جدة.. بوابة للتاريخ وجسر إلى المستقبل

جدة.. بوابة للتاريخ وجسر إلى المستقبل

عدسة: فهد الكوح

ندخل جدة مع هدأة المساء, النسائم المحمّلة ببرودة البحر تتكسّر على صخور آخر يونيو الملتهبة, سيارات تتزاحم من حولنا بحركة سريعة كأنها تعبر عن حركة الكون اللامنتهية, أبنية متعددة الأشكال والألوان, فأتساءل للوهلة الأولى: لماذا وبمَ جدة أصبحت غير?!

من أين أدخل جدة? وكيف أبدأ مشواري? من سحر حاضرها أم من أصالة تراثها? أستسلم لتداعيات الخيال فتتراءى لي بعض جموع المسلمين المعذبين مع بزوغ فجر الإسلام يهرولون بأسمالهم إلى شاطئها فارّين من بطحاء مكة ومن ظلم الكفار وفنونهم في التعذيب ليلحقوا بمن سبقهم من ميناء الشعيبة إلى الحبشة وملكها النجاشي الذي آواهم من البطش.

ويتراءى لي أبومحجن الثقفي ذلك الفارس الشاعر واقفاً على الشاطئ منتظراً السفينة التي ستقله منفياً إلى جزيرة فرسان بأمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يأبى أبو محجن أن يترك الخمر خوفاً من ابن الخطاب, ثم يتركها مستجيباً لأمر الله بعدما يقول له عمر إثر بلائه الحسن في معركة القادسية, لن نعزرك بعد اليوم وأمرك نتركه إلى الله, فيكف أبومحجن عن معاقرة الخمر مادام أمره متروكاً إلى الله.

عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يسبح في مياه جدة مسـتطلعاً شطآنها ثم يصلي ركعتين ويعلن جدة ميناء رئيسـياً للبلاد, لم تأت نظرة الخليفة الراشدي الثالث من فراغ, فـقد استـطاع بدراسة استـراتيجية وبلا أجهزة للموقع أن يعرف الحماية الطبيعية المرجانية التي حباها الله لميناء جدة والتي جعلت البرتغاليـين يحاصرونها من البحر ولا يعـرفون سـبيلاً لاقتـحامها بجـيوشهم, والفـرادى الذين استطاعوا الـوصول وقـف سـورها منيعاً في وجوهـهم, فتـكبد البرتغاليون خـسائر فادحـة بالمال والعتاد جعلتهم يعودون من حيث أتوا.

متحف في الهواء الطلق

بحر الأمس لم يعد هو بحر اليوم ولا الشطآن هي الشطآن, فالرمال التي كانت الرياح تذروها على مساحات مترامية لم تعد تستولي على أكثر من أمتار معدودة تبعد الرصيف عن المياه, فيما يمثل امتداد الطريق الإسفلتي بطوله الذي يصل إلى أكثر من مائة كيلومتر كورنيش جدة الشهير الذي يربط شمال المدينة بجنوبها, وحالما تميل شمس الظهيرة لتنكسر حدتها يبدأ أبناء جدة بالتقاطر إلى الكورنيش طلباً لنسماته البحرية مستمتعين بمناظره الجميلة, فهو ليس مجرد طريق محاذ للبحر بقدر ما هو متحف فني رائع في الهواء الطلق, هذا المتحف لا يقتصر على الكورنيش وإنما تتوزع منحوتاته في باقي شوارع وميادين جدة مضفية على المدينة رداء جمالياً وملامح متفرّدة, وهذه الخطة الرائعة تجسيد لرؤية الدكتور المهندس محمد سعيد الفارسي الذي جعل هذه المجسمات بأشكالها التي تمثل اتجاهات مختلفة في الفن التشكيلي, والمؤلفة في بعض الأحيان من مخلفات البيئة تهب المكان شيئاً من الجمال يتسم بالديناميكية المتفاعلة مع ما يحيط به من موجودات, هذه الأعمال الفنية الموزعة في مختلف أرجاء جدة الحديثة جلبت من مختلف أنحاء العالم والكثير منها لفنانين ونحّاتين عالميين عمالقة أمثال فارساريللي وهنري مور وسيزار وغيرهم.

يشارك في تميز المكان تداخلات الكورنيش وتلاعبه مع البحر, فلا يلبث الشارع أن ينقسم ويلتوي مبتعداً عن البحر ثم يعود مقترباً وملتحماً مع شطره الثاني مخلفاً خلال الافتراق بحيرة صناعية رائعة هكذا وبتخطيط هندسي بديع تتوزع هذه البحيرات في افتراقات طريق الكورنيش, وفي البحر تمتد ألسنة صغيرة متباعدة عن بعضها لا تتعدى الأمتار المربعة لتشكّل ما يشبه المقصورات الخاصة بالعائلات, لكنها بلا جدران ولا أسقف, وحين تودع الشمس النهار غاربة ويرخي الليل سدوله يضاء الكورنيش بآلاف أعمدة النور, وعشرات الأطفال يسرحون ويمرحون على ظهور خيول البوني والإبل والدراجات النارية الصغيرة في أماكن محددة لها, تشارك السهارى على مبعدة من الشاطئ في مياه البحر نافورة الملك فهد, أعلى نافورة في العالم, ترتفع مياهها في الفضاء حتى 260 متراً كشراع قارب لا يمل الإبحار, أضفت عليه أنوار المساء والإضاءة الأخرى لوناً خفيفاً ساحراً يصبغ شفافية الماء.

في ضيافة جدتنا

تبقى لمسة الجمال هالة تأخذ الزائر الذي يتمتع بالفنون المنتشرة في رحاب بوابة الحرمين, ففي العمارة القديمة فن الفنون يبلغ الجمال ذروته ليحرّك في النفس إحساساً نستالوجيا, فجدة لاتزال قائمة وآهلة إلى اليوم وعمرانها دليل مراحل قديمة وليس دليل نشأتها, فهي على ذمة بعض المؤرخين أقدم بلاد العالم, دبّت الحياة فيها منذ ما يقارب ثلاثة آلاف عام, وأول مَن استقر بها الصيادون متخذين منها مكاناً للراحة إثر رحلاتهم البحرية الشاقة, وبعدهم بنصف قرن, جاءت قبيلة قضاعة نازحة من جنوب الجزيرة العربية إثر انهيار سد مأرب لتستقر في قرية الصيادين الصغيرة التي حملت اسم أحد أبناء القبيلة (جدة بن جرم) وقضاعة هو الابن الثاني لمعد بن عدنان الجد التاسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وأما لفظ اسم جدة فتتعدد الآراء حوله ويرجح الكثيرون لفظه مضموم الأول لتعني الطريق المحاذي للماء أو الطريق في الجبل, والجدة من البحر والنهر ما يلي البر, وأما لفظ أهل جدة لاسم مدينتهم, فهو بكسر الجيم, وللفظ معناه أيضاً الذي يمتّ إلى اليُمن والسعادة.

المصريون يلفظونها بفتح الجيم ومعناها والدة الأب أو والدة الأم, والمقصود هنا هي الجدة الكبرى للبشرية حواء, وتأتي التسمية هنا أسوة بتسمية (منى) حيث تمنى آدم رؤية حواء و (عرفات) حيث تعارفا ثم اتخذت حواء قبة بجدة منزلاً لها, ولا أدري لماذا ارتحت إلى هذه التسمية دون غيرها, ربما لأنني وجدت هذه المدينة قريبة من نفسي ونحن كلنا أبناء آدم وحواء, فلنا في جدة نصيب.

وسط الأوابد تغلغلنا نستجلي أخبار الماضي ونرتحل مع حلوها ومرّها, لايزال حوالي 600 مبنى تاريخي قائماً وموزعاً على حارات جدة الأربع: الشام واليمن والمظلوم والبحر, اسأل المهندس المعماري سامي نوار مسئول المنطقة التاريخية عن سر التسمية للحارات الثلاث إذا سلمنا بتسمية حارة البحر, فيقول: معروف لدى العرب ما كان شمالاً بالشام, وجنوباً اليمن, وأما تسمية حارة المظلوم فيحكى أنه في غابر العصور حكم على رجل بالإعدام, وحين جزّ رأسه نفر الدم من عنقه ليكتب على الأرض كلمة (مظلوم), ما بين حارتي اليمن والمظلوم التقينا دليلنا سامي نوار في بيت ناصيف الشامخ بماضيه المجيد, إنه يحتوي على 107 غرف وساحة موزعة على أربعة أدوار وثلاثة أدوار أخرى في الميزانين الشرقي, ويتميز بيت ناصيف الذي يعود إلى قرن ونصف مضت بنظام السلاملك لتصعد الجمال المحمّلة بالماء والزاد إلى المطبخ وغرف المئونة في الدور الرابع, وقد عرف بانيه بلقب (العشرة) أي أنه يعادل عشرة معماريين, ويفخر البيت هذا بأنه احتضن المغفور له الملك عبدالعزيز لدى إقامته في جدة ولايزال أثاث ديوان الملك عبدالعزيز كما هو في محله بما فيه أثاث غرفة نومه ومشاجب لباسه.

في الدور الأعلى من البيت أقيم معرض فوتوغرافي لصور التقطها القنصل الهولندي دانييل فان ديرمويلين لأبرز معالم جدة القديمة ما بين منتصف العشرينيات وبداية الستينيات.

البيت مبني على الطراز العمراني الذي عرفت به جدة, جدرانه بيضاء اللون يتناغم لونها مع الرواشين, والروشان الكبير خلف مجلس الملك عبدالعزيز, وهو بمنزلة نافذة كبيرة نافرة عن جدران المنزل, فيها منفذان قابلان للفتح عن اليمين وعن الشمال يفتح أحدهما بحسب اتجاه الهواء ليدخل التيار البارد, فيرتفع الهواء الساخن خارجاً من نافذتين صغيرتين شكلهما دائري في أعلى الروشان, وللروشان فوائد أخرى, يستظل به المارة في الشارع إن دعت الضرورة, ومنه يرى ساكنو المنزل الشارع ولا يراهم أحد.

فضلاً عن ذلك يحتوي بيت ناصيف على بعض التحف والمخطوطات التي تعرف بتاريخ جدة والسعودية عامة, وعلى مقربة من بيت ناصيف في جدة القديمة لاتزال العديد من البيوت القديمة الشهيرة عامرة كبيت الكيال وقصر خزام وبيت باناجة وبيت باعشن وقصر الشربتلي بعضها خاضع للترميم, والترميم مهمة إدارة المنطقة التاريخية التي تستأجر المبنى من مالكه لعشرة أو خمسة عشر عاماً, وتأتي بالحرفيين الشباب من معاهد الصم والبكم وبمعلمين معماريين كبار يقومون بالترميمات وبذلك تعاد الحياة للمبنى ويستفيد الشباب من خبرة أسلافهم.

من بيت ناصيف خرجنا إلى سوق العلوي الذي يقودنا إلى سوق الندى وهذان من أشهر أسواق جدة القديمة, تملأ أنوفنا روائح البخور والبهارات بأنواعها, وتكتظ الأسواق بالبضائع الشعبية بأسعار مقبولة تميل إلى الرخص مقارنة بالأسواق الحديثة, فالأسواق هنا مجموعة دكاكين تقليدية على نسق معماري واحد وسط العمارات القديمة, معظمها لا يعرف التكييف ويكتفي بالمراوح, ومعظم الباعة ليسوا سعوديين, وأمام هذه الدكاكين تفرش بسطات الإفريقيين الهاربين من نيران الحروب الطاحنة في بلادهم, وتكثر هذه البسطات بمختلف السلع في سوق البدو المسقوف بما يمنع أشعة الشمس والمطر عن السلع وأصحابها.

عبق القديم يملأ الأنوف, أشاهد رجلا عجوزاً يسير متوكئاً على عكازه في هذه الحواري, أسلم عليه وأسأله عن وجهته وسر خروجه رغم الحرارة والرطوبة الشديدتين, فيقول: لا حاجة لي, ولكنها الذكريات تدفعني, أنا من ساكني هذا المكان, نبتسم معاً وهو يتأوه, وكأنه يردد في داخله: ألا ليت الشباب يعود يوماً, مباني جدة المشيّدة بالأحجار المرجانية والمنقبية وبالطين المجلوب من بحيرة الأربعين يضمها سور منيع كمثيلاتها من مدن العصور الوسطى, غفت في أحضانه مطمئنة إلى عام 1917 هـ, صدّ عنها غارات البرتغاليين الطامعين, ولما تهدم أعاد السلطان السلجوقي المملوكي قانصوه الغوري بناءه واشتمل السور على ستة أبراج وستة أبواب عرفت بأسماء: مكة, الشريف, الصريف, البنط, المدينة, المغاربة, وأضيف لها فيما بعد بابا جديد والصبة, ولاتزال من هذا السور الذي يجري ترميم بعضه بقايا آثار عفا عليها الزمن.

واتقاء لعوامل المناخ عرفت العمارة الجداوية غير الرواشين واللون الأبيض خصائص تخطيطية حيث الممرات الضيقة تتوزع بين المباني كالشرايين يتخللها الهواء فيتوزع على البيوت ملطفاً حرارتها, ضيق الممرات كانت له فائدة أخرى غير توزيع الهواء فظلال المباني بسبب التقارب الشديد تصد أشعة الشمس عن بعضها, ولون المباني الأبيض المتناغم مع اخضرار النخيل وثراء العمارة الإسلامية في جدة بالزخارف والمشربيات والرسوم جعل الرحالة بوركهات الذي زارها في أوائل القرن التاسع عشر يشهد بأن مبانيها أحسن طرازاً من مباني تركيا.

صفحات الألم

الفاتنة جدة مرت كغيرها من مدن التاريخ بانتصارات وانكسارات, فالتاريخ يحكي أنها في عام 1667م تعرضت إلى أسوأ مجاعة في التاريخ, وبعد نصف قرن من ذلك, شبّ فيها حريق التهمت ألسنته الطويلة جزءاً من المدينة وتوالت عليها الآلام والعزلة التي بلغت ذروتها في عهد الشريف حسين الذي أرهق السكان بالضرائب المتزايدة عاماً بعد عام ولم يسلم منها حتى حجاج بيت الله الحرام, وشاء الله أن يأتي الخلاص على يد المغفور له مؤسس المملكة العربية السعودية الذي حشد قواته وقسمها إلى ثلاثة جيوش, الأول أرسله إلى حدود العراق وتوجه الثاني إلى حدود شرق الأردن ليمنع ابني الشريف حسين عبدالله وفيصل من إرسال الإمدادات, وتمركزت قوات الشريف بقيادة ابنه علي بعد انسحابها الأول من الطائف, ولكن قوات الملك عبدالعزيز تابعت زحفها وتقدمها لتصل إلى مكة في نوفمبر 1924, واضطر الشريف للتنازل عن الحكم لابنه علي الذي لم يصمد فاستسلم بعد حصار لم يطل, ورفرفت أعلام توحيد المملكة في سماء جدة.

في جدة القديمة التي يرتادها حوالي ألفي سائح وزائر شهرياً, وبينما كنا متحلقين على سطح بيت ناصيف تحت ظلال سقف خشبي وجدران خشبية تتخللها نوافذ كثيرة متوالية تسمى (الطيرمة) نظراً لارتفاعها وقربها من مستوى تحليق الطيور, ارتفع أذان الظهر بمقاطع متجاوبة أو متلاحقة من مساجد كثيرة من كل جوانب جدة ليعطر الآفاق, يا لمساجد جدة ما أكثرها..! قلت مخاطباً سامي نوار فأجابني: إنها أكثر من 26 مسجداً والقديمة منها ستة ذات طراز معماري قديم كمسجد الشافعي في حارة المظلوم, وهذا المسجد مربع الأضلاع ووسطه مكشوف لتوفير الإنارة والتهوية, ومسجد الأبنوس بمحرابه المصنوع من خشب الأبنوس, بني في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه, ومساجد جدة كغيرها في حقب معينة كانت أهم المراكز الحضارية, فيها يلتقي العلماء ويتعلم الأطفال وحولها يكون التوسع العمراني وفي مواسم الحج تكتظ بجموع المصلين القادمين من كل حدب وصوب, خاصة أن جدة بوابة للحرمين الشريفين يدخلها كل عام آلاف من الحجيج وحسب الإحصاءات يخبرنا المشرف على الإعلام بوزارة الحج المستشار فؤاد العنقاوي إنه في موسم الحج الماضي كان عدد الحجاج القادمين عبر مركز جدة 654,596 شخصاً والعمرة موسمها على مدار العام وتستقبل جدة أعداداً لا حصر لها من المعتمرين .وإذا كان العمران القديم في جدة معروفا بطابعه الإسلامي القريب من نفوسنا, فإن عمرانها الحديث الذي ضيّع الهوية أو فقد الطابع الإسلامي من خلال تنوّعه وتعدد أشكاله وترفه لا يخلو من لمسة الجمال التي أضفاها المعماري الحديث على الأبنية الشاهقة والتي يضاهي كل واحد منها سابقه جودة ورونقاً, إلا أن هذه المباني - على حد تعبير المهندس المعماري الشهير في جدة زكي الفارسي - استطاعت أن تأخذ من العمران القديم أشياء محدودة مثل بهو المنزل وسعته وتركت الأشياء الأخرى, حتى الذين ينادون بالتمسك بالأصالة يقطنون منازل عصرية, وإذا تغلب أجدادنا على قسوة المناخ بالرواشين وباختيار حجر البناء والطين, فإن العمران الحالي صار التكييف من أساسياته إلى جانب التقنيات الحديثة, فالجدران - مثلاً - عازلة للحرارة والزجاج المضاعف يحوي فلتراً عازلاً للحرارة أيضاً, وهذا مما يخفف حدة الحرارة ويقلل مصاريف الكهرباء في آن معاً, ومن خلال خبرته يعتبر الفارسي التمسك بالتصاميم العمرانية التراثية صعباً للغاية, فبدل البناء الذي كان يرتفع كحد أقصى لأربعة أو خمسة أدوار صارت أدواره تزيد على العشرة والتوسع العمراني العمودي والأفقي توازيه زيادة في الكثافة السكانية, ففي 1948م كانت جدة طولها كعرضها ليس أكثر من كيلومتر واحد واليوم يدور الحديث حول جدة التي يزيد نطاقها العمراني عن 1200كم2 وعدد سكانها يتجاوز المليوني نسمة, فهي أكبر المدن السعودية بعد الرياض, ولا عجب إذا تنوّعت العمارة الحديثة فيها لأن الخبرات المعمارية نقلها الدارسون من مختلف أنحاء العالم وكل يضيف اجتهاداته, وفي ظل التقنيات صارت الكثير من العمارات مزوّدة بمحطتي تحلية للمياه غير العذبة وتنقية وتكرير للمياه المهدورة ليعاد استخدامها في ري المزروعات أو في سيفونات ومغاسل الحمامات.

ولعل زكي الفارسي محقّ في تفاؤله بمستقبل جدة العمراني في ظل التزايد الملح على المكاتب الإدارية التي يحتاج إليها الخريجون وفي ظل توجه السياحة السعودية نحو الداخل وجدة من المدن الجذابة سياحياً في المملكة, ومع المد العمراني, انتشرت في مختلف أنحاء المدينة القديمة والحديثة الأسواق, فبين المباني تتوزع الأسواق العامة وفيها السلع على اختلاف أشكالها ومصادرها محلية ومستوردة, تجوّلنا في بعضها فانتابتني الدهشة, أحد هذه الأسواق كغابة صغيرة والمحلات تتوزع في هذه الغابة الصغيرة مشكّلة لوحة باهرة تجعل الإنسان وكأنه في أحضان الطبيعة وليس بين جدران صمّاء, وهذا ما يدفعه لارتياد المكان مرات فتغريه المعروضات كما أغرت سائقنا أبو عبدالهادي فاندفع لشراء العطورات التي ضمخت أناقته بالرائحة الطيبة, وهذا ما دفع فيصل الثقفي مرافقنا ليبدأ بمزاحه مع زميلي المصوّر حول العطر ومكانته وتأثيراته على الشباب وغير الشباب.

ومن الخارج جدران السوق مكسوّة بالفسيفساء والرخام المتلامعين تحت الإضاءة المدروسة هندسياً, أما الأسواق الأخرى, فكان معظمها غربي الطابع رغم أنها قد لا تكون غربية من حيث الشكل الخارجي, ومن المؤكد أن هذه الأسواق لا يمكن إلا أن تكون مكمّلة لما حولها من بنيان ولها زبائنها وروادها.

درة العروس

جدة التي تعيش موسماً سياحياً مميزاً استعدت له بأشكال عدة, فبالإضافة إلى إحياء التراث وتوفير الفنادق وسط المدينة الحديثة التي لا تنام, بعيداً عن المدينة تقبع أماكن مميزة كالمنتجعات وهي مما يجعل جدة غير. اصطحبنا مرافقنا وبتوجيه من وزارة الإعلام السعودية إلى درة العروس, درة مصقولة بمعنى الكلمة ومنتقاة بدقة, وراء مشروعها وقف الشيخ صالح كامل وصممها المهندس سعود القفيدي, وهذه الدرة الحديثة ليست من برّ جدة وإنما هي جزء من بحرها تم ردمه ثم شيّدت عام 1996 على شكل اليد الممتدة إلى البحر مستعطفة نسماته الرقيقة بأصابعها السبعة, كل واحد من هذه الأصابع له شكل معين وطراز معماري محدد, فمنها الجداوي القديم ومنها الأندلسي والماليزي والإيطالي, وكل أصبع ممتد إلى جانب أشقائه في البحر, ولكل جزء سكان من شريحة محددة. على أبواب الدرة الحراسة مشددة ولا دخول إليها مالم يكن الزائر حاصلا على إذن مسبق, ولا يسمح بالتجوال في كل الأجزاء, فلكل جزء أصحابه ولكل عمارة مالكوها أو مستأجروها, والحراسة داخل الدرة مستمرة على مدار الساعة, حين دخلت الدرة حسبت نفسي خرجت من جدة خاصة أنها تبعد أكثر من ستين كيلومتراً على طريق المدينة المنورة, وأجواؤها ليست كأجواء جدة, فالعائلات في الدرة ينتشرون حول المسابح وفي الحدائق, ووسط الدرة يقوم فندق درة بيتش بما فيه من خدمات وما يتبعه من مرافق أخرى.

الجولة بدأت من المسجد الكبير في الدرة إثر صلاة العصر لتشمل جزيرة القرية الحالمة ومن ثم إلى شاطئ الرمال ويطل على قرية الحمراء, بعض شقق الدرة يؤجر سنوياً أو شهرياً أو يومياً.

من جزيرة الأحلام بقصورها وشاليهاتها الخاصة بكبار الشخصيات توجهنا نحو مرسى الدرة مارين بقاعة النورس الخاصة بالحفلات الاجتماعية والرسمية الراقية, المرسى الجزء الأكثر شعبية بأسواقه ومقاهيه ومحلاته المتنوعة, وببنيانه الجداوي الطابع, بالقرب من المرسى مستوصف الدرة وقرية القولف والقرية الحالمة وشاطئ المرح, والجميل أن من يريد تشييد مبنى في الدرة عليه ألا يخرج عن الطراز المعماري للجزء الذي سيبنى فيه. في الأعياد والعطل والمناسبات تكتظ الدرة بساكنيها وزائريها, وهي معلم سياحي رائع يدل على مدى الاهتمام بالسياحة.

الخارطة الثقافية والتشكيلية

في الصيف جدة مدينة لا تنام ,تمتد سهرات أبنائها حتى بزوغ الفجر, وكلٌ فيها يغني على ليلاه, فالبعض يقضيها في حفلات زواج الأقارب والأفراح وآخرون يمضون الساعات الطوال مع الأهل والأحبّة في المسامرة وقلة هم الذين يجعلون من الثقافة محور سهراتهم, فوجئت بمحاضرة يلقيها الدكتور محمد المريسي القادم من جامعة أم القرى في مكة المكرمة في نادي جدة الأدبي والثقافي حول النقد المنتمي في الساعة العاشرة والنصف مساء, بعد أن بدأت المحاضرة اضطررت للانسحاب لكي ألتقي مع الكاتب عبدالفتاح أبومدين رئيس النادي فيرسم خارطة مبسطة للوسط الثقافي في هذه المدينة بادئاً بحدودها منذ خمسين عاماً حيث التعليم كان محدوداً والجامعات ليست موجودة, ولم يكن المثقفون أكثر من مجموعة موظفين في دواوين الدولة يعشقون الأدب والقراءة, اجتهادات فردية تتمثل في اهتمام أولئك الأشخاص, وكانت الصحافة مقتصرة على جريدتي صوت الحجاز الصادرة في 1351 هـ وأم القرى. وأما الخارطة المعاصرة للوسط الثقافي في جدة, فقد اختلفت كثيراً عن الماضي, تطوّر التعليم وصارت البعثات رافداً ثقافياً تنقل معارف الغرب.

وبالنسبة لنادي جدة الأدبي والثقافي فهو واحد من اثني عشر نادياً موزعةً في أنحاء المملكة, أسس عام 1975م وتنشط فيه المحاضرات والأمسيات الشعرية والقصصية والنشاطات المنبرية والمسامرات التي تدور حول موضوع يطرح فتثار حوله النقاشات والحوار ولا يكون المشاركون فيها أكثر من عشرين شخصاً, وللنادي دوره في طباعة الكتب والدوريات التثقيفية, واليوم يثابر النادي على نشر عدد من الدوريات أبرزها علامات النقد وجذور في التراث والراوي في القصة ونوافذ التي تحمل ترجمة للأدب العالمي وعبقر في الشعر وهذه الأخيرة لم تستمر. وينظر أبومدين إلى هذا العصر على أنه ليس عصر ثقافة, فالناس منشغلون عنها بالترفيه والترف مع أن الشعوب يصقلها الشغف, وهذا الانصراف عن الثقافة جعل مرتادي النادي قليلين مالم تشدهم شخصية مميزة, كالشاعر الراحل عمر أبوريشة, فحين غرّد بقصائده ضاقت القاعة الفندقية بالحاضرين رغم رحابتها.

النادي الأدبي والثقافي ليس الرئة الوحيدة التي يتنفس من خلالها أدباء جدة ومثقفوها, فإلى جانبه تحفل البلاد بالعديد من المنتديات أو الملتقيات الأدبية الخاصة في منازل بعض ميسوري الحال ممن بهروا ببريق الثقافة, أشهر هذه الملتقيات اثنينية الشيخ عبدالمقصود خوجة وهي ملتقى يعقد يوم الاثنين من كل اسبوع, ولا تحتجب إلا في مناسبات دينية كشهر رمضان وموسم الحج وفي عطلة الصيف من كل عام, بمرارة يقول الأديب عبدالمقصود خوجة إن اثنينيته حجبت للضرورة خلال عام 1411 هـ من جراء الغزو العراقي على دولة الكويت الشقيقة, وكان أول احتجاب لها منذ ولادتها في 1403هـ, ويشبه الشيخ عبدالمقصود خوجة الاثينينية وشقيقاتها ثلوثية محمد سعيد طيب وخميسية محمد عمر العامودي ومحمد سعيد طيب بكوى النور والواحات يلتقي فيها الأدباء والشعراء ورجال الصحافة والفكر, وتشكل أرضية خصبة لتلاقح الأفكار وتواصل الأجيال فكم ناشئ في رحاب الأدب والصحافة أتيحت لهم فرصة لقاء أساطين العطاء الذين انتقل بعضهم إلى جوار ربه أمثال: الجواهري, أبوريشة, الإمام الندوي, ديدات, زكي نجيب محمود وغيرهم, ممن لايزالون يثرون الفكر بعطائهم, وقد ساهمت الإثنينية في توثيق مسيرة حوالي ثلاثمائة عالم وأديب وشاعر وقاص وغيرهم من المبدعين في شتى مجالات العطاء الإنساني, وقد شرفت الاثنينية باستضافة أعلام كبار من مختلف الدول العربية والإسلامية, وهناك مشروع توأمة بين الاثنينية ونادي الجراري في المغرب الشقيق لصاحبه الدكتور عباس جراري, ورغم إيمان السيد خوجة بأن الكتاب سيظل الوعاء الجامع لثقافة كل أمة فإنه يرى في شبكة الإنترنت ما يوفر الكثير من الوقت والجهد في وصول الكتاب إلى كل من يود الاطلاع عليه, لذلك قام بتدشين موقع للاثنينية على الشبكة, ومن خلاله يمكن الاطلاع على إصدارات الأثنينية كلها وقد بلغت ثمانية عشر مجلداً ضمت ما دار في أمسيات التكريم التي يقيمها لرواد الثقافة والعلم والفكر.

وميض الفن

زائر جدة الذي يتجول في ساحاتها وميادينها وعلى كورنيشها البحري مبهوراً بمتحفها المنتشر في الهواء الطلق, لابد له أن يتساءل عن سر هذه اللمسة الجمالية وعن مدى نمو الفن التشكيلي في هذه المدينة التي تنهض على كل المستويات ومختلف الصعد, أسعفتنا الفرصة لنزور معرضاً للفنانة التشكيلية الدكتورة إيناس الخولي أقيم في بيت التشكيليين, وهناك كانت الجلسات المسائية تمتد إلى حوالي منتصف الليل مع عدد من التشكيليين والنقاد أمثال الدكتور محمود الحمزة ,عوض أبوصلاح ,محمد الغامدي وغيرهم, وحول هذا الوسط الجمالي واللوحات المتناسقة على جدران الصالة كنا نتجاذب الحديث مع الفنان عوض أبوصلاح الذي رصد رحلة الفن التشكيلي الحديث النشأة في جدة مبيناً أن بداية هذه الرحلة كانت متعثرة, عدد الفنانين لم يكن يتجاوز أصابع اليد, هذا في مطلع الثمانينيات, ولكن الإعلام بأنواعه شجع وساهم في تدوير عجلة الفن التشكيلي وكان للدكتور محمد سعيد الفارسي دوره التشجيعي أيضاً من خلال تنفيذ متحف كورنيش جدة, ومن خلال اعتنائه بالمعارض التشكيلية وإنشائه بيتاً للفنانين التشكيليين, مما جعل الهواة يهتمون بتنمية مواهبهم. في جدة اليوم توجد خمس صالات لعرض الفنون التشكيلية: المركز السعودي للفنون التشكيلية, صالة آرابيسك, أتيلية جدة للفنون التشكيلية, صالة روشان, الصالة العالمية للفنون التشكيلية, إنها ثمرة جهود شخصية فيما يجيء بيت التشكيليين الذي تشرف عليه الرئاسة العامة لرعاية الشباب ليرعى المواهب الجديدة وينشط الحركة التشكيلية من خلال المعارض والدورات وورشات العمل التي يقيمها للموهوبين والأعضاء وفيه قسم خاص للنساء والفتيات.

باستعراض بسيط لأعمال فناني جدة يبدو اهتمامهم واضحاً بالتراث المعماري وتراث البحر والفولكلور, وأعداد كبيرة منهم اتخذ التجريد منهاجاً لأعماله, وهذا ما جعلني أتساءل: هل وصلوا إلى التجريد عبر مدارس سابقة ولابد من إتقانها كالواقعية والتعبيرية والتأثيرية, يقول أبو صلاح لقد سقط الكثيرون في هذا المطب حين اكتشفوا أن أعمالهم لم تتضح فيها أي رؤية ولم يتقبلها النقاد أوعشاق الفن التشكيلي فانسحبوا ليعيدوا حساباتهم ويهيئوا أنفسهم لدخول عالم التشكيل من أبوابه, وقد قدمت جدة للمملكة وللوطن العربي فنانين تميّزا بأعمالهم وإبداعاتهم, فالفنان عبدالحليم رضوي له منحوتات على الكورنيش, والفنانة صفية بن زغل لها متحف صغير فريد من نوعه في المملكة خاص لعرض لوحاتها, وقد استحوذت أعمال محمد السليم وهشام بنجابي على استحسان النقاد, وأما محمد الغامدي (الصامت المتأمل للحديث وهو ينفث دخان سيجارته إلى جانبي) فقد فازت أعماله منذ شهور قليلة بجائزة بينالي الشارقة الدولي.

التفت إلى الغامدي ليحدّثني عن عشقه للتشكيل وعن عمله الفائز, فيقول: عشقي للفن غرسته في نفسي مجلة العربي من خلال روائع الأعمال العالمية التي كانت تنشرها ولاأزال أتابع هذه المجلة وإضاءاتها على عالم التشكيليين, سافرت إلى أمريكا واطلعت على روائع الفنانين الكبار ثم درست الرسم الواقعي واهتممت باللون وتدرجه وبدراسة المنظور واستفدت كثيراً من دراستي لنظريات فرويد وتحليله النفسي وأعجبت بالفنان الفرنسي دو شامب وبمغامراته الإبداعية, وأما عن تجربتي في بينالي الشارقة, فهي مجموعة أعمال متحررة من اللون والفرشاة, موادها الأساسية الخشب والمعادن والقماش, جديدة في طرحها ويصعب تقليدها, وقد أفادتني دراستي في هندسة الطيران لأكون دقيقاً في تشكيل المواد التي تتكون منها أعمالي المتمرّدة كما يصفها النقاد.

قبل وداعهم دعونا إلى مسابقة ملوَن التي تقيمها الخطوط الجوية السعودية من قبيل تشجيع الفن التشكيلي كل عام ونصف وتقدم للفائزين جوائز مادية لا بأس بها ويتسابق على هذه الجوائز في هذا العام 790 فنانا وفنانة من الفنانين السعوديين والعرب المقيمين في السعودية, ولكن مدة زيارتنا إلى جدة انقضت قبل موعد المسابقة.

الخارطة الثقافية في جدة والتي أضأنا بعض جوانبها اقتضت تسليط الضوء على الإعلام, وهذا جعلنا نزور صحيفة عكاظ ونلتقي مدير تحريرها هاشم الجحدلي الذي تحدث عن الصحافة المقروءة المتمثلة بصحف ثلاث: عكاظ والبلاد والمدينة التي تصدر في جدة, ويعتبر الزميل الجحدلي الكثافة الإعلامية وليدة بيئة إعلامية, فبيوتات المال تتباهى بأنها بيوتات للثقافة وملتقياتها, ولا يضع الجحدلي خطوطاً فاصلة بين الصحف الثلاث مؤكداً أن الصحافة تلعب دورها التثقيفي وتؤدي دورها كصلة وصل بين المواطن وأولي الأمر.

تبقى التربة الخصبة التي تنبت شتلات الثقافة في مدينة جدة هي جامعة الملك عبدالعزيز التي تشكل ركناً أساسياً من أركان النهضة العلمية والحضارية في المملكة, تأسست عام 1968 لترفد خطط التنمية الشاملة بالخبرات التي تستطيع إدارة وتشغيل المنشآت الضخمة والعملاقة التي تحققت في المملكة وتنقسم هذه الجامعة إلى قسم خاص بالطلاب ينفرد بكليات علوم البحار , علوم الارض, كلية الارصاد والبيئة زراعة المناطق الجافة طب الاسنان الهندسة المعمارية, وآخر للطالبات, وتشتمل الجامعة على كليات في مجالات الاقتصاد والإدارة, الآداب, العلوم, الهندسة, الطب, وينفرد القسم الخاص بالإناث بكلية الاقتصاد المنزلي, ويتبع للجامعة فرع في المدينة المنورة فيه كلية التربية, الطب, العلوم, وفرع في تبوك فيه كلية خدمة المجتمع, وفي كليات هذه الجامعة يدرس حوالي أربعين ألف طالب وطالبة ما بين منتظم ومنتسب.

تقنيات بلا حدود

الصناعة والتقنيات في جدة تثبت أن العالم حقاً قرية كونية صغيرة من حيث تبادل المعلومات والتكامل الاقتصادي, وجدة التي تعد سوقاً تجارية لمختلف أنحاء المملكة ورمزاً للنمو المستمر في الشرق الأوسط وأقدم مركز تجاري سعودي, دخلتها الخبرات مع ضيوف الرحمن لاتزال هي الأنسب لصناعات كثيرة تتنوع بين التقنية والمعدنية والتحويلية.

