مرفأ الذاكرة

مرفأ الذاكرة

رحلة عمر: الحب وحده يهزم الموت

أجل, الحب يهزم الموت, لأنه يحول المشاركة في المطلق إلى نوع من التحقق الشخصي, وهذا هو هدف رحلة المكابدة الطويلة.

آثار الاحتفال التكريمي الذي أحيته أخيراً نخبة من زملائي وأصدقائي وتلاميذي برعاية دار الفكر الفلسفي للدراسات والترجمة والنشر, جملة من الذكريات, أعادتني إلى أيام الطفولة واليفاع والمراحل التي تليها, وهي التي كانت مركونة في زوايا الذاكرة, بعد أن غطتها تكاليف الحياة على مدى عقود المعاناة والمكابدة بين المنطق والميتافيزيقا, في عملية بحث دءوب عن ثالوث: الحقيقة والقيمة والحرية.

وعلى الرغم من الوميض البادي في الذهن حول هذه المسيرة, فقد ترددت أمام التكليف الكريم لمجلة (العربي) الغراء, أن اكتب ما يشبه السيرة الذاتية في هذا الركن المتميز (مرفأ الذاكرة), فما الذي يمكن أن أجلوه في استطلاع محطات وآفاق هذه المسيرة, بعد أن كرّمني الكتّاب والباحثون, في الشرق والغرب, بدراسات شاملة ومعمّقة عنها, ومن هنا فقد خشيت ألا أخرج من هذه التجربة إلا بتعقيب من قارئ لبيب يقول: (مادح نفسه يقرئك السلام).

على أن رغبة (العربي) وهي المنارة الثقافية المتوهّجة على مدى أربعين عاماً من الكويت الشقيق إلى جميع أرجاء الوطن العربي الكبير, حسمت التردد, وهأنذا أتوكل على الله وأكتب.

بيت علم ومعرفة

في حي عريق من أحياء دمشق القديمة يعرف باسم (مئذنة الشحم) كان ميلادي عام 1924 لأسرة عُرفت بأنها من الأسر المتمسكة بأهداب العلم والهدى والصلاح, ذلك أن المرحوم والدي, محمد عطا الله الكسم (1844-1938) كان من كبار فقهاء الحنفية في سوريا, واختير من الحكومة العربية ليكون المفتي العام للديار الشامية منذ عام 1918, وظل فيه حتى وفاته عام 1938.

كان المرحوم والدي يعقد حلقات في المساجد يأتيها الطلاب من كل حدب وصوب, يأخذون عنه, ويفيدون من علمه, وقد أفادت منه طائفة كبيرة من علماء دمشق ورجالها الأعلام, كما كان منزلنا منتدى للعلماء والفقهاء, وكبار رجالات دمشق, تعقد فيه مجالس العلم, وتدور الأحاديث والمناظرات حيث يتطرق الجالسون إلى الوقائع والأحداث التي كانت تنتاب الوطن, يقلّبون فيها النظر, ويستخرجون منها العبر, وقد كان لهذا أثر كبير في نشأتي وطموحاتي, ولهذا جريت منذ مطلع شبابي على عقد ندوة أسبوعية في منزلي, يشارك فيها المثقفون ومحبّو المعرفة صباح يوم الجمعة, حيث يتداولون في قضايا الفكر, ويتبادلون الرأي في أبرز المسائل الثقافية المطروحة على الساحة, وما يتشقق ويتشعّب عن ذلك من مناقشات خصبة.

نحن جيل نشأ في أحضان الثورة السورية, وفي زمن لم يكن يعلو فيه صوت على صوت الوطنية والتحرر, ولهذا كنا, منذ اليفاع, نشارك قومنا همومهم وتطلعاتهم ومعاركهم.

عام خصيب في دار الكتب

بعد نجاحي في الشهادة الثانوية العامة عام 1942, وقبل سفري إلى مصر, تقدمت إلى مسابقة أجراها المجمع العلمي, وتم تعييني موظفاً في دار الكتب الظاهرية, وقضيت فيها عاماً خصباً (1942-1943) حيث تزخر هذه الدار بالنادر والثمين من المخطوطات والمطبوعات, ولم يكن ليدور في خلدي يومذاك آنه سيأتي يوم أحظى فيه بشرف عضوية مجمع اللغة العربية في دمشق.

- في هذا الجو كانت نشأتي, وكان من الطبيعي أن تتلازم هذه النشأة مع نوع من التوق والشغف لطلب العلم وملازمة أهله.

وكانت سوريا في تلك الفترة, في غليان الرفض الدائم للانتداب الفرنسي, تعيش أيامها رفضاً وتظاهرات وثورات, مما أجّج المشاعر الوطنية الزاخرة في نفوس أبناء جيلنا, فشبّوا منادين بالاستقلال والحرية, ورفض أي نوع من أنواع الانتداب أو الاحتلال أو الاستعمار.

كنا نعيش هذه العواطف الجيّاشة ونحن على مقاعد الدراسة, وكانت لديّ قناعة كاملة بأن معركتنا هي معركة على جميع الجبهات, ومنها جبهة العلم والدراسة والتأهيل.

وكان طموحي أكبر من أن يقف عند هذه الشهادة, ولهذا بدأ توقي للسفر من أجل الدراسة والتخصص في مجال الفلسفة التي استهوتني من خلال قراءاتي المبكرة لما كان يقع بين يدي من كتب الفلسفة. كان هدفي أن أسافر إلى أوربا للدراسة, وكانت الحرب العالمية الثانية قد أشعلت نيرانها, وكان مما فرضه الاستعمار الفرنسي علينا أن يذهب الطلاب الموفدون إلى فرنسا فقط, ومع هذا فقد حالت الحرب دون تحقيق ذلك, مما اضطر السلطات الفرنسية لأن تسمح للطلاب بالسفر إلى مصر للحصول على الإجازة الجامعية.

إلى أرض الكنانة

سافرت البعثة الأولى إلى مصر في العام الدراسي (1942-1943) وأذكر أن زميلي الدكتور شاكر الفحام كان بين طلاب تلك البعثة, أما أنا فقد أتيح لي أن أسافر في العام الدراسي التالي (1943-1944), ولعلي هنا أستعير من كلمة للدكتور شاكر الفحام وصفه الدقيق لتلك المرحلة, حيث يقول: (كان الذهاب إلى مصر في تلك الأيام سهلاً ميسوراً, كنا ننطلق من محطة الحجاز بدمشق لينقلنا القطار إلى مدينة حيفا (عروس الساحل وميناء الشام) ـ ردّ الله غربتها وأعادها إلى أهلهاـ ونقضي الليل في المدينة الجميلة ليقلنا قطار ثان من حيفا إلى القاهرة, ليس أمامك حاجز ولا حائل, فدولة العدوان العنصرية لم تكن قد خلقت بعد, والأرض العربية كانت, كما أراد لها الله أن تكون, متصلة الرحاب, موحّدة الجنبات, لا فاصل فيها ولا انفصام).

- أذكر بالمناسبة لقائي مع الصديق شاكر الفحام في إحدى هذه الأسفار, وكنا ننطلق من دمشق إلى القاهرة, وقد لفت نظره أن وجد كيساً كبيراً (عدلاً) ملقى بين الحقائب فسألني:

- ما أمر هذا الكيس?

فقلت له: إنه يحوي مجموعة من كتبي.

فاستبدّ به العجب وقال: إنك كجالب التمر إلى هجر, الكتب في مصر كثيرة, والحصول عليها ميسور, وهي رخيصة السعر, فلم العناء?

فأجبته: اعرف ذلك كله, وإنما أتيت بهذه الكتب لأعود إليها في الأيام الأولى قبل أن أصل إلى مكتبات القاهرة وكتبها, ولم يكن صديقي يعلم أن في ذلك الكيس مجموعة من الكتب القيّمة والنادرة عن الفلسفة والفلاسفة, ولكن باللغة الإنجليزية.

وهكذا كنت أرى في الكتاب خير جليس, وخاصة مع هؤلاء العباقرة أمثال: أفلاطون, وأرسطو, وابن سينا, وابن رشد, وهيغل, وكانت, وبرغسون, واشبنغلر, وهيدجر.

كنت دائما,ً ولا أزال, أحاول متابعة أحدث ما يستجد على الساحة العلمية, وخاصة حول الفلسفة وعلومها المختلفة, بالإضافة إلى الآداب وعلوم اللسان والتاريخ, فعندما أقف على كتاب جديد, أقلبه أولاً, وأنظر إلى فهرسه, وأستعرض مصادره, وأقف عند بعض مواقع منه, أقرؤها متمهّلاً, وخاصة القضايا الشائكة في الكتاب, حيث أتعرّف إلى طريقة المؤلف في المعالجة, وكانت مرحلة التحصيل العالي في القاهرة محطة مهمة في حياتي, وكان سفر شباب سوريا إلى القاهرة سبباً رئيساً في تقوية الأواصر بين القطرين الشقيقين.

التحقت في القاهرة بكلية الآداب - جامعة القاهرة (جامعة فؤاد الأول آنذاك في العام الدراسي 1943-1944) ونلت الإجازة الجامعية في قسم الفلسفة عام (1947-1948) قبل أن أعود إلى سوريا حيث عيّنت مدرسا في اللاذقية (1948-1949), ثم أصبحت عضواً في لجنة التربية والتعليم بدمشق (1949-1950), وتم اختياري بعد ذلك للتدرس في جامعة دمشق (1950-1953), قبل أن أسافر إلى القاهرة في العام 1954 ثم إلى سويسرا (1954-1958) حيث نلت شهادة الدكتوراه وكان موضوع رسالتي (البرهان في الفلسفة), وقد كرّمني الله بأن حظيت الرسالة بأعلى درجات التقدير, ونوّه بها كبار فلاسفة العصر, وصدرت طبعتها الثانية عن دار المطابع الجامعية (P.U.F.) التي تطبع مختارات مهمة من كتب الفلسفة, وقد قام الصديق الأستاذ جورج صدقني بترجمة الرسالة إلى العربية وصدّرها بمقدمة بقلمه البليغ.

مهمة قومية

بعد عودتي إلى دمشق عام 1958, تابعت التدريس في جامعة دمشق, وقد أوقفت حياتي على هذه الرسالة النبيلة والمقدسة, رسالة التربية والتعليم, وقد قضيت هذه السنوات الطويلة مع أجيال من طلابي الذين أصبحوا أسرتي الكبيرة, باستثناء عام قضيته في مصر أيام الوحدة (1958-1959), وأربع سنوات قضيتها في الجزائر (1968-1972) , شاركت فيها مع إخواني الأساتذة السوريين في معركة التعريب, وكنت أعتبر هذا مهمة قومية, كما أوفدت عام 1981 إلى فرنسا وسويسرا لإجراء بحوث في الفلسفة, بالإضافة إلى مشاركات في الندوات والمحاضرات.

وأحبّ أن أشير هنا إلى أن الثقافة في سوريا بشكل عام, لها طابع قومي, بمعنى أن رجالها ينظرون إلى البلدان العربية نظرتهم إلى أمة واحدة, فلا تكاد تجد شاعراً أو قاصّاً يبتعد عن توكيد هذه الفكرة, هذا المنظور للكاتب أو المفكر أو الفنان السوري, يخشى الابتعاد عنه لأنه إن فعل يُتهم بالانحراف عن الخط القومي.

يأتي بعد ذلك الحرص الشديد على اللغة العربية, فالسوريون مشهورون بالحرص على استخدام الفصحى حديثاً وكتابة, إنهم يشعرون بالحرج حين يتكلم الواحد منهم بغير هذه الفصحى, لأنه في الأصل يعتبر الفصحى جزءاً من تكوينه الثقافي, ومن خلال تجربتي الدراسية في مصر, وجدت أن الثقافة السورية في سماتها ومقوماتها قريبة من الثقافة في مصر, وإن كان هناك تباين في استخدام اللغتين الفصحى والعامية, وفي هذا الصدد أعجبتني عبارة للدكتور طه حسين عندما سألوه في سوريا عن الفرق بين الثقافتين المصرية والسورية, فقال: (خاصتنا خير من خاصتكم, وعامتكم خير من عامتنا), ولو أردنا تفسير هذه العبارة لوجدنا أنه ليس في سوريا المستوى الثقافي الذي يمكن أن نجده في مصر, حتى منذ أربعين أو خمسين سنة, عندما كان هناك العقاد وطه حسين والمازني.

في سوريا, هناك اهتمام بالثقافة دون التعمّق فيها, وقد يعجب البعض إذا قلت إن الثقافة السورية أقرب للمصرية منها للبنانية, مع أن لبنان أقرب لسوريا من حيث التقسيم الجغرافي.

وهناك محطة مهمة كرّمني فيها وطني وزملائي في السابع عشر من شهر أكتوبر 1990 عندما تم انتخابي عضواً عاملاً في مجمع اللغة العربية, إنني أعتز بثقة زملائي المجمعيين الذين انتخبوني في جلسة رسمية وبالمرسوم الجمهوري الكريم بتعييني عضواً عاملاً في هذا المجمع.

ردود... وإيضاحات... وتعليقات

وهناك محطات أقف معها بنوع من التكثيف, وأعتبرها مهمة, وفيها ردود وإيضاحات وتعليقات حول أمور ومواضيع طرحها البعض وكان لابد من الرد عليها:

- في كتاب ازدواج الدلالة في الثقافة العربية, أشار جان بول شارنيه في المقدمة إلى أن الأضداد في اللغة العربية مثال يدل على أن الحدود الأساسية في الثقافة العربية ذات مدلول مزدوج كما في المواضيع التالية:

- الأضواء في اللغة العربية.

- الاختلاف في الفقه الإسلامي.

- الجدل في الفكر العربي.

وأحيل القارئ إلى مناقشتي هذه الطروحات في مقالي المنشور ردّاً على مؤلفي الكتاب في مجلة المعرفة التي تصدر عن وزارة الثقافة بدمشق (العدد 149 يوليو 1974).. ونكتفي بالوقوف عند موضوع ما أسموه (الاختلاف) في الفقه الاسلامي إذ ربطه بعض المستشرقين بظاهرة الأضداد في اللغة العربية محاولين تأكيد الازدواج في الثقافة العربية, فهم يشيرون إلى المذاهب الفقهية المعروفة, وإلى مسألة الاعتراف بأنها صحيحة كلها حتى حين تطلق أحكاماً متعارضة في مسألة واحدة معينة, ومن حسن الحظ أن بحثاً آخر في الكتاب نفسه لصاحبه إيفون لينان دي يلفون, يتحدث عن الحالات المزعومة لازدواج الدلالة في الفقه, وعن وجود (الاختلاف) تحت أسماء أخرى في جميع المذاهب القضائية, وكل ما نريد أن ننتهي إليه أن الفقه الإسلامي يكشف عن مرونة خصبة حين يقرر مثلاً أن اختلاف الأئمة رحمة, وأن الضرورات تبيح المحظورات, ففي هذين المبدأين وحدهما ما يشهد بقدرته على استيعاب الظروف المختلفة, وعلى التلاؤم مع مقتضيات الحياة الواقعية, وهذه القدرة هي التي تطبعه بطابع الانفتاح.

- وفي فصل ضاف عن دور الفلسفة في توحيد الفكر العربي, يمكن أن ألخص الغرض من هذه الدراسة بأننا إذا فهمنا من الفلسفة تفكيراً منتظماً لاستشفاف السر الذي يحيط بوجودنا, والتغلب على الشر في صوره المختلفة, وبناء الحياة كأحسن ما تكون الحياة, تبينت لنا صلة البحث الفلسفي باتجاه الحياة الواقعية وقضاياها الرئيسة.

إن تفاعل الفلسفة مع الواقع يفسر لنا لماذا يرافق النهضة الاجتماعية خصب عقلي يعكسها وينعكس عليها.

التجزيئية التيئيسية

طرحت في الخمسينيات مثل هذه المواضيع التي تندرج تحت بند (التجزيئية التيئيسية), مثل الثقافة الشرق - أوسطية أو المتوسطية... ومشكلة الثقافة العربية وما ينقصها وذلك على ألسنة البعض ومنهم مالك بن نبي, وردّاً على هذا الطرح أقول: (ربما استطعنا أن نفهم من ذلك أن العلم العربي لا يملك اليوم مدنية مادية ولا حضارة روحية, غير أن ما ينقصه هو الافكار, ولكننا نسأل الأستاذ ابن نبي: ما الأفكار التي تنقصنا? هنا... يبرز أمامنا مفهومه الإقليمي للثقافة ويرتب على هذا ضرورة قيام ثقافة إفريقية, غير أننا نستطيع أن نقلب هذه العلاقة لنقول: إن الثقافة القومية هي النظرة التقويمية النقدية إلى الأوضاع المدنية والحضارية في شعب معيّن, بغية العمل على أن تتحقق فيه - بصورة متزايدة - القيم الإنسانية المطلقة, وإن الرابطة التي تربط الفرد بأمته, أعمق من رابطة الأخوّة الإنسانية, إنها رابطة المحبة التي يولدها كون الفرد أعطى شيئاً من ذاته لمواطنيه, ولعل حرص المثقف على إشاعة القيم داخل أمته يكون المقياس الصحيح الذي يقاس به صدق حرصه على اهتمامه بمشاكل المجتمع الإنساني, فالثقافة - إذن - موقف فكري مسئول يهدف إلى الارتقاء بالأمة).

لقد جاء هذا في دفاعي عن اللغة ضد الفكر التجزيئي خاصة في ردي على مؤلفي كتاب (ازدواج الدلالة في الثقافة العربية) الذين يقولون فيه إن الهوية هي الخصم الأكبر للأضداد - كما يقول جاك بيرك - في حين أن ظاهرة الأضداد تكاد تكون عامة في جميع اللغات, أما محاولة القفز فوق ذلك لتمييز عقل إنساني عن عقل إنساني آخر, فمغامرة خطرة.

أما أن تقام فكرة الجدل على أنقاض مبدأ الذاتية في العقل, فهذا ما كفّ عنه منذ وقت طويل هؤلاء الذين أغرتهم المحاولة في بادئ الأمر, فاللبس لا يقع في اللغة العربية ولا في العقل العربي, ولكنه يقع في الاكتشافات والتساؤلات الساذجة.

- أما أحوال جدلية الفكر العربي التي يفلسفها الغربيون بأنها إيقاع الفكر الذي ينتقل من الشبيه إلى الشبيه, أو من الشبيه إلى ضده, فأمر يقع بدوره على ظاهرة الأضداد ويضيف إليها ظاهرة التضمين, فالفكر التلقائي عند العرب يدرس المعاني في ترابطها, فهو يثبت بمعنى, ثم ينفيه بإثبات نقيضه, فمعنى الفناء عند الصوفية لا ينفصل عن معنى البقاء, فنجد الفناء إلغاء كاملاً للمخلوق, وفي الوحدة الإلهية نجد البقاء ينفي الفناءين, ويختلف الجدل هنا عن الجدل لدى هيغل في أن عمليات النفي والإثبات لا يتولد بعضها عن البعض الآخر, فالبقاء لا يتعين بالفناء, بل يمكن أن يختلف عنه, وأن الجدل الخاص بالعبقرية العربية ينتقل من توكيدات معارضة بحيث ينفي كل الآخر ويستدعيه في الوقت نفسه, وطابع الانفصال في هذا الجدل يتيح له أن يدرك تشابهاً عميقاً, يتفرّع إلى متعارضات يقف كل منها شاهداً على الآخر, وأسلوب المقابلة في هذه النظرة, أو الجدل الانفصالي, ليس الأسلوب الوحيد أو السائد في الثقافة العربية, ولا خاصاً بالثقافة العربية, بحيث يميزه (جارديه) عن صور أخرى للتفكير الإنساني, وهناك جدل التكامل الذي ينافس دراسة الظواهر الطبيعية, وجدل التضمين المتبادل, وجدل ازدواج الدلالة, وأن قول جاك بيرك هذا يدل على مظهر واحد من مظاهر الفكر الجدلي أراد أن يتصوّر الثقافة العربية مطبوعة كلها بطابعه.

- ماذا على الثورة الثقافية العربية?

- أرى أن على الثورة الثقافية العربية أن تتجاوز أخطار التجارب الأخرى, وأن تبحث على تربية متكاملة تدعم توازن الشخصية وتستوعب أبعادها الفكرية والوجدانية والمعنوية, وهذا يتطلب إشاعة منظومة من القيم الإيجابية تستطيع مجتمعة أن تنمّي في المواطن صلابة (نفسية) تحميه من الانحرافات المختلفة.

لقد ورثنا عن ثقافتنا العريقة مبدأ محاسبة النفس ولابد لهذا المبدأ أن يظل أساساً روحياً للسلوك والعمل, بحيث لا نتحرك إلا في إطار المبادئ والقيم الكبرى, هذه القيم التي تملكنا أكثر مما نملكها, وهي أقوى من أن يبدلها المكان أو الزمان.

- ماذا يفعل الحب?

- الحب وحده هو الذي يستطيع أن يهزم الموت, ومن هنا كان الشعور يتجاوز الزمن في كل فعل يهب الإنسان فيه ذاته, أو يضحي فيه بنفسه, عند ذلك تتم المشاركة بالمطلق, لا عن طريق عملية تجريدية, وإنما عن طريق التحقق المشخص, أي عن طريق نمط من الوجود.

- جوهر الإنسان:

- إن مفهوماً عن العالم والإنسان ينتهي إلى الانتحار أو الجنون, لا يمكن أن يكون صادقاً, ذلك لأنه يهدم في نهاية الأمر إمكان الصدق نفسها, فالثقة بالعقل تتضمن الثقة بالوجود, وما التمرّد على البعث إلا تعبير عن المعنى في جذور الجوهر الإنساني.

- أخيراً... لماذا أنا مقل في كتاباتي?

- سؤال طرحه علي كثيرون, والحقيقة أنه موضوع محيّر بالنسبة لي, وقد حاول الدكتور عزت السيد أحمد أن يتعرض له في كتابه (قراءات في فكر بديع الكسم) من خلال هذا الحوار الذي جرى بيننا عام 1987 وأضعه كما جاء بالحرف الواحد في الصفحتين 35 و 36 من الكتاب:

* لماذا لا تكتب?

- ولمن أكتب إذا لم يكن هناك مَن يقرأ?

* نحن بحاجة إلى خبرتك ومعرفتك.

- ما أريد أن أكتبه أقوله لكم.

* وغيرنا?

- العلم كالدواء, لا يعطى إلا لمن يحتاج إليه, ومَن يحتاج إليه يطلبه.

* أليس من الغبن أن تظل كنوزك الثرّة دفينة?

- لا تهتم, مَن طلبها أعطيناه إياها, ومَن سألنا أجبناه.

 

 

 

بديع الكسم