أرقام محمود المراغي

أرقام

أرانب.. وسلاحف في نهاية القرن العشرين

العدل قيمة إنسانية قديمة، وفي العصور الحديثة نضجت فكرة المساواة بين البشر دون إنكار للفروق الفردية الناتجة عن التفوق. عندما حدثت صدمة النفط عام 1973 - 1974 استيقظ العالم على بؤرة في الجنوب تسترد حقها في ثروتها الوطنية فانعقدت دورة خاصة للأمم المتحدة تبشر بنظام اقتصادي عالمي جديد.. لكن وبرغم تطورات كثيرة وقعت خلال العشرين عاما الماضية فإن ملامح ذلك النظام تبدو الآن فقط أكثر وضوحا، وأكثر ثباتا على الطريق.. مما حتم طرح سؤال العدل من جديد:

أي عدل نبغي، وأي تقارب يمكن أن يحدث بين أبناء هذه البشرية التي قارب تعدادها المليارات الستة، معظمهم في دول الجنوب الأكثر فقرا.

السلاحف تسابق الأرانب

في آخر تقرير عن التنمية في العالم أصدره البنك الدولي 1995 تأتي إشارة واضحة لقضية اتساع الفرق بين الفقراء والأغنياء، وإمكان أو عدم إمكان لحاق الفريق الأول.. بالفريق الثاني.

يقول التقرير إن نسبة دخل الفرد في أغنى البلدان بالقياس لأفقر البلدان قد زادت بشكل مطرد.

بين عامي 1870 و1960 أخذت العلاقة بين الاثنين شكلا آخر.. حتى أصبح متوسط دخل الأكثر ثراء يعادل متوسط دخل الأكثر فقرا بمقدار (38) ضعفا. ولكن في عام 1985، أي بعد ربع قرن من عام (1960) أصبحت النسبة (52:1) أي أن دخل الأثري يزيد على دخل الأفقر بمقدار (52) ضعفا!

البون يزداد اتساعا، ودراسة البنك الدولي تقول أن ما حدث بين البلد الأكثر ثراء والبلد الأكثر فقرا لم يكن استثناء. فبعد دراسة على عينة من (117) بلدا ثبت نفس الشيء.. الأثرياء أكثر قدرة على التقدم، والفقراء أكثر ثباتا عند خط الفقر.. وبما يجعل الأمل ضعيفا في لحاق ننشده بين العالمين.. عالم الشمال وعالم الجنوب، أو عالم الفقراء وعالم الأثرياء.

في التحليل يمكن أن نضع مجموعة من الأسباب تفسيرا للظاهرة التي تم رصدها لقرن وربع القرن.

لم تعد قضية الفقر خارج جدول أعمال العالم، ووفقا لأرقام البنك الدولي أيضا فإن الفقراء فقرا مدقعا الذين يقل متوسط دخل كل منهم عن دولار يوميا يزيد عددهم على المليار نسمة. أي أن هناك مليارا من البشر يفتقدون أساب الحياة اليومية والحقيقية، والسؤال: أي تقدم ننشده من هذه المجموعة ؟

بطبيعة الحال فإن كل الأفراد - أو هكذا نفترض - ينتمون لدول تتصل بالعالم، وترسم خطى التقدم.. لكن ما يواجه الأفراد تواجهه الدول.. فنقطة البدء غير متساوية، والتراكم الرأسمالي والمعرفي اللازم للتقدم لا يتوافر عند الدول المختلفة بنفس القدر الذي يتوافر به عند الآخرين. ولكن.. وقبل الاثنين.. قبل التراكم الرأسمالي والمعرفي، تأتي طبيعة البيئة الاقتصادية لمعظم هذه البلدان وما تفرزه هذه البيئة وما تستطيع أن تبادل به أدوات التقدم من العالم الخارجي.

تاريخيا، كان العالم الثالث يعتمد على المواد الأولية أكثر من اعتماده على الإنتاج الصناعي أو العلمي.

وتاريخا كانت هناك معضلة أسعار المواد الأولية، وأسعار المواد المصنوعة ونصيب كل منهما في الكعكة النهائية التي يقدمها المستهلك هنا وهناك.

