من شهر إلى شهر

من شهر إلى شهر

لمحات من جديد العالم
طب
في وداع عام باستور

مع انقضاء هذا العام، 1995، تنقضي السنة التي كرستها منظمة الأمم المتحدة للثقافة والتربية والعلوم (اليونيسكو) لإحياء ذكرى "أمير العلماء" لويس باستور بمناسبة مرور مائة عام على وفاته.

وصاحب الذكرى تعد إنجازاته في مجال الطب منعطفا من المنعطفات الكبرى التي وقف فيها الاجتهاد الإنساني ضد الويلات المهددة للحياة عموماً، وحياة البشر على وجه الخصوص. فلويس باستور، ابن دباغ الجلود الذي ولد في 27 ديسمبر 1822 في بلدة "دول" الفرنسية، الذي تحول من فن الرسم إلى العلم، قدم من الاكتشافات العلمية، والطبية خاصة، ما يجعل البشرية تدين له بالامتنان أبداً، بدءاً من كوب الحليب "المبستر" الذي يشربه الملايين في الصباح، وحتى آفاق القضاء على وباء الأيدز الذي لم يكن موجوداً على عهد باستور نفسه، والذي يضطلع المعهد المسمى باسمه في باريس بمهمة مكافحته، بعد أن كان أول مكان يتم فيه اكتشاف وعزل الفيروس المسئول عن إحداثه.

رحلة باستور العلمية طويلة، وبالغة الثراء والعطاء. فقد بدأ بدراسة البلورات ووضع أولى لبنات علم الكيمياء المجسمة، وعبر دراسته لظاهرة التخمر دحض نظرية التوالد التلقائي الخرافية القديمة، وقدم فرضية وجود الجراثيم القابلة للتوالد الدائم والمسئولة عن التخمر، واكتشف نمط الحياة دون هواء لدى بعض الجراثيم. ومن ثم توصّل إلى طريقة تسخين السوائل القابلة للفساد (كاللبن والحساء) لحمايتها من الفساد السريع وهي طريقة "البسترة" التي نُسبت إليه. وفي غضون دراسته لوباء اجتاح ديدان القز، اكتشف كيفية انتقال الأمراض بالتلوث والعدوى، مما مكنه من اكتشاف آلية التعقيم التي أحدثت ثورة وقائية في مجال الجراحة والتوليد. وبعد اكتشافاته لمجموعات من البكتيريا العنقودية، والعقدية، والرئوية، نجح في عمل لقاحات حيوانية المصدر، فكان ذلك إيذانا بمولد علم لتحصين ومن ثم المناعة. وفي عام 1885 نجح في إنقاذ شاب من مرض الكلب بإعطائه لقاحاً من خزانة مكتشفـاته، فتوافد عليه آلاف الناس من كل أنحاء الدنيا يلتمسون أدوية لديه. وكان ذلك بداية لفكرة إنشاء معهد للأبحاث الخاصة بالأمراض المعدية يتم تمويله باكتتاب دولي. وهو ما تحقق فيما بعد بافتتاح "معهد باستور" في باريس عام 1888، ووضع باستـور لوائحه بنفسه ليضمن للباحثين فيه الكفاية المعيشية وحرية العمل والتفكير. وكان لهذا المعهد ما حلم به مُنشئه. ففي عام 1894 نجح ثلاثة من باحثي المعهد في استخدام مصل للأطفال ضد مرض الدفتريا الخناق قاتل الأطفال. وأثار هذا النجاح حماساً عارما مما دعا جريدة "لوفيجارو" إلى طرح اكتتاب جديد لشراء الجياد اللازمة لإنتاج أمصال المناعة وتوفير الاصطبلات لها. وعرض أحد مشجعي التقدم العلمي أن يبني مستشفى متخصصا لعلاج الأمراض المعدية، ولم يشهد باستور هذا الإنجاز الذي تحقق بعد وفاته، إلاّ أنه شاهد انتشار أساليبه الطبية، الثورية، في العالم بأسره، ومنها إنشاء أول معهد للأمراض المعدية فيما وراء البحار في سايجون عام 1891. لقد ترك باستور نسقاً بارعاً للبحث العلمي الطبي، استمر في معهده الذي واصل نجاحاته بعد ذهاب مؤسسه. ففي عام 1921 اكتشف باحثان بالمعهد لقاحاً ضد مرض السل (BCG) ، وفي الخمسينيات أنجز الباحثون في المعهد تطويراً جوهرياً وضع الأساس للبيولوجيا الجزيئية التي حسّنت معرفة الإنسان بمختلف الأنظمة الحيّة، وفتحت أبوابا جديدة لتطبيقات الهندسة الوراثية وبيولوجيا الأعصاب والتقنية الحيوية في الصيدلة. وفي عام 1983 تمكن فريق من هذا المعهد برئاسة البروفسير "مونتانييه" من اكتشاف أول فيروس مسئول عن مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز)، وفي المبنى الضخم داخل هذا المعهد والمخصص لمرض الأيدز ودراسات الارتداد الفيروسي وأمراض انحلال الجهاز العصبي، تلوح الآن تباشير القضاء على مرض العصر - الأيدز - عبر اكتشاف جزيئات تعلقه بالخلايا المناعية المصابة وتدمير هذه الجزيئات.

لقد ذهب باستور، مخلفا تراثه العظيم في البحث العلمي الذي استمر في 26 معهدا منتشرا في كل أنحاء العالم إضافة إلى معهده في باريس الذي نال ثمانية من باحثيه جائزة نوبل في الطب تقديراً لرفعة أبحاثهم. وليس بكثير أن يكرس العالم هذا العام- الذي نودعه هذا الشهر - لإحياء ذكرى باستور الذي كان مبدؤه يتجلى في قوله: "على المرء أن يهب حياته للحقيقة، بالمثابرة على طريق البحث حتى يكتسب الإنسان في النهاية "غريزة الحقيقة".

"غريزة الحقيقة"، يا له من تعبير، ويا لها من غريزة تستحق أن توليها البشرية المعاصرة كثيراً من اهتمامها وجهودها، إذ بات التراكض المتسارع والخاوي من الروح والأخلاق في عصرنا يهدد هذه الغريزة التي طالما صانت الحياة. لهذا لا نقول وداعاً لعام باستور، بل مرحباً بجوهرة ومغزاه في كل أعوامنا القادمة.

بيئة
وبر الأرانب ولا صوف الأغنام

حصل الباحث الأسترالي هانز جورج فيدل على إحدى جوائز برنامج الاختراعات والابتكارات العالمية "رولكس" ، تقديراً لابتكاره أجهزة اقتصادية وعملية تيسر عمليات تمشيط وغزل وبر الأرانب تمهيدا لنسجه في ملبوسات تشابه الملبوسات الصوفية الفاخرة وتمتاز عنها بفرط النعومة.

ومن الجدير بالذكر أن الباحث كرّس ابتكاره لخدمة المزارعين الصينيين الذين يعدون الأكثر اهتماما في العالم ومنذ قرون عديدة بتربية أرانب الأنجورا (أي أرانب أنقرة) غزيرة الوبر، وهم أيضا أكثر المصنعين والموردين للخيوط المأخوذة من شعر هذه الأرانب التي تعد أساسية ضمن مجموعة الهيدانات في أفنية الدور الريفية الصينية. وهي أرانب خصبة، وفيرة اللحم، وتعطي الواحدة منها شعراً يزيد مرة ونصفا على ما تعطيه الواحدة من أغنام كشمير. إضافة إلى نعومة هذا الشعر وقدرته العالية على التدفئة. والأجهزة الجديدة تعمل على فكرة تمشيط الوبر وتهيئته للغزل أي حلجه باستخدام تيار الهواء المضغوط، وقد روعي في تصميمها أن يتيسر تركيبها على المكانس الكهربائية المنزلية للاستفادة من تيار الهواء (المشفوط) بعد عكسه، مما يتيح للمربين الصينيين فرصة أن يعد كل منهم خيوط الغزل في بيته، ومن ثم يتضاعف دخله عما كان يحصل عليه من بيع الوبر دون تجهيز. كما أن هناك طرازا من هذه الأجهزة أكبر ويمكن أن يقتنيه مجموعة من القرويين بنظام المشاركة كمصنع صغير أوسع وأوفر إنتاجا ومن ثم أكثر عائداً.

وتقول نتائج تجريب أجهزة المبتكر هانز جورج، إن الخيوط المأخوذة من وبر أرانب الأنجورا والمجهزة بهذه الآلات تكون أكثر انتظاما وقوة، بينما السترات المصنوعة- سواء بالماكينات أو باليد - من هذه الخيوط تبدو أكثر تماسكا ونعومة من سابقتها التي كانت تجهّز بطرق يدوية أو آلات قديمة.

ضد الهامبورجر والطماطم المكعبة

اتجاه جديد بدأ يسعى إلى عادة إعادة الطعم والنكهة إلى المائدة المعاصرة، بعد أن قضت عليهما الأطعمة السريعة مثل الهامبورجر، والأطعمة المهندسة وراثيا وتقنيا التي تكتسب ألوانا وأشكالا مغرية لكنها تفتقد في الغالب النكهة والمذاق مثل البرتقال الأزرق والجبن الأخضر والطماطم المكعبة والموز البرتقالي.

هذا الاتجاه يتبناه الآن، ومنذ فترة، المعهد الفرنسي للبحث الزراعي، وهو يسمى إلى إحياء تقاليد قديمة بأساليب حديثة. فإعادة المذاق والنكهة والشذا إلى الطعام يجري البحث عنها في أروقة المعهد ومعاملتها بتقنيات حديثة، كالأنوف الإلكترونية، والألسنة التقنوحيوية. (فالشمخة) أو تباشير الشذا التي لا تنطلق من اللحم إلاّ عند طهوه - كمثال مما يجري بحثه في المعهد - تحدد جودة اللحم ودرجة طزاجته، وبدراسة عكسية يمكن تحديد اللحم الذي سيكون أطيب عند الطهو، وهو مما تم إنجازه من أبحاث في هذا الشأن.

ولا يتوقف عمل المعهد على تحديد أسرار المذاق، بل أيضا على آلية الحصول على المذاق بهدف تكراره. وفي هذا المضمار يُذكر أن فريقا من الباحثين في المعهد قضى سنتين لاكتشاف أسرار جبن "الغروبير" الفرنسي الشهير، ما الذي يعطي هذا الجبن نكهته القوية؟ وطعمه المميز؟ إنها ببساطة الخصائص الكيميائية الحيوية للبن المختمر التي لوحظت بعد مرور 24 ساعة على حلب البقرة، إضافة للتحولات الجرثومية والخميرية التي تتم أثناء فترة نضج الجبن. وبتحديد هذه العوامل، أو التدخل لاحداثها، فإن الحصول على جبن "غروبير" جيِّد يصير عملية بسيطة لا تحتمل الفشل.

وفيما يخص الخُضرَ والثمار، فقد نجحت الهندسة الوراثية بتطبيقاتها الخاصة في هذا المعهد، في تحسين طعم الباكورات. فتهجين ثمار خوخ فرنسية وأخرى صينية أعطى ثماراً أكثر حلاوة أطلق عليها "الخوخ العسل". كما نجح الباحثون "في الحصول على باذنجان أبيض له مذاق أفضل من المعتاد.

كما لوحظ أن طعم الخُضرَ والغلال لا يتوقف فقط على خريطتها الجينية (الوراثية) وإنما أيضا على مناخ المنطقة التي تنتمي إليها، وعلى نوعية التربة التي تنبت فيها. وبالتالي تقرر الاتجاه إلى إنتاج مواد غذائية لها علامات مميزة يدخل ضمنها مكان زراعتها ومواسم حصادها وطبيعة نموها.

ولم يهمل المعهد اعتبارات الإيقاع المتسارع للعصر، لهذا خصصت مجموعة من الأبحاث للاهتمام بالنباتات التي يطلق عليها "الصنف الرابع" (أي المغسولة، المقشرة، والمعبأة في أكياس جاهزة) فقد كانت طرق التعقيم التقليدية تقضي على طعم هذه النباتات. أما الآن فتوجد - عبر أبحاث المعهد - تقنيات حديثة توفر مواد جاهزة "نظيفة للغاية" دون اللجوء إلى ذلك التعقيم الذي كان يقضي على الطعم. أما مواد التعبئة فقد أولتها أبحاث المعهد بعض الاهتمام، وفي هذا السياق توضع في الأكياس بعض أنواع الخزف التي تصدر إشعاعات آمنة قادرة على وقف تكون العفن ونمو البكتيريا، مما يبشر بإمكان حفظ مواد طبيعية لفترة تصل إلى سنة تقريباً دون تغير في الطعم الأصلي. باختصار إنه بحث عن القديم الحميم في الطعام، وإن بأساليب عصرية، فقد سئم الإنسان أشياء كثيرة باتت في حياته المعاصرة بلا طعم.

فن
نظرة إلى الطير الجميل

أربعة بيوت من الطين في قرية "عيط بنهادو" المغربية صنفها اليونسكو "موقع تراث عالمي" نظراً لصمودها الفريد واحتفاظها بشكلها الأصلي، هذه البيوت الأربعة هي عينة من 300 بيت تنتمي إلى تراث معماري مغربي فريد يسمى "الكاسبا" وهو طراز يمتد من شمالٍ إفريقيا حتى أفغانستان مكونا ما يسمى "حزام الكاسبا". وهذا الطراز شيء آخر غير مباني أحياء "القصبة" المنتشرة في مدن الشمال الأفريقي كالجزائر العاصمة وفاس والرباط وطنجة، والتي تشكل تجمعات سكنية داخل أسوار قديمة على مرتفعات تطل على البحر وتتخللها متاهات من الممرات والمسالك الملتفة المتسقة مع الطابع الدفاعي لهذه المدن التي كانت تغلق أبواب أسوارها في الليل ضد احتمالات الإغارة من البحر.

الكاسبا، أو بيوت الطين العتيقة، هي أبنية ريفية عمرها قرون، تقوم على حافة الصحراء وتتكون من تكوينات مكعبة، متعددة الطوابق، تحيط بها جدران ضخمة وأبراج مزخرفة، ومادة بنائها لا تتغير فهي من الطين الذي يكوِّن الآخر اللبني عند خلطه بالقش، مع بعض الحجارة أساسا تقوم عليه الجدران، بينما السقوف تشيدها ألوان من الخشب موصولة بعيدان القصب المصبوغ. وتوجد بيوت الكاسبا بأكبر أعدادها في المنطقة الجنوبية من المغرب عند وديان جبال الأطلس وحتى منطقة الجداول المتعرجة على حافة الصحراء، وهي أرض أمراء الحرب البربر القدامى وتجار الصحراء التي تروي بساتين نخيلها المياه الآتية من ذوبان ثلوج قمة جبل "توبقال" أعلى قمم إفريقيا.

لقد عبثت يد الزمن والطقس بهذا التراث الجميل الهش فألحقت الأمطار الغزيرة أضراراً فادحة ببعض البيوت، وهجرها كثير من سكانها إلى المدن، ومع انتباهه وزارة الشئون الثقافية المغربية ومنظمة اليونسكو وبرنامج الأمم المتحدة الانمائي لخطر تبدد كنز الطين الجميل هذا، فإن مركزا لصيانة ذلك الإرث المعماري الإنساني قد قام بإرادة مغربية ودعم عالمي، ليس فقط لصون هذا التراث، بل لابتعاث هذا النسق المعماري الذي يكتنز قيماً ثقافية وفنية ساحرة تخص المنطقة. وفي هذا المركز تم تدريب طاقم من البنائين، عددهم خمسة عشر، على مهارات تشييد وتزيين بيوت الكاسبا، فهم يصنعون (المداميك) العليا من كتل اللبن المضغوط الذي يحمل رسم المفتاح المزدوج الذي يعتقد بعض خبراء الأنثروبولوجيا برجوعه إلى أبجدية بربرية قديمة. وعن توجه المركز يقول مديره "السيد الفاروقي" : "إذا كنّا ندرب الناس على ترميم بيوت ترابية قديمة، فلماذا لا ندربهم على بناء بيوت جديدة بمواد رخيصة الثمن؟".

المسألة بالطبع لا تقف عند حدود النفع. فهناك بُعد جمالي أكيد في هذه البيوت اكتشفت سحره عيون السياح الأوروبيين المتدفقين على جنوب المغرب، وصانعو أفلام هوليوود الذين صوروا بعض مشاهد فيلمي "لورنس العرب" و"يسوع الناصري" في قرية "عيط بنهادو"، بين البيوت ذات الأشكال الفنية العضوية والألوان الترابية المتوهجة. وفي هذا الإطار، فإن كلمات الفنان العالمي المهندس المعماري المصري حسن فتحي تتردد أصداؤها حتى تبلغ "حزام الكاسبا" أيضا إذ يتكلم عن "ردم الهوة بين الاعتبارات الجمالية التقليدية وحاجات السُكنى للغالبية الكبرى من فقراء العالم".

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




لويس باستور أمير العلماء المتحفي به هذا العام





معمل الأبحاث الوراثية في معهد باستور في باريس





إنقاذ هذا الطفل من الموت بمرض الكلب كان معجزة طبية لفتت أنظار العالم إلى باستور





سويتر مصنوع من وبر أرانب الأنجورا بعد حلج الوبر بالمحلج المبتكر





في ليون مطعم يقدم أصنافا ذات نكهة معتقة وفي إطار قديم





أرنب الأنجورا الواحد يعطي وبرا يعادل مرة ونصف ما تعطيه إحدى أغنام الكشمير





بالطرق الجديدة سيمكن التنبؤ بطعم اللحم قبل طهوه





بيوت الكاسبا في القرية المغربية التي غدت عالمية بفضل هذه البيوت التحرير الإعلانات الإشتراكات سجل الزوار بريد أسئلة وأجوبة