عن الإنسان العربي.. والديموقراطية.. والثقافة

عن الإنسان العربي.. والديموقراطية.. والثقافة

الثقافة سلاح رهيب أمضى من أي سلاح آخر, من يمتلكه يمتلك زمام العالم, ولا يمكن إقامة حضارة إنسانية دون ثورة فكرية تسبقها وتمهد لها.

في حديثه الشهري بمجلة العربي كتب الدكتور سليمان إبراهيم العسكري مقالا بالغ الأهمية بالعدد 509 ـ أبريل 2001 تحت عنوان (الثقافة والإنسان العربي ـ وإطلالة على المشهد الراهن), ويرتكز المقال على دعامات أربع أساسية تعبر عنها المقولات التالية:

* إذا أردنا النهوض من سباتنا الطويل فالعمود الفقري لهذا النهوض هو إعادة الديموقراطية إلى قلب الحياة العربية على مختلف الأصعدة.

* فشلت تماما كل أشكال الرقابة على المادة الثقافية المرئية والمسموعة ليبقى اليتيم الوحيد الخاضع للرقابة والقيود الجمركية هو الكتاب, وقوائم الكتب الممنوعة تتسع باستمرار في معظم البلاد العربية.

* لن تنفعنا الثروة, فثرواتنا كلها لن تنقلنا من موقعنا الهامشي, لأن الثروة الحقيقية ليست في امتلاك المال أو الاستمتاع بالسلع الاستهلاكية, بل هي في النشاط الإنتاجي والإبداعي.

وأرجو أن تسمح لي مجلة العربي بالتعليق على هذه المقولات واحدة بعد الأخرى معبرا بذلك عن وجهة نظري الخاصة:

فبالنسبة للمقولة الأولى التي تنادي بالديموقراطية كأساس للحل, فإن الديموقراطية ليست مسئولية الحكومات فقط, بل هي مسئولية الشعوب أيضا, فبقدر ما تتمتع به الشعوب من علم وثقافة وارتفاع في مستوى المعيشة بقدر ما يتسع من تحت أقدامها بساط الديموقراطية العريض, فالديمقراطية لا تمنح للشعوب ولكن الشعوب هي التي تحصل عليها بنفسها, وليس أصعب على الشعوب المتخلفة أو النامية من أن تنتزع ديموقراطيتها من السلطة, في حين تجدها الشعوب المتقدمة ميسرة ممهدة أمامها, وفي الوقت الذي تبدو فيه الديموقراطية قيمة في ذاتها لا تقبل التعديل أو التجزئة تبدو في أحيان أخرى في صورة نسبية تختلف من شعب لشعب ومن مكان لمكان.. لهذا فمن غير المتصور أن يحصل شعب على ديموقراطيته الكاملة ومعظم أفراده يعانون من الجهل والتخلف, كما أن الحكومات الضعيفة لا تقبل النقد بسهولة, من هنا تتقيد حرية الرأي والتعبير.. إذن فأزمة الديموقراطية يتقاسمها طرفان ـ السلطة والشعب - وكل منهما مطالب بحل مشاكله ومشاركة الآخر في حلها بعدها يأتي تطبيق الديموقراطية التي هي في مصلحة الطرفين.

إذ لا ينبغي أن نلوم الحكومات وحدها, فالحكومات قد يكون لها عذرها ومخاوفها, ذلك أن بعض المؤسسات الدينية والاجتماعية وبعض التيارات الأخرى بل بعض الأفراد المتشددين يتمسكون بكل ما هو قديم ويعارضون الحرية الفكرية حتى أنهم يضغطون على الحكومة والقضاء للتدخل للحد من حرية الكاتب, بل ومعاقبته في أحيان كثيرة, والأمثلة على ذلك كثيرة أيضا, بالإضافة إلى أن التحجر الفكري يقف دائما حائلا دون الإبداع والتطور, حتى لو لم يكن الأمر يتعلق بأسباب عقائدية أو سياسية.

وبالنسبة للرقابة فهي مرتبطة أيضا بالديموقراطية, إذ إن كليهما أشبه بشطري المعادلة (ديموقراطية أقل تعطي رقابة أوسع), والعكس صحيح, ولو يعلم الرقابيون أن مصادرة كتاب قد يكون لها أثرها العكسي في رواج هذا الكتاب وانتشاره لما أقدموا على ذلك, وكان الأجدر بهم أن يثبتوا بالدليل فساد هذا الكتاب, فالحجة تؤخذ بالحجة ولا تؤخذ بالحجب.

كما أن الرقابة هنا تعكس خوف السلطات واهتزاز موقفها, فهي تبدو كمن يحاول أن يحافظ على بقائه واستقراره وينأى بنفسه عن صراع الأيديولوجيات, ولو كانت هذه المؤسسة أو تلك راسخة البنيان لما اهتز لها وتر.. والحقيقة أن الإنسان المثقف يحتاج دائما إلى الرأي والرأي الآخر ويضيره اعتناق رأي واحد, فهذا الكون بل ما فيه من ماديات وأفكار يقوم على مبدأ الضد,.. فلا ينبغي إذن أن نخشى الرأى الآخر حتى لو كان جافيا ومجافيا لرأينا.

أما الأمية الثقافية والعزوف عن القراءة فهما لب المشكلة, ولذلك عدة أسباب منها: اقتحام التليفزيون والأجهزة المرئية الأخرى لكل بيت. منها أيضا وقوع المرء في أسر مشاكل حياته اليومية الصعبة مما حرمه أيضا من نعمة الاسترخاء والتأمل, بالإضافة إلى ضعف متوسط دخل الفرد والارتفاع المستمر لأسعار المجلات والكتب (يشهد لمجلة العربي أنها مازالت تحافظ حتى الآن على سعرها القديم).

وأزمة القراءة أشبه بخيط ممدود الطرفين, يمسك المؤلف بطرفه الأول ويمسك القاريء بطرفه الثاني, فلو كنا نبحث عن حل لأزمة القراءة فلابد أن نهتم بممسكي الطرفين معا وفي آن واحد, ولنبدأ بالكاتب الذي يعاني الأمرين في حياته الأدبية, فمعظم المجلات والصحف مغلقة على عدد من الكتاب بعينهم لا يستطيع أي مؤلف آخر أن يخترق دورها, كذلك الحال بالنسبة لدور النشر فمن الصعوبة بمكان على أي كاتب لا يمتلك القدر الكافي من الشهرة أن يقنع ناشرا بطبع كتاب له ونشره, كما لا يستطيع الكاتب أن يطرق أبواب التليفزيون الصلدة على أصحابها, والقول نفسه ينطبق على المسرح, فكل مسرح له مؤلفه الخاص ومخرجه المتعاون معه دائما وأحيانا منتجة والممثلون أيضا.

فلماذا لا تفتح المجلات العربية الأخرى أبوابها لجميع المفكرين ليكون الإبداع هو الفيصل بينهم وليس الشهرة? إذ إن هناك حقيقة قد تكون غائبة عن البعض هي أن الكاتب الجيد يخلق معه القاريء الجيد, كما أن هذا الكاتب قد يتحول إلى قاريء جيد وهذا هو المطلوب, معنى هذا أننا لو مددنا يد العون للكاتب فكأننا نمد اليد الأخرى أيضا للقاريء بذلك نساهم في حل أزمة القراءة لدينا.

وقد أصاب رئيس التحرير كبد الحقيقة حين قال إن ثرواتنا كلها لن تنقلنا من موقعنا الهامشي, فأنا أرى أيضا أن الثروة التي تهدر في الاستهلاك فقط دون الإنـتاج لا تفيد صاحبها بل تؤذيه, وليس المقصود بالإنتاج هنا هو الإنتاج الصناعي فقط بل الإنتاج الأدبي والفني أيضا, فالثروة التي لا يكون أساسها العمل تصيب صاحبها بالضجر والخمول وأحيانا المرض, وإذا كان المرء يخصص ماله لإشباع حاجاته فقط فلأي شيء يسعى بعد ذلك إذا تحققت له كل حاجاته?.. لابد من وجود الحافز الذي يدفع الإنسان إلى العمل, والحافز لا يصنعه المال بل يصنعه الفكر والتأمل, وهذا هو معنى الثقافة الذي يعمق فينا الإحساس بالحياة.

وأخيرا فإن النهضة الثقافية تسبق دائما النهضة الصناعية, بمعنى أنه لا حضارة إنسانية دون ثورة فكرية تسبقها وتمهد لها, والتاريخ شاهد على ذلك.

 

عادل شافعي الخطيب