أرقام

أرقام

إنذار مبكر!
كانت الأدبيات الماركسية تهتم بقضية توزيع الثروة وتوزيع الدخل والفوارق الطبقية التي تنشأ عن ذلك.

وكان التحليل الماركسي يعزو هذه الفوارق لما اسماه الصراع الطبقي، وكان الماركسيون ينادون بتذويب الفوارق وإنهاء المجتمع الطبقي.

إنها حكاية الثراء والفقر من منظور ماركسي.. الآن، وبعد أن تراجعت هذه الأدبيات برزت نفس القضية ولكن من خلال أدبيات ومنظمات ليبرالية ورأسمالية.. وبينما كان العالم يستعد للقمة الاجتماعية التي نظمتها الأمم المتحدة في كوبنهاجن خلال مارس 1995 م، كان البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة يصدر تقريره الذي تحدث فيه عن كارثة توزيع الدخل في العالم.

يقول التقرير، الذي يتخذ عنوانا له "التنمية البشرية" إنه خلال الخمسين عاما الماضية حدث تقدم كبير، فقد زاد الدخل العالمي سبع مرات.. كان الناتج المحلي الإجمالي حوالي (3) تريليون دولار فأصبح (22) تريليونا تقريبا.. و.. نتيجة للزيادة السكانية اقتصرت زيادة نصيب الفرد من هذا الناتج على ثلاثة أمثال ما كان عليه.

بطبيعة الحال فإن الأرقام على هذا النحو لا تحمل دلالة كبيرة، فهي أرقام مجردة، والأهم هو ما تعنيه وما تشمله. وأبرز ما يقدمه البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في هذا المجال هو اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء.. وبشكل متزايد.

الأكثر ثراء.. والأكثر فقرا

تقول الأرقام أنه في عام 1960 كان أغنى (20%) من سكان العالم يحوزون (70%) من دخل العالم، لكنهم - وفي عام (1990) - أصبحوا يحوزون (85%) من هذا الدخل.

في المقابل، ضم أدنى السلم (20%) آخرين، وهم الأفقر أو الأدنى دخلا، كان نصيبهم في عام المقارنة الأول (2.3 %) من الدخل.. فأصبح عام 1990: (1.4%).

في عام 1960 كان التفاوت كبيرا، لكنه - وبعد ثلاثين عاما من التقدم الاقتصادي والاجتماعي في العالم - أصبح أشد اتساعا وأشد خطورة.. فبينما كان الخُمس الثري يحوز ما يعادل ثلاثين ضعفا للخُمس الأكثر فقرا.. أصبحت هذه النسبة (61) ضعفا بالتمام والكمال.. وبكل ما يعنيه ذلك من أسباب ونتائج.. حتى أن التقرير العالمي، الذي طرح نفسه أمام "القمة الاجتماعية" لم يستطع إلا أن يصرخ قائلا: "ينبغي ألا يكون مصير طفل حديث الولادة هو أن يحيا حياة قصيرة أو بائسة لمجرد أنه ولد في الطبقة الخطأ، أو البلد الخطأ، أو الجنس الخطأ".

التقرير يصرخ، ويقترح الكثير في مجال "الأمن الاجتماعي"، لكنه لم يقدم الأسباب والنتائج. لماذا يشهد العالم، وليست المجتمعات المتخلفة وحدها والصناعية فقط ظاهرة تركز الثروة؟ لماذا يزداد الأغنياء استحواذا على ثروات العالم؟ ولماذا يحدث المزيد من تهميش الهامشيين؟ وما هي النتائج المترتبة على ذلك؟ ولماذا تهتم منظمة دولية تعنى بشئون التنمية، أي بتكوين رأس المال واستثماره، لماذا تعنى بقضية توزيع الدخل، والفوارق بين الطبقات؟.

أظن أننا يمكن أن نستنتج العديد من الأسباب التي أدت إلى هذه الظاهرة.. فقد سبق نمو الأفراد، وزيادة عدد وثروة الأغنياء نمو نصيب الدول الصناعية المتقدمة من الناتج المحلي العالم.. كانت هذه السنوات (60 - 1990) هي سنوات الاستقلال ومحاولة البناء في العالم الثالث.. وجرى تقسيم العمل الدولي بين الشمال والجنوب لصالح الطرف الأول. وأصبحت تنمية العالم الثالث- وتسليحه أحيانا - هي السوق الواسعة التي يرتع فيها العالم الأول الذي احتكر العلم والمعرفة والتكنولوجيا كما احتكر رأس المال.... و... بالاثنين احتكر الأسواق.

خلال هذه الفترة عانت الدول النامية من مبادلة غير عادلة، فالشمال الأكثر قوة يعمل - وباطراد - على زيادة أثمان ما يقدم من سلع مصنوعة، بينما يعمل - وباطراد أيضا - على عكس ذلك بالنسبة للخامات والسلع الأولية التي ينتجها العالم الثالث.. والمثال واضح في قصة النفط الذي أصبح سعره الحقيقي في التسعينيات مساويا- وربما أقل - لما كان عليه قبل عام 1973.. والقصة متكررة في خامات أخرى ربما يكون منها الفوسفات، أو الألمنيوم، أو غيرهما.

والأمثلة بعد ذلك كثيرة.. كيف كان التبادل دوما لحساب الطرف الأقوى حيث إن ثمن المعرفة، أو ثمن التكنولوجيا قد أصبح أغلى من ثمن أي مادة طبيعية إذا قسنا الاثنين بعدد ساعات العمل البشرية اللازمة للإنتاج.

كسب الشمال الجولة، وتوزعت مكاسبه على سكانه بالضرورة فازدادت الشركات العملاقة ومتعدية الجنسية، وزادت قوتها. كما زادت الاحتكارات وزادت فرص الإنتاج والتصدير و.. لأن الوحدات الكبيرة - مالية أو صناعية أو تجارية أو زراعية- تعني ثروة كبيرة، فإنه قد أصبح منطقيا أن يحدث ذلك التركز في الثروة، وذلك التفاوت في الدخل، وأن يكون معظم العشرين بالمائة الأكثر ثراء - الذين تحدث عنهم التقرير- من أبناء الشمال، بينما يكون العشرون بالمائة الأفقر - في معظمهم - من أبناء الجنوب!

هذه النتائج الخطيرة!

حدثت الظاهرة، ومازالت مستمرة، ويمكن تناولها من زوايا متعددة.

من زاوية العدل، فنحن أمام وضع أشد إجحافا وظلما من ذي قبل.. فالأكثر فقرا، أقل عمرا، وصحة، وتعليما، وفرصا في الحياة. من زاوية التنمية، فإن الفقر يعوق التنمية.. فهو لا يتيح الفرصة للادخار والتراكم الرأسمالي الذي يولد الاستثمار، وهو يخلق تراكما من نوع آخر.. حياة غير إنسانية لا تساعد البشر على أن يقدموا خير ما عندهم.

و.. على الجانب الآخر، فإن الثراء المفرط يشجع على الاستهلاك المفرط، ويخلق أنماطا لا تحتاج إليها المجتمعات. والوضعان معا: وضع الفقراء ووضع الأثرياء، يخلقان ذلك التوتر الذي ينتقل من توتر اجتماعي محدود إلى توتر دولي وإلى ثورات اجتماعية.

ويتوقف برنامج الأمم المتحدة للإنماء أمام إحدى نتائج هذا الوضع فيقول إنه نتيجة لمشاكل الفقراء، وما يصاحبها من استياء فإن (35) مليون شخص قد هاجروا في هذه العقود الثلاثة من الجنوب إلى الشمال.. ونحو هذا العدد (15- 30 مليونا) هاجر بشكل غير شرعي، وهناك (20) مليون مشرد داخل بلادهم في الدول النامية ومثلهم تقريبا من اللاجئين في دول أخرى.. وأسباب كل ذلك واضحة: انحطاط مستوى المعيشة، وضيق فرص العيش التي تخلقها سياسات مختلفة من بينها: الحواجز التجارية التي تضعها الدول المتقدمة أمام الدول النامية فتخنق لديها فرص التصدير وفرص العمل.. و.. بمنطق أنه "إذا لم تتجه فرص العمل نحو العمال، فليتجه العمال نحو فرص العمل" بهذا المنطق يحدث ما يحدث من هجرة شرعية وغير شرعية ولجوء مبرر أو غير مبرر.. إنها أزمة نقص في التنمية، وبما يستدعي سياسة جديدة أو نموذجا جديدا للتنمية، وتضافرا دوليا لإقامة ما يمكن تسميته بالشبكة العالمية للسلامة الاجتماعية.. فترتبط المساعدات الدولية - على سبيل المثال - باستراتيجية الحد من الفقر، وتهتم البرامج بالجوانب البشرية مثل التعليم والصحة.

جدول أعمال المستقبل لمواجهة ظاهرة التفاوت في الثروة والدخل.. أو تركز الثروة والفقر، جدول مزدحم.. يتضمن الكثير مما يضيف لأدبيات السياسة الدولية والعلاقات الدولية.

إننا نسمع - ربما لأول مرة بشكل واضح- عن "مفهوم جديد للامين البشري".. ونظام للإنذار المبكر ضد الأزمات الاجتماعية التي قد تنشب في هذا البلد أو ذاك.. وتبرز مصطلحات جديدة مثل التنمية الوقائية، والتنمية العلاجية.

إنها لغة جديدة، بل وسياسة جديدة في منظمات بدأت أعمالها في خدمة الشمال أولا، ولكنها الآن، وربما من منظور أن أمن وسلام العالم لا يتجزأ، وأن رفاهية الشمال مرتبطة بازدهار أسواق الجنوب.. ربما من هذا المنظور يقولون الآن: "احذروا الفقر.. واحذروا الظلم الاجتماعي. أنها قنابل موقوتة".

ولنقرأ الأرقام من جديد لنعرف أن الصيحة في موضعها.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات