واحة العربي

واحة العربي

الكلب
صديق أثير هائم في الأرض والتاريخ

حيوان أهلي، يربى للصيد أو الجر أو الحراسة، ومع ذلك فمعظم الكلاب التي تغطي أرض العالم قفزت من فوق أسوار هذا التعريف المعجمي، لتهيم في الشوارع بروح شاعرية تتشمم أوكار الطعام والقصائد، تهابر وتثابر وتتجمع وتتشاجر وتختلف وتتفرق وتتوالد، وخلال كل ذلك تنبح وتعوي وتبث رسائل في الأفق الليلي تقلق أو تريح في نفس الوقت. ويقول العلماء إن الكلب من أول الحيوانات التي استأنسها الإنسان، يدعمون استنتاجهم بالتآلف السريع بين هذا الحيوان والبشر، ولقد رأيت كلبا ضاريا مهيب الشكل يحاول أن يرافق أحدا في الشارع، يبصبص بذيله ويزوم في رسالة رقيقة ويتابع الشخص المقصود الذي - حينئذ- ترتعد فرائصه ويلوذ بالمداخل وانحناءات الحوائط، فلما فشل هذا الكلب في الارتباط بالبشر بدأ ينبح ويطارد الناس ساخرا، كان واضحا أنه يعبث، وأنه محبط ويائس، وأن المأكولات التي يلقيها إليه الناس استئناسا أو خوفا جاءت بعد موعدها، غير أن القصة انقطعت دون نهاية مناسبة، فقد وقع في معركة مع كلب رعاة من (الغجر) كانوا يمرون بقطيع الأغنام في الشارع، فتجمعوا حوله بالهراوات والفئوس والحراب ووضعوا له نهاية غير مريحة. وأشهر كلب في الوجود يفعل شيئا طوال حياته، كلب أهل الكهف الذي ظل مع أصحابه في كهف (الرقيم) ثلاثمائة وازدادوا تسعا، حتى خرجوا من هذا (الماضي السحيق) ليروا عالما جديدا وأنظمة جديدة ولهجات جديدة، هم رأوا ذلك، أما الكلب فقد تساوى معه أن يأتي في عصر أباطرة الرومان أو فلاسفة اليونان، فالبشر جميعا كائنات لها إحساس، وهذا الإحساس لا يتغير باللغة أو بالعصر، كان أهل الكهف في محنة التعرف على العصر الجديد، وكان الكلب أصيلا لا تثيره هذه التغيرات ما دام أصحابه معه.

ومسألة وفاء الكلب معروفة، وفي الموروثات الشرقية والغربية حكايات عديدة عن كلاب قضت نحبها لائذة - أو لابدة - في أماكن أصحابها الذين رحلوا: سواء في المساكن أو الفيافي أو في المقابر، ولذا فان الكلب يحظى بتعاطف إنساني قد لا يحظى به الإنسان في بعض التجمعات.

كلب آل باسكر فيلد للسير آرثر كونان دويل هو أشهر كلب روائي، والذي كشف الأخلاق الجهنمية في هذا الكلب هو شرلوك هولمز الباحث عن أسرار الجرائم، استولده عالم بيولوجي من علاقة مهجنة بين بقرة وكلب فجاء المولود كلبا جهنميا له هيكل بقري ضخم وملامح كلب، وطلى عينيه بمادة فوسفورية (كالتي تستخدم في أرقام الساعات) ليبث الرعب في منطقة معزولة له فيها مأرب، إن منظر حيوان غائل في الظلام له خوار البقر وعينان من شرر لكفيل بأن يدفعك رعبا لتنغرز في وحل المستنقع، هذا بالضبط ما حدث لضحايا كلب آل باسكرفيلد.

والأنواع العديدة من الكلاب، والعديدة في الحجم أيضا، تشبع رغبات وحاجات الإنسان، ولعل كلب ارمنت الشهيرة في محافظة قنا بالصعيد المصري هو أشرسها، وأخطرها كلب الرعاة الألماني - الذي عرف فيما بعد بكلب الشرطة (الكلب البوليسي) لتجاوبه مع التدريب للمتابعة وتحديد الروائح، وهو الذي يطلق عليه كلب مكفوفي البصر، وكلب الزبزب الصغير طويل الجسم قصير القوائم الذي يمتاز بالشجاعة والذكاء، كما أن ثمة كلبا صغيرا يدرب للهو ويعتمد عليه في السيرك والملاهي لخفة دمه وميله إلى المعابثة.

والكلب سلوان الأرض، لذوي الإحساس بالوحدة، والمكلومين، والعوانس، والذين خرجوا من وظائف ذات مركز قوي، والمخلصين من مساعدي أهل الشأن الكبير، وذوي الروح الشاعرية فاقدي الأمل، كما أن الكلب صفة تطلق على الذين يحرسون العجين ويسرقونه، وتابعي أصحاب المناصب، لكن الجهر بتوجيه صفة: الكلب على أي فرد تبيح تطبيق قانون العقوبات الخاص بالسب العلني.

وسيظل الكلب - مع كل الاعتبارات - الصديق القديم الأثير للإنسان، دخل معه التاريخ ووسمه على معابده ومقابره وحوائطه المقدسة، ثم ظل وفيا له حتى شاركه في أولى تجارب رحلات الفضاء لتكون (لايكا) اسما جميلا ومعبرا عن النصف الثاني من القرن العشرين، مع أن جلّ الكلاب مازالت تهيم في الأرض، دون صيد، أو جر، أو حراسة، أو مركبة فضاء، مع إتاحة الفرصة لأن يقف كلبك الوفي - لحظات - على مثواك، دليلا على الإخلاص المتناهي.

 

محمد مستجاب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات