مرضى السكر... علاجهم في جعبة المستقبل

مرضى السكر... علاجهم في جعبة المستقبل

الداء السكري بأنواعه وأنماطه يشكّل تهديداً حقيقياً للمصاب, فعواقبه ليست محمودة, بل وسيئة أيضاً مالم يلتزم المريض بالمراقبة والعلاج, ونظراً لخطورة هذا المرض, فإن الأبحاث الطبية تتوالى من أجل علاج أكثر فعالية وأخف وطأة, فبعد اكتشاف الأنسولين, استنفرت المخابر الطبية من أجل صنع لصّاقة جلدية تزوّد المريض بالأنسولين حيناً, ثم بدا الأمل كبيراً في زراعة البنكرياس, ولاحت في الأفق بشائر المعالجة الوراثية.

لايزال الداء السكري من أكثر الأمراض المزمنة شيوعاً, ومن الأسباب الرئيسية المؤدية إلى فقدان البصر وقصور الكليتين وأمراض القلب الإكليلية وعلل الشرايين وموتان الأطراف.

كان تشخيص الداء السكري يعدّ بمنزلة حكم الإعدام على المصاب به إلى أن كشف العالمان Best و Banting هرمون الأنسولين Insulin المفرز من البنكرياس (المعثكلة) في مطلع العشرينيات من القرن الفائت. وقد هلّل الناس للأنسولين ظنّاً بأنه شفاء لهذا الداء المزمن. ولكن تبيّن أن الأنسولين ليس إلا علاجاً عرضياً يحوّل الداء السكري من داء مميت إلى داء مزمن. على الرغم من ذلك يبدو علاج هذا المرض حالياً في تطور مستمر بغية الوصول إلى هدف واحد ألا وهو الشفاء الكامل منه. فهل ذلك ممكن?

لابد لنا قبل الدخول في تفاصيل علاج الداء السكري من أن نقدم فكرة عن هذا المرض. يقسم الداء السكري إلى نمطين رئيسيين:

1- النمط الأول Type 1: هو ما كان يدعى سابقاً الداء السكري المعتمد على الأنسولين أو الداء السكري الشبابي ويصيب غالباً الأطفال والشباب في مقتبل العمر, ويكون المريض غالباً نحيلاً. وسبب هذا المرض هو عوز الأنسولين شبه الكامل أي أن الجسم يصبح خالياً من الأنسولين وبذلك يجب إعاضته.

2- النمط الثاني Type2: وهو ما كان يدعى سابقاً الداء السكري غير المعتمد على الأنسولين أو الداء السكري الكهلي. ويصيب غالباً الكهول وأحياناً الشباب مفرطي البدانة. ويرتبط هذا النمط بزيادة الوزن المفرطة. والآلية فيه متنوعة ومتعددة. فبعض المرضى يكون لديهم مقاومة تجاه هرمون الانسولين أي أن الجسم لايزال محتوياً على الهرمون ولكن الخلايا غير قادرة على استعماله على حين أن مرضى آخرين يكون لديهم عوز في بعض المستقبلات Receptors الخلوية التي تتحكم بعمل الانسولين. وهناك أشكال متنوعة وكثيرة من هذا النمط الذي يمكن معالجته مبدئياً بخافضات السكر الفموية مع أو دون الأنسولين.

وهناك أنماط أخرى منها الداء السكري الثانوي لأمراض البنكرياس مثل الداء الليفي الكيسي Cystic Fibrosis وأدواء السكري الناجمة عن تشوهات البنكرياس الخلقية وبعض الأمراض الخمجية والاستقلابية والوراثية وبعض أنواع السموم. كذلك هناك أشكال مختلفة للداء السكري أثناء الحمل واضطرابات تحمّل السكر المؤهبّة لهذا الداء في المستقبل.

ملامح مستقبلية: تشتمل هذه الملامح على الأمور الآتية:

1- المعالجة المشددة للداء السكري ومضخة الأنسولين.

2- تكريس التكنولوجيا في خدمة الداء السكري.

3- المعالجة المناعية.

4- الهندسة الوراثية.

5- زراعة البنكرياس أو خلايا بيتا (B) المعزولة المفرزة للأنسولين, وكذلك زراعة خلايا الأجنّة.

