي دعوة إلى الانفصال أو القطيعة عن التاريخ الإنساني الحضاري العام، وخاصة في مرحلة تخلصهم من السيطرة الكولونيالية وتطلعهم إلى الاستقلال والتحرر والإبداع الذاتي. نعم، أدرك جاك بيرك خطر الخلط بين الخصوصية والماضوية، أو بين الأصالة والانعزال. وكان الحل الذي قدمه وتبناه جاك بيرك وأقام عليه صرح دراسته هو أن تكون الهوية جزءاً يضيف إلى، ويتكامل مع، عالم إنساني واحد نسعى جميعا إلى إقامته، عالم واحد يحترم التنوع والتعدد والاختلاف. وهكذا راح جاك بيرك يتبين في التراث الفكري الإسلامي الحديث والمعاصر، في مختلف البلاد العربية والإسلامية، ما يؤكد دعواه ورؤيته. ووجد في الإسلام، وفي عدد من مفكري الإسلام، هذا التعدد والتنوع والاختلاف الذي لا يُفضي إلى فرقة أو إلى تخلف بل يقيم جسراً صاعداً ممتدا بين الإسلام والتقدم، بين الإسلام وحضارة العصر.

وعكف جاك بيرك على دراسة الفكر الإسلامي القديم والحديث والمعاصر، بل وعلى إعادة قراءة القرآن بالذات كنص مقدس وكقرآن حي معيش - على حد تعبيره - ينصت إليه الملايين من البشر، ويشكل قاعدة مشتركة للتفاهم والتواصل والتبادل الثقافي بين عشرات الشعوب، هذا في جانب دراسات جاك بيرك وكتبه العلمية العديدة لجوانب مختلفة في الفكر والمجتمعات العربية والإسلامية، وما يحتدم فيها من قضايا وما يواجهها من مشكلات وتحديات. ومن أبرز هذه الكتب "العرب بين الأمس واليوم" ، و"الإسلام في مواجهة التحدي"، و "مصر، إمبريالية وثورة" و"عربيات" [وهو حوار طويل حول بعض مفاهيمه وبعض علاقاته وتجاربه].

ولقد عكف جاك بيرك في السنوات الأخيرة، بعد خروجه إلى "المعاش" على تقديم نص فرنسي للقرآن يختلف كل الاختلاف عن النصوص الفرنسية السابقة. وقد عاصرتُ مراحل عديدة من هذه الترجمة التي تفرغ لها في قرية "سان جوليان أنْ بورن" وكانت زوجته الإيطالية "جوليا" التي تنتسب إلى الأسرة المالكة الإيطالية، تقوم بكتابتها على الآلة الكاتبة. على أنها لم تكن - في الحقيقة - مجرد ترجمة بل هي مركب من ترجمة وتفسير، أو هي ترجمة تفسيرية في ضوء رؤية عميقة شاملة للنص القرآني وللتراث الإسلامي عامة، تقوم على فهم إنساني عقلاني تقدمي للقرآن. ولعل هذا هو ما أثار زوبعة حول هذه الترجمة من جانب أصحاب الرؤى النصية المسطحة. وهذه الترجمة زاخرة بالهوامش التوضيحية فضلا عن خاتمتها التي وضح فيها منهجه في الترجمة وما صادفه من مشكلات، إلى جانب رؤيته الشاملة لدلالة النص القرآني - ولعل جاك بيرك تنبأ بما سوف تتعرض له ترجمته هذه التي هي ثمرة عمره العملي كله. فقد كان يميز بين النزعات الجامدة المتعصبة في فهم الدين الإسلامي وفي تطبيقه، التي تدين وترفض الاجتهاد والتجديد، وبين من حملوا رايات التجديد مثل محمد عبده وإقبال وأبو الكلام أزاد ومحمد المبارك الشيخ صبحي الصالح وعلى شريعاتي (الذي كان يواظب على حضور "سيمينير" جاك بيرك في الكوليج دي فرانس) ويذكر أيضا حسن حنفي.

من المقدس إلى التاريخي

ونستطيع أن نتبين مرحلتين في فكر جاك بيرك: مرحلة أولى كان يتصور فيها أن العرب ينتقلون من المقدس إلى التاريخي، ثم مرحلة ثانية مضادة للمرحلة السابقة، اكتشف فيها أن هذه الشعوب العربية تمتلئ بالدينيّ بمستويات جديدة. وأنها يمكن أن تتفتح بالديني على حقائق العصر وأن تكون ذات طاقة فاعلة للمقاومة والمبادرة. وقد ربط تطور الشعوب العربية بأمور ثلاثة هي: المشروع التكنولوجي، والدعم والتطوير الثقافي، وأخيرا إعادة البناء الاجتماعي والسياسي. وفضلا عن هذا كان يؤكد أنه لا سبيل إلى حل جذريّ إلا بوحدة الأمة العربية، وإن كان يدعو في الوقت نفسه إلى ضرورة اللقاء بين الشاطئ الشمالي والشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط، حيث ظهرت الأديان الثلاثة وقامت حضارتان كبيرتان. وكان يدعو أخيرا إلى تبادل وتفاعل ممكن بين إسلام التقدم واشتراكية الاختلاف. فالحوار بينهما - كما كان يقول- ممكن وضروري بشرط أن يتم على أساس من المعرفة. وتأسيسا على هذا كان يدعو إلى أندلسيات يتجدد قيامها باستمرار، وتجتمع بها في نفوسنا تراكمات الماضي وآمال المستقبل. ولهذا أطلق على درسه "الختامي" اسم "أندلسيات". هذه بعض ملامح جاك بيرك، العالم الفرنسي الجليل، وعضو المجمع اللغوي في مصر، والصديق الصدوق للعرب وللتراث العربي الإسلامي، والمتطلع إلى تقدم الأمة العربية، الذي كان يقف دائما إلى جانب شعوب الأمة العربية في نضالها ضد التخلف والاستعمار.

تحية لذكراه، وما أجدرنا - سواء اتفقنا أو اختلفنا مع أطروحاته الفكرية - أن نعمل على ترجمة كتبه إلى العربية، فهي تخاطبنا وتتحاور معنا أكثر مما تتخاطب مع قارئه الفرنسي.

 

محمود أمين العالم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




جاك بيرك