ودائما كنا نقول: هناك ظلم دولي فهم يشترون ما ننتجه بثمن بخس.. ويعطوننا ما ينتجون بأسعار باهظة.. وكان النفط مثالا واضحا على ذلك، فلما حدثت ظروف سياسية مواتية وتضافرت رغبة الشعوب في امتلاك ثرواتها مع هذه الظروف السياسية.. عندما حدث ذلك أمكن القفز بسعر النفط إلى أربعة أضعاف.. ثم إلى عشرة أضعاف خلال السبعينات، وأمكن أن يكون لتكتل المنتجين تأثيرهم الدولي.

ولكن.. ما إن مرت بضع سنوات، حتى استعاد المستهلكون الأثرياء سيطرتهم على السوق فتراجع سعر النفط، ولم يتراجع سعر السلعة الصناعية (الذي ارتفع بحجة ارتفاع أسعار الطاقة). ظلوا يقفزون لأعلى، وظللنا كمنتجين للمواد الأولية نتراجع للوراء.. فلما حاول البعض منا تقديم سلعة صناعية تنافس، سدت الأبواب، وأقيمت الحواجز، وتحكمت الحصص!

إنه عصر الأقوياء، يأخذ من الضعفاء ليزيد القوة والمنعة عند فريق.. وليحوم من ثمرات الكد والعمل عند الفريق الآخر بحيث أصبح سعر ساعة العمل في معظم دول الجنوب يقل كثيرا عن نفس الساعة التي يقدمها العامل في الشمال. وجاءت ثورة المعلومات لتضيف بعدا آخر في المأساة وتجعل الجنوب أكثر عجزا عن التقدم.. ثم جاءت قصة الديون التي قدمها الشمال لبعض الوقت، فلما تراكمت وعجز الجنوب عن السداد أصبح الدين وسيلة لفرض السياسة وإعادة تشكيل العالم من جديد!

عالم بلا حدود

الآن ينتقل العالم إلى مرحلة جديدة تتراجع فيها الحدود الاقتصادية.. الأموال تستطيع أن تنتقل، والسلع تقتحم الأبواب المغلقة، والملكية الفكرية وثمن المعلومات أكثر من أي شيء آخر.. أما انتقال الأفراد -الذي يفيد منه الجنوب أحيانا- فتلك قصة أخرى خاضعة للتنظيم والتقنين.. كل شيء يمر.. إلا البشر. هل يتسع البون أم يضيق؟ هل يلحق الفقراء بالأغنياء في ظل نظام اقتصادي عالمي تتحكم فيه مؤسسات دولية بناها الكبار ؟

حلم اللحاق بالأثرياء غير قائم ، ولذا فإن السؤال : هل يتوقف التدهور؟

مرة أخرى نعود لقصة الأرنب والسلحفاة.. ففريق الأرانب لا يريد أن يأخذ بيد فريق السلاحف.. إن التنمية السريعة، التي تزيد من دخل الفرد، وتقل الفوارق والمظالم تعتمد على الرغبة والقدرة.. ولكن لأن مدخلات التنمية لم تعد محلية بأكملها، ولأن تكنولوجيا الشمال وأمواله وأسواقه داخلة في تطوير - أو عدم تطوير - البلدان الفقيرة فإن الرغبة والقدرة المستهدفين يقعان في دائرتين معا: دائرة الشمال ودائرة الجنوب.. والشمال يدرك أن قدرا من التنمية قد أصبح لازما لتوسيع أسواقه لكنه يدرك أيضا أن قدرا أكبر من التحكم يضمن طرد المنافسين المحتلين.. وعندما تصبح الشركات متعددة الجنسيات أقوى من الحكومات، بل وعندما تأخذ هذه الشركات الكثير من وظائف الدولة حتى أن بطاقات الائتمان "الفيزا" مثلا قد حلت مكان النقود في جزء كبير من المعاملات الدولية خارج رقابة الحكومات والبنوك المركزية.. عندما يحدث ذلك فإننا أمام عالم جديد تحكمه المنظمات، وتحرسه الحكومات، ويتحكم فيه عامل الربح أكثر مما تتحكم عوامل السياسة أو قيم العدل والمساواة وحقوق الإنسان.

التوقع، وكما يقول البنك الدولي، أن يزداد عدم المساواة.. وأن يتسع البون، ويتعذر اللحاق الذي ينشده الفقراء.. بمن سبقوهم إلى التقدم.

المعادلة واضحة، فهل نقبل فكرة الاندماج عالميا، ونأخذ الرشوة التي تم تجهيزها لنا.. أو أن ثورة في الإدارات والمعارف، والسياسات لا بد أن تحدث به؟ الاستسلام لا يفيد..

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات