جمال العربية
جمال العربية
"وفاء ومروءة" من قديم والعرب تضرب به المثل في الوفاء فيقولون أوفى من السَّمَوْأل. والمثل مرتبط بموقف وقفه الرجل وقصة يتناقلها الناس مرتبطة بأمير شعراء العصر الجاهلي امرئ القيس وما حدث له بعد مقتل أبيه حجر بن الحارث آخر ملوك أسرة كندة اليمنية التي كانت تحكم منطقة نجد - في شبه الجزيرة العربية- منذ منتصف القرن الخامس الميلادي حتى منتصف القرن السادس، وقد قتل حجر في ثورة أشعلها ضده بنو أسد، ووصل خبر مصرعه إلى امرئ القيس - وهو في مجلس شراب ببلاد اليمن، فقال قولته المأثورة: ضيعنى صغيرا وحملني دمه كبيرا، لا صحـو اليوم ولا سكر غدا، اليوم خمر وغدا أمر. ثم آلى على نفسه ألا يهدأ وألا يعود إلى سابق سيرته حتى يأخذ بثأر أبيه. وفي رحلته طلبا للثأر، يتجه امرؤ القيس إلى قيصر الروم - صديق أبيه المقتول - طالبا معونته وأزره، ويودع ماله ودروعه - أثناء سفره - السموأل بن عادياء الذي تصفه كتب التراث العربي بأنه شاعر جاهلي مجيد، وأن اسمه يرجع إلى أصل عبراني هو شمويل عربته العرب وهو الذي يعرف الآن باسم صمويل أو صموئيل. ويقدم لنا كتاب "الروائع من الأدب العربي" في مجلده الأول الذي أنجزته مجموعة من علماء التراث العربي وأساتذة الجامعة الكبار تحت إشراف الراحل الكبير الدكتور يوسف خليف، يقدم لنا سردا طريفا للموقف التراجيدى في قصة السموأل على هذه الصورة: "جاء الحارث بن ظالم المري إلى السموأل وأسر ابنه وكان هو خارج الحصن الذي يمتلكه ويشتهر به واسمه الأبلق الفرد، وكان على رابية مشرفا على تيماء وهي بلد بين الشام والحجاز، فخيره بين قتل ابنه وخيانة أمانته بتسليمه أموال امرئ القيس وأدراعه، فاختار السموأل الوفاء وأسلم ابنه للقتل. وفي ذلك يقول العلامة المحقق الأستاذ محمود شاكر: "خالف السموأل غدر أهل دينه- فقد كان يهوديا- ووفى بعربيته". وفي قصيدة السموأل فخر واعتزاز بالقيم العربية الأصيلة، واستشراف لذلك الأفق الذي كان يحس من خلاله الفتى العربي أنه مناط الرجاء والأمل ومضرب المثل، وأنه في سبيل هذه الغاية العزيزة النبيلة يسمو على كل فتنة أو غواية، وعلى كل مال أو ولد ويرتفع إلى مستوى الموقف ومتطلباته تضحية وفداء عن طواعية وإيثار لا عن قسر أو إرغام. والقصيدة تبدأ في بيتها الأول بالحديث عن "المرء" بكل ما تحمله الكلمة من فضاء المروءة وأفقها الواسع الرحب، ثم هي تؤكد في أكثر من موضع حقيقة "السيد" رمزا لكل فتى من قوم السموأل، لا يموت حتف أنفه، وكلما قضى سيد من القوم قام "سيد" آخر يملأ مكانه، ويرتبط لديه القول بالفعل. ولعل من أروع أبيات القصيدة وأكثرها استثارة للنظر والتأمل، البيت الذي يشير فيه السموأل إلى قلة عدد قومه، وكيف أن هذه القلة هي دليل أصالتهم وتمايزهم، فالكرام قليل في كل زمان ومكان، والكثرة ترتبط عادة بالمستوى العادي من الكائنات والأشياء والأفعال، أما التمايز فصفة القلة التي تقود الكثرة، وتحمل المسئولية، وتفسح الطريق. يقول السموأل:
وبعيد عن حديث المكارم والمفاخر، والتغني بالشجاعة والوفاء، والنبل والبطولة، هناك لغة الشعر وماؤه وكيمياؤه، وهناك هذا الانسياب الجميل والتدفق الزاخر - كماء النهر العذب - للنفس الشعري الأصيل الذي تتحقق فيه مقولة القدماء "شعر الطبع" ومقولة المعاصرين "شعر النفس والصدق والذات المتأبية". وفي الموقف من القصيدة - على مدار العصور وتعاقب الأزمان - تمثل لجماليات الموقف العربي من الإبداع الحقيقي مهما كان صاحبه. فبالرغم من العداء التقليدي المتوارث والمستمر بين العرب واليهود وما يزخر به تاريخ اليهود مع العرب قديماً وحديثا من لؤم وخسة وغدر ونذالة، وعدوانية وبربرية ووحشية إلا أن الوجدان بشعر السموأل بن عادياء اليهودي كما لم يضق بشعر المبدع الأندلسي: ابن سهل الإشبيلي اليهودي واتسع هذا الوجدان لشعرهما باعتباره صورة لعبقرية الإبداع في العربية، ونموذجا لجماليات التشكيل وتفرد النص الشعري العربي. ثم تبقى- بعد هذا كله - الظاهرة الفريدة، المتمثلة في تحول أبيات القصيدة جميعها إلى منظومة للحكمة ومدعاة للرؤية والتأمل والتدبر. إن كل بيت منها ينتصب بنفسه، وحده، منقطعا من السياق - أو كأنه منقطع منه - ليعطي دلالته المستقلة: خلاصة الخلاصة لبصر صائب بالحياة وتقليبها على وجوهها المختلفة واستقرار عند الوثوق الراسخ واليقين المتمكن من العقل والقلب معا. يقول السموأل:
|
|