بعض الصناعات تقليدية, وبعضها صلبة تؤديها الآلات بأسلوب تقليدي وبعضها الآخر لابد من إضفاء مسحة جمالية ولمسة فنية عليه, ففن صياغة الذهب والمجوهرات مثلاً الذي تميزت به عاصمة البلاد التجارية جدة من الفنون الراقية التي تأخذ من النحت تشكيل القطعة ومن الرسم كيفية تصميمها ولون الحجر الكريم ومدى ملاءمته للمعدن ولا تزدهر الصياغة إلا في مناطق تلاقي الحضارات, وجدة التي تستقبل الحجيج من مختلف بلاد الدنيا أشبه ماتكون ببوتقة انصهرت فيها الفنون القادمة إليها لتقدم خلاصة فنية ثمينة تزيّن نحور الغانيات.

في أرجاء هذه المدينة تتوزع الورش والمصانع ومنافذ البيع والمحلات التجارية للمجوهرات والذهب وهي سوق جملة لمملكة قاطبة على حد قول جميل الفارسي شيخ الجوهرجية في منطقة مكة المكرمة, سألته: ماذا يعني شيخ الجوهرجية? قال: هو منصب العارف بالأحجار الكريمة والخبير بأنواعها وأسعارها, وأما شيخ الصاغة فهو العارف بالذهب وصياغته.

جدة ومكة تاريخهما التجاري حافل وعريق وهما الوحيدتان اللتان عرفتا تجارة الألماس قبل أكثر من نصف قرن حين كانت خبرة الآخرين تقتصر على الذهب, ومعرفة هذه التجارة يعود الفضل فيه إلى حجاج البيت العتيق فهم الذين جلبوا الألماس كرصيد لهم.

في أسواق جدة على حد ما أخبرنا شيخ الجوهرجية 1400 تاجر تجزئة للذهب والمجوهرات, وهذا رقم ليس موجوداً في أي مدينة سعودية أخرى, وتستورد المملكة سبائك الذهب من بريطانيا وسويسرا وجنوب إفريقيا, وأما الألماس فيحدد قيمته الخبراء بناء على وزنه وشكل قصته ونظافته وصفاء لونه, وأساس فحصه يكون بالعين المجردة وهناك أجهزة مساعدة أخرى, الفحص غاية في الدقة فالمسألة تتعلق بقطعة ألماس نادرة يتطلب الحصول عليها التعامل مع مئات الأطنان من التربة, وتصدره إلى السعودية كل من بلجيكا والهند.

وتتراوح الصناعات الأخرى بين تجهيز أدوات ومعدات الشيشة (النارجيلة) لتصل إلى تجميع شاحنات المرسيدس بنز في مصنع الجفالي الذي يقدم للسوق أكثر من 25 موديلاً من الشاحنات بالإضافة إلى سيارات نقل الموتى المعروفة محلياً بالشرشورة, ويدفع هذا المصنع للسوق المحلية والخليجية أكثر من ألفي سيارة شحن سنوياً, عمالة المصنع من الفنيين السعوديين والهنود والأتراك والباكستانيين وبعض الخبراء الألمان.

جدة والقرية الصغيرة

ولعل أبرز التقنيات التي تربط جدة بالعالم مؤكدة أن العالم حقاً أضحى قرية صغيرة مدينة الملك فهد للاتصالات, فعلى صعيد التقنيات الحديثة التي تواكبها جدة وتسخّرها لخدمة الإنسان بالأسلوب الأمثل تبرز هذه المدينة كشاهد على مدى استثمار التقنيات الحديثة في تطوير البلاد.

افتتحت المدينة هذه في 1987 لتمارس دوراً فعّالاً في توفير الاتصالات الدولية للسعوديين والمقيمين ولتشارك في البث التلفزيوني خلال المناسبات الرياضية والثقافية والدينية في رمضان وموسم الحج وخلال المؤتمرات وغير ذلك مما تلتقطه عبر محطات الأقمار الصناعية.

إلى هذه المدينة الرابضة في أم السلم على بعد 25 كيلومتراً توجهنا على الطريق المتجهة إلى مكة, على البوابة نلتقي المهندس سامي الحيدري مدير المدينة ليعرّفنا على صلة الوصل بين المملكة وجزء كبير من القرية الكونية والتي يسهر على استمرارها جنود مجهولون يرابطون بعيون يقظة أمام أجهزة الكمبيوتر في مركز التحكم الذي يغطي جميع هذه المحطات ويستقبل بلاغات المشتركين إذا وجدت, لكل جهاز في هذا المركز جهاز احتياطي يكون بديلاً في حال تعطل الجهاز الأول, وإلى جانب أجهزة المراقبة تقوم أجهزة مراقبة الطاقة المرسلة من المدينة للأقمار الصناعية, وتوجد أجهزة الخدمة الهندسية التي تمكن المدينة من الاتصال بالمحطات المقابلة.

تحتوي المدينة على:

- محطة جدة 4 إنتلسات المزودة بإمكان الاستقبال والإرسال التلفزيوني وتستوعب حتى 1350 قناة أي تخدم 1350 مشتركاً وتربط المملكة مع دول أوربا.

- محطة جدة 5 إنتلسات تعمل على القمر الصناعي الموجود فوق المحيط الهندي وتربط المملكة بشرقي آسيا.

- محطة جدة 6 + 7 ويتجه أحدهما نحو المحيط الهندي والآخر نحو المحيط الأطلسي, وهذه تؤدي خدماتها للهواتف المتنقلة وتؤمن قنوات هاتفية وتلكسية ومعلومات لمشتركين مزودين بهواتف إنمارسات وهذا الأخير جهاز على شكل حقيبة فيه الهاتف والفاكس, وتعتمد على هذه المحطة اتصالات السفن.

- محطة جدة 8 و 9 عربسات: تربط السعودية بالدول العربية ضمن الاطار الخاص بمنظمة الاتصالات العربية الفضائية.

- محطة جدة 15 مهمتها فك الاختناقات في الاتصالات والتي تحدث غالباً في فترة الحج ولذلك فهي متنقلة.

كل ذلك الشرح نتابعه مع المهندس الحيدري على مخطط للمدينة أو أمام أجهزة مركز التحكم, ثم يتوقف الحيدري مع التطورات الحديثة التي طرأت على المدينة, فمع توسيع المبنى, جلبت الأجهزة الحديثة المعروفة بالـ IDR والتي تضاعف الدوائر وبذلك تتضاعف الخدمات. أتساءل عن الإشعاعات الكهرومغناطيسية وسلبياتها على العاملين في المدينة, فيؤكد المهندس الحيدري أن المبنى محصّن ومعزول عزلاً خاصاً, هذا عدا بعده عن الهوائيات والجدران مع الزجاج معالجة بعوازل أيضاً ولذلك فلا يوجد أي بأس على العاملين في المدينة والذين يبلغ عددهم 68 مهندساً وفنياً ومساعد مهندس.

ترى.. جدة غير!

نغادر مدينة الملك فهد للاتصالات لنعود إلى جدة وبالتحديد إلى مكتب الدكتور زامل أبوزنادة مدير عام الإعلام الخارجي بمنطقة مكة المكرمة ليشدو بقصائده التي تفيض بالرقة والعذوبة أجملها التي يتغزل فيها بجدة وما فيها من محاسن ومفاتن وتراث وحداثة جعلوها دوماً تتميز عن غيرها من المدن وبعد وصفه لكل مكمن من مكامن الجمال فيها يردد البيت الشهير: ترى جدة غير, ومن قصيدة الدكتور أبو زنادة هذه اتخذ شعار مهرجان جدة لهذا العام (جدة غير).

يعتذر لنا الدكتور زامل عن انشغال سمو الأمير مشعل بن ماجد بن عبدالعزيز محافظ جدة حيث لم تتح الفرصة للقاء كنا ننتظره, ومن ثم بحديث منظم يدل على تضافر العاطفة مع الملكة التعبيرية, يصوّر لنا مدير عام الإعلام الخارجي بمنطقة مكة المكرمة النعم التي حبا الله بها مدن المملكة بشكل عام ومدينة جدة بشكل خاص, فمن السعودية تصدر الزهور إلى هولندا وفي السعودية تمتد الصحاري برمالها الذهبية منتظرة لفته من المستثمرين إلى السياحة الصحراوية, وفي جدة البيئة البحرية المثالية التي جعل الله منها لوحة خلاّبة للسياح, ثم شرع يتحدث عن أهمية السياحة أهمية جذب السياح العرب والأجانب وحجم المورد المتوقع من السياحة سيّما أن البلاد تتمتع بمؤهلات سياحية تعد عوامل جذب قوية, ولكن الدكتور أبو زنادة يؤمن بمسلمة مهمة, وهو أن السياحة ليست مجرد بحر أو صحراء وليست زهورا ومنتجعات وإنما هي إنسان, فالإنسان هو عامل الجذب السياحي الأول, وتبقى إذا ما قورنت نشاطاتها ومؤهلاتها السياحية بأي مدينة أخرى. جدة غير...!

تنتهي زيارتنا إلى عروس البحر الأحمر بعد أسبوع حافل بالمودة قبل أن يكون حافلاً بالتعرف على بوابة الحرمين الشريفين, وتمضي بنا السيارة متوجهة نحو مطار الملك عبدالعزيز, أول مطار دولي سعودي بمواصفات عالمية حديثة وبطاقة استيعابية لعشرة ملايين مسافر سنوياً.

جلسنا ننتظر إقلاع رحلتنا وتناولت إحدى الصحف, فطالعتني الصفحة الأولى بخبر مثير لأكبر وليمة كبسة تعتزم جدة إقامتها في الهواء الطلق وذلك ضمن فعاليات مهرجانها, والكبسة السعودية أكلة شعبية يدخل في تحضيرها الأزر واللحم أو الدجاج, هذه الوليمة الكبرى ستدخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية, وستعد لعشرة آلاف شخص وسيبلغ وزنها 850 كيلوغراماً, نازعتني الأماني لحضور مثل هذه الوليمة بين حشود تصورتها على مد النظر, ولكنها بقيت أماني ليس إلا... وبقيت ذكرى عزيزة في نفوسنا, فقد أمضينا وقتاً طيباً وأياماً ممتعة ونحن نتأمل فاتنة سعودية اسمها جدة.

 

 

جمال مشاعل

 
 




صورة الغلاف





عبدالفتاح أبومدين





بحيرة الأربعين وعلى مائها تنعكس أشكال الأبنية الحديثة المحيطة بها





سوق المحمل بهندسته العمرانية وببنائه المقسم على جانبي الطريق





المهندس سامي الحيدري مدير مدينة الملك فهد للاتصالات





في درة العروس.. أوقات المقيمين والزائرين بين المتعة والمرح





الشيخ عبدالمقصود خوجة مستضيفاً الدكتور مصطفى محمود في إثنينيته





من الصناعت اليدوية في جدة "إعداد تجهيزات الشيشة (النارجيلة)"





أمام بوابة الجامعة ينهض هذا المجسم ذو الرموز الكثيرة





الفنان التشكيلي محمد الغامدي





كورنيش جدة حيث الشارع يداعب البحر وتبدو البحيرات الصناعية





 





مصور المملكة العربية السعودية وتبدو فيه مدينة جدة على البحر الأحمر





ساعة البنك الأهلي بشكلها غير التقليدي تعد معلماً للمكان





إطلاله من سوق المحمل على ميدان القطار





د. زامل أبوزنادة مدير عام الإعلام الخارجي بمنطقة مكة المكرمة





ليس حديقة عامة ولا مكاناً للتنزه، وإنما هو أحد أسواق جدة الحديثة





سوق العلوي في المدينة القديمة





أحد أبواب مدينة جدة القديمة





تقاطع شارعي ولي العهد والمدينة ووسط التقاطع تشكل الساعة معلماً بارزاً





بعض تشكيلي جدة في زيارة لمعرض الدكتورة إيناس الخولي