1- المعالجة المشددة:

باشر معهد الصحة الوطني في الولايات المتحدة في عام 1982 تجربة طبية رائدة أطلق عليها اسم تجربة ضبط الداء السكري واختلاطها وذلك في 29 مركزاً صحياً في مختلف أنحاء الولايات المتحدة. وقد تمّ استقصاء أكثر من 7000 مريض فُرز منهم 1441 نفراً بأعمار تبدأ من سن المراهقة وبمراحل متفاوتة من المرض واختلاطاته. قُسم المشاركون أقساماً متعددة تنضوي في فئتين رئيسيتين:

فئة عولجت معالجة مكثفة بالأنسولين بوساطة حقن متكررة خلال النهار الواحد أو باستخدام مضخة خاصة لحقن الأنسولين بشكل مستمر تحت الجلد مع مناظرة حثيثة وتفقّد متواتر لمستويات سكر الدم من أجل بقائها ضمن الحدود الطبيعية.

أما الفئة الثانية فأبقيت على الطريقة التقليدية غير المكثفة التي لا تتضمن ما سبق إذ لم يطلب إلى المرضى تكثيف معالجتهم. انتهت هذه الدراسة في عام 1993 وكانت نتائجها مذهلة ودامغة جعلت منها مرجعاً رئيسياً في معالجة الداء السكري. لقد وُجد أن المعالجة المكثفة للداء السكري قادرة على تأخير اختلاطاته ومنعها كإسقام شبكية العين وأمراض الكليتين وعلل الشرايين وهذا ما أذهل الباحثين الذين كانوا يؤمنون بالفكرة السائدة وهي أن اختلاطات الداء السكري لا يمكن منعها وعكسها ولا تحسينها متى بدأت. وقد ذهب البعض الى استنتاج أن المعالجة المشددّة المكثفة للداء قادرة على إطالة عمر المصاب وتحسين نمط حياته.

تضمنت المعالجة المكثفة للداء السكري ما يلي:

أ- مناظرة مستمرة وتفقّد متتابع لمستوى سكر الدم أربع مرات على الأقل في اليوم قبل الطعام خاصة.

ب - عدم إهمال أي جرعة علاجية من الأنسولين وحقن الأنسولين ثلاث مرات أو أربعاً في اليوم عوضاً عن مرة أو مرتين, أو إعطاء الأنسولين بشكل مستمر بوساطة مضخة يحملها المريض على شكل دائم توصل الأنسولين إليه عبر إبرة تحت الجلد.

ج - زيارات مكثفة للطبيب وحوار دائم مع الأطباء والممرضات لمناظرة مستويات السكر وتفقدها أظهرت هذه الدراسة أيضاً الدور المهم الذي سوف تلعبه مضخة الأنسولين في المستقبل لأنها قادرة على معالجة المرضى معالجة مكثفة. وكثير من الدراسات أثبتت أن للمضخة فائدة كبيرة لاسيما لدى المراهقين والمراهقات الذين قد يخجلون اجتماعياً من استعمال المحقنة التقليدية للأنسولين فيهملون معالجة أنفسهم على حين أن استخدام المضخة يجعلهم يظهرون بمظهر الشخص المتقدم تكنولوجيا وبالتالي فإنهم يحبّذون استعمالها.كانت مضخات الأنسولين أول ما صنعت كبيرة الحجم معقدة الاستعمال لكنها أصبحت حالياً صغيرة الحجم لا يتجاوز حجمها حجم الكف, وسهلة الاستعمال وشديدة التطور. المشكلة الوحيدة أنها لاتزال غالية الثمن إلا أن معظم شركات التأمين الصحي في الولايات المتحدة تحبّذ استعمالها عند الأطفال والمراهقين لأنها تخفض من كلفة زياراتهم للمشافي وعيادات الطوارئ ولأنها تحقق ضبطاً أفضل لسكر الدم.

2- التكنولوجيا والسكري:

لاتزال المحاولات جارية لصنع لصاقة جلدية تزوّد المريض بالأنسولين استغناءً عن الحقن, إذ إن استعمال الحقن المستمر صعب نفسياً لدى الأطفال الذين يخافون الإبر بشكل عام ولدى المراهقين الذين لا يحبّون الظهور بمظهر المرضى أمام رفاقهم وأصدقائهم. المشكلة الأساسية في لصاقة الأنسولين هي عدم القدرة على التحكم بالجرعة. وتدّعي إحدى الشركات الأمريكية حالياً أن لصاقة الأنسولين ستشاهد في الأسواق قريباً. كذلك يحاول الباحثون تغيير شكل الأنسولين الجزيئي والعمل على إعطائه رذاذاً بطريق الأنف أو شراباً بطريق الفم إلا أن هذه المحاولات لاتزال في البداية.

الخبر المهم في مناطرة سكر الدم هو اختراع جهاز شبه ساعة اليد يوضع عن المعصم ويستطيع بالتحليل الطيفي لسكر الدم على طريق استخدام أشعة مشابهة للأشعة تحت الحمراء قراءة سكر الدم من دون الحاجة إلى وخز الجلد. هذه الساعة تنتظر موافقة الأجهزة المعنية في الولايات التحدة قبل أن تطرح في الأسواق ولسوف تحدث ثورة في مجال مراقبة سكرالدم لأنها تغني عن استخدام واخزات الجلد وعن التعامل مع الدم الناجم عن الوخز وهي أمور يكرهها المرضى عامة والأطفال خاصة.

3- المعالجة المناعية:

تعد النظرية المناعية في أمراض الداء السكري من أقوى النظريات السائدة حتى الآن.

ومن المؤسف أنه لا يُعرف بالضبط لم يفقد الجسم قدرته على تمييز ذاته فيشن حرباً مناعية على نفسه منتجا

ما يسمى بالأضداد التي تهاجم الخلايا المفرزة للأنسولين في البنكرياس فتعطبها وتخرّبها. ومتى تخرب أكثر من 90% من هذه الخلايا ظهر الداء السكري علناً. هناك عدة أنواع لهذه الأضداد المخربة وظهورها في الجسم يعني أن هناك احتمالاً عالياً للإصابة بالداء في المستقبل لاسيما نمطه الأول الذي تحدثنا عنه آنفاً. إذن هناك ارتكاس مناعي مساير لداء السكري فكيف يمكن السيطرة عليه?

جرّبت أدوية المناعة المختلفة ابتداء من أدوية الالتهابات وانتهاء بأدوية السرطانات التي نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر: FK605 و Azathioprine و Cyclosporin بالإضافة إلى الستيروئيدات بغية السيطرة على العملية الارتكاسية المناعية تلك المواكبة للداء السكري إلا أن النتائج كانت مخيبة للآمال شيئاً ما لأنه حتى لو تمت السيطرة على الداء السكري فترة وجيزة, فإن المرض يعاود الظهور بعد عدة أشهر, كما أن معظم هذه الأدوية ذات تأثيرات جانبية سيئة في الجسم. بل إن بعضها قد يرفع سكر الدم أو يسيء إلى وظيفة الكليتين رغم تثبيطه تلك العملية المناعية. الدواء الذي لاتزال تعقد عليه الآمال يدعى Interferoneron وهو مشتق صنعي يماثل المركب المناعي الذي تفرزه الكريات البيض وبعض الخلايا الأخرى في الجسم دفاعاً عن أنفسها. وقد أثبت هذا الدواء قدرته على خفض الأعراض وتخفيف حاجة الجسم للأنسولين وتحسينه ما يسمى (فترة شهر العسل) وإطالة هذه الفترة التي يتحسن فيها الداء السكري تحسناً طبيعياً بعد أسابيع عدة من بدء معالجته. هذاالدواء لا يعطى حالياً إلا ضمن تجارب سريرية خاصة. ولعل له الفائدة المرجوّة في تحسين المرض.

4- المعالجة الصبغية - الوراثية:

تتلخص النظرية الوراثية في أن بعض الأشخاص يحملون استعداداً وراثياً مؤهّباً للداء السكري وسوف يصابون به إذا حفّت بهم الظروف البيئية والمناعية المسببة له. تم حديثاً كشف المورثة المسئولة عن نقل النمط الثاني Type2 من الداء السكري على الصبغي رقم 2 من صبغيات الجسم. وقد لوحظ أن لهذه المورثة دوراً كبيراً في إصابة العرق المكسيكي الأصل القاطن في الولايات المتحدة.

ولوحظ أيضاً وجود ما يسمى علامات وراثية للنمط الأول من الداء السكري على جزء من الصبغي رقم 6 من صبغيات الجسم حيث وجد أن غياب أحد الحموض الأمينية المسماة Aspartic Acid في الموضع 52 من إحدى سلاسل معقدات التوافق النسجي يؤهب الجسم لتلقي الارتكاسات المناعية المسببة لحدوث النمط الأول Type1 من الداء السكري.

هذه التفسيرات الوراثية المعقدة تطرح أفكاراً مهمة مثل احتمال استخدام المعالجة الوراثية لتقليل التأهب للداء السكري لدى الأسر التي يكثر فيها حدوث هذا المرض أو إمكان إصلاح هذه الخلل الوراثي عند الأشخاص الذين أصيبوا بالمرض وظهرت عليهم أعراضه. لاتزال هذه الاحتمالات العلاجية حبراً على ورق لصعوبة تجريبها سريرياً على المرضى ولكلفتها العالية الثمن إلا أن المستقبل يبدو مشرقاً في علاج الهندسة الوراثية لكثير من الأمراض.

5-زراعة البنكرياس وخلايا بيتا:

جرت أول محاولة لزرع البنكرياس في جامعة ولاية منيسوتا الأمريكية عام 1966 وتبعتها محاولات مختلفة في العالم بأسره. ولاتزال هذه الوسيلة مخصصة بحالات الداء السكري المستعصية على المعالجة والمترافقة بقصور كلوي نهائي حيث غالباً ما يزرع البنكرياس والكلية الجديدة معاً.

مشاكل هذه المعالجة أنها رغم قدرتها على تحسين سكر الدم والاضطراب الاستقلابي في الجسم فإنها غير قادرة على إيقاف الاختلاطات الناجمة عن الداء التي ظهرت قبل المعالجة.

ولهذه الطريقة مشاكل عمليات الزرع أيا كانت وصعوبة الحصول على متبرعين وضرورة استخدام معالجة مناعية مكثفة كيلا لا يحدث رفض للعضو المزروع, وهذه المعالجة المناعية لها تأثيرات جانبية سيئة.

قام بعض الباحثين بمحاولة زرع خلايا بيتا (B) البنكرياسية في الجسم عوضاً عن زرع البنكرياس بأكمله, إلا أن هذه المحاولات اصطدمت بصعوبة الحصول على عدد هائل من الخلايا لإتمام ذلك. والغريب في الأمر أنه يكفي للجسم أن يحتفظ بـ 10% من خلايا البنكرياس السليمة التابع له كيلا لا يحدث داء سكري على حين يتطلب زرع خلايا بيتا من شخص لآخر ألوف أضعاف هذه النسبة. ولا يعرف لذلك تفسير مقنع حتى الآن. على كل حال, لا تعتبر هذه المعالجة شافية, والبحث العلمي مستمر بغية تحسين نوع الخلايا المزروعة كيلا يرفضها جسم المتلقي. وهذا ما قاد إلى فكرة استخدام الخلايا البنكرياسية المستخلصة من الأجنّة المجهضة لأنها تكون بشكل طلائع خلايا لينة طيعة مناعياً وبإمكانها نظرياً أن تتأقلم مع جسم المتلقي. ولهذا البحث مستقبل باهر في شفاء الداء السكري إلا أن معظم حكومات العالم تضع قيوداً صعبة تلقاء استخدام الأجنة البشرية لأسباب أخلاقية واجتماعية وإنسانية. وذلك مما يجعل البحث في هذا الميدان صعب التحقيق وبعيد المنال في الوقت الحاضر.

لقد تطورت زراعة البنكرياس تطوراً مهماً خلال العقود الأربعة الماضية. ومن المؤكد أنها ستحمل يوماً ما أفكاراً جديدة لمعالجة الداء السكري.

يمثل تشخيص الداء السكري عبئاً كبيراً على المصاب وعلى أسرته. ومن المؤسف حقاً أن ترتبط صورة هذا المرض باختلاطاته المزمنة من فقدان البصر وقصور الكليتين وأمراض القلب وعلل الشرايين, ولعل كل ذلك مرتبط بضبط الداء غير المنتظم, ولا ننصح باستخدام طرق المعالجة الآنفة الذكر إلا بإشراف طبيب مختص, ثم من المهم جداً أن يبذل المصاب كل جهده في تحرّي المعالجة الناجعة. وعليه ألا يقصر في معالجة نفسه ومراقبة مستوى سكر الدم لديه. وعليه دائماً أن يتذرع بالصبر وفي نفسه أمل التماثل للشفاء.

 

محمد اليافي