قضية: مطارحات لغوية عبدالرزاق البصير

حوار مع د. أحمد علبي

ما زالت قضية نشأة اللغة تثير العديد من الأسئلة.. هل نشأت بتأثير البيئة والمناخ؟، أم بسبب عوامل غامضة عجز العلماء عن تحديدها؟. إن كاتب المقال يواصل الحوار حول هذا الموضوع المهم الذي بدأه الدكتور أحمد علبي في عدد مايو الماضي بمقاله " الأساس الاجتماعي للغة".

يتمنى الكثيرون أن يكونوا من الذين يجيدون التحدث بلغة أجنبية أو أكثر إجادة تمكنهم من قراءة اللغة الأجنبية كقراءة اللغة العربية، بل إنهم يستطيعون أن يقرأوا اللغة الأجنبية بصورة فورية بحيث لا تدري إن كانت تلك الصحف أو الكتب كتبت باللغة العربية أو الأجنبية.

ولقد أصبحت هذه القدرة مهنة تدر خيرا، كثيرا لأصحابها وقد قيل: " من عرف لسان قوم أمن شرهم "، ذلك ما كان يقال في العصور القديمة، أما في عصرنا الحاضر فإنه ينبغي أن يقال: " من عرف لسان قوم ازدادت ثقافته ثروة على ثروة "، وبذلك يزداد تقديرا عند الناس، فإن إجادة اللغات الأجنبية بهذه الصورة لا يظفر بها الإنسان إلا بعد جهد شديد، بل إنها ربما تحتاج إلى موهبة طبيعية. لهذا نتمنى أن يكون الخبر الذي رواه الأخ المذيع (محمد الدريع) في برنامجه في إذاعة الكويت " ساعة لكل الناس "، أقول: أتمنى أن يكون هذا الخبر حقيقيا، لا أن يكون من خيال المتخيلين. ومؤدى هذا الخبر أن " أحد الهولنديين سقط على رأسه من مرتفع شاهق فنقل من ساعته إلى المستشفى وهو في حالة إغماء، وحينما أفاق من إغماءته بعد ساعات وجد نفسه يتكلم بعدة لغات، بل وجد نفسه يعرف تاريخ أطبائه وممرضيه دون أن تكون له بهم معرفة سابقة، فقد حدثهم عن آبائهم وأجدادهم بالإضافة إلى إجادته للغات أجنبية كثيرة".

ومن المحقق أننا لو نعرف المنطقة التي في الدماغ، والتي تحدث صدمتها ما حدث لذلك الهولندي لألقى الكثيرون بأنفسهم على رءوسهم من مرتفعات شاهقة لتكون لديهم هذه القدرة المحببة إلى النفوس.

اللغة والمناخ

هذه مقدمة أصل منها لمناقشة رأي لغوي نشره د.. أحمد عُلبي في مجلة " العربي " عدد مايو 1992 م. حيث يقول: ( إذا ما تتبع المرء العبارات الشائعة في لغة ما يجد أنها نتاج أوضاع اجتماعية وجغرافية وثقافية عاشتها هذه اللغة في محيطها الذي شاعت فيه، مما يعني أن اللغة لصيقة بالحياة وبحركة المجتمع وبالنشاط الاقتصادي للإنسان. من الشائع في العربية أن تقول لأحدهم متمنيا له الطمأنينة والسرور: أثلج الله صدرك. وقد أثلج صدري خبر وارد، أي جلب لي الشفاء. وثلجت نفسي به أو إليه أي وجدت الراحة والطمأنينة وسكن قلبي إليه ووثقت نفسي به. ولكن هذا التمني المثلج انبثق من محيط حار في الجزيرة العربية، وهو يتفق والمناخ الصحراوي ويعبر عن هذا التوق الملهوف إلى البرودة وعما يرطب الصدر الذي يزفر أنفاسا حرى. ونخال أن هذا الدعاء للمرء ينقلب دعاء عليه في بيئة تعمر بالبرد والثلوج، ولكان من المفترض أن تغدو الصيغة على نحو عكسي، كأن نقول: أسخن الله صدرك، لأن النار والحرارة والدفء هي ما تتشوق إليه النفس المقرورة، في حين أن في كلام العرب: (أسخن الله عينه) أي أبكاها من الحزن بدموع حارة مشتقا من السخون، أي الماء الحار. فكل ما هو حار في بيئة العرب الأوائل يسخط ويبكي ولا يشير البتة إلى اغتباط وحبور ).

ويأتي نقاشي مع د. أحمد علبي في هذا الرأي من وجهين، أحدهما: أن الجزيرة العربية لا تكون حرارتها في درجة واحدة، فاليمن تختلف درجة حرارتها عن الحجاز، والحجاز تختلف بقاعه في درجة حارتها، فالمدينة المنورة غير مكة المشرفة، ويقال مثل ذلك عن الطائف وما جاورها من البلاد. هذه من جهة ومن جهة أخرى فإن الإنسان يشعر بما يشبه النار في باطنه حين يقع له حادث مؤلم كفقد عزيز عليه أو اعتداء على وطنه. من هذا يتضح أن قول العرب " أثلج الله صدرك " جاء معبرا، تعبيرا، حقيقيا عن الحالة النفسية المزعجة التي تصيبه حين يقع في مأساة.

نشأة اللغة

أما الوجه الثاني: فإن مفردات اللغة لا تسير حسب المنطق لأن مفردات اللغة تنشأ عن عوامل عجز العلماء عن تحديدها، لذلك تجد لكثير من المفردات معاني مختلفة مما أنشأ مصطلحا عند علماء الأصول سموه ب ( الاشتراك اللفظي ) وأنا أورد قليلا منه من باب التفكه، وذلك أني أعتقد بأن الأستاذ أحمد علبي يعرف ما ألمحت إليه حق المعرفة.

يقول أبوالطيب اللغوي في كتابه (شجرة الدر):

إن السد: سحابة تسد الغزالة، والغزالة اسم للشمس، والغزالة: الظبية، والظبية: كيس من أدم. ويقول أيضا: النجو: الارتفاع من الأرض، والأرض: القشعريرة، والقشعريرة: بدء يبس الكلأ.

ويورد أن: الخبء من أسماء المجنون، والخبء: الغمام، في قوله تعالى: ( يخرج الخبء في السموات والأرض ) والغمام: جمع غمامة وهي لفظة تطلق على السحاب، وعلى قطعة تجعل على أنف البعير لئلا يشم.

وهناك نوع آخر من مفردات اللغة تتغير معانيها بمجرد دخول الفتح أو الضم أو الكسر، كلفظة (البر).

فهي بالفتح ضد البحر وبالضم الحنطة، فإن من بين زكاة الفطر ( صاعا من بر ) أما بالكسر فإن لها أكثر من معنى، فالبر بالكسر: الإكرام واللطف، وبهما فسر قول العرب ما يعرف هرا من بر، قيل الهر العقوق والبر اللطف وقيل الهر القط والبر الفأرة وقيل الهر وعاء الغنم والبر سوقها وقيل الهر دعاؤها إلى الماء والبر دعاؤها إلى العلف.

ويقال مثل ذلك في لفظة ( جدة ) فهي بالفتح تطلق على أم الأم وأم الأب، أما بالكسر فإنها تطلق على شباب الرجل وبالكسر والضم شاطئ النهر وبالضم فقط مدينة معروفة بالحجاز وإذا قلت: ( جذع ) بالفتح فإنه يعني حبس البهيمة من غير إطعام لها وأما بالكسر فإنها تعني ساق الشجرة، وربما يطلق على كل ساق، أما بالضم فإنه يعني سقوط الثنايا من الإنسان وغيره.

تباين معاني بعض المفردات

هناك نوع ثالث من اللغة وهو ما عرف عند علماء اللغة ب ( الأضداد ). وهو نوع واسع ألف فيه بعض العلماء كتبا أطلقوا عليها " الأضداد "، كالأصمعي والسجستاني وابن السكيت والصاغاني. وللعلماء كلام كثير حول الأضداد ليس هنا مجال تفصيله.

فمن الأضداد ما حكاه محمد بن القاسم الأنباري في كتابه ( الأضداد - صفحة 176 ) من أن لفظة (تصدق) تطلق على العطاء، وهو معروف عند الناس، كما تطلق على السؤال وهو القليل في كلامهم. وأورد شاهدا على ذلك قول بعض الشعراء:

لا ألفينك ثاويا في غربة

إن الغريب بكل سهم يرشق

إن الغريب بكل سهم يرشق

بالجد يرزق منهم من يرزق

ولو أنهم رزقوا على أقدارهم

ولو أنهم رزقوا على أقدارهم

ما الناس إلا عاملان فعامل

ما الناس إلا عاملان فعامل

والشاهد هو البيت الثالث، فالشاعر يقول: لو أن رزق الناس يأتي على أقدارهم لرأيت أكثرهم محتاجا يسأل الآخرين.

ومن الأضداد إطلاقهم لفظة (الجون) على الأبيض والأسود، ولفظة ( الجلل ) تطلق على الحقير والعظيم وكل ما ذكرناه يدل على ما قدمنا من أن نشأة اللغة تعتمد على عوامل كثيرة منها ما هو معروف لدى العلماء ومنها ما هو مجهول لديهم، ذلك أن اللغة من خصائص الإنسان، ونحن نعرف ما يطرأ على الإنسان من تقلبات كثيرة في حياته.

وبعد: فقد كتبت هذه الكلمة قاصدا بها مفاكهة لبعض العلماء الذين يتصورون أن اللغة تسير حسب المنطق الصارم الذي يقع في التصور والتوقع!.