جمال العربية فاروق شوشة

جمال العربية

بات ساجي الطرف
لابن النحاس

غاية ما تذكره عنه السطور القليلة التي تناولته في كتب التراث العربي أنه شاعر عاش في حلب وسافر إلى دمشق والقاهرة. وأن وفاته كانت بالمدينة المنورة سنة 1052 هجرية (الموافقة لـ 1642 ميلادية) ودفن بالبقيع .

ثم تضيف هذه السطور القليلة بعض الملامح إلى صورته الإنسانية والشعرية حين تذكر أنه عاش شبابه لاهيا محبا محبوبا موفور الأدب والجمال والمكانة ثم تزهد وتعبدفي خواتيم العمر. وأن له ديوان شعر تظهر فيه الأصالة والشاعرية، أما ألفاظه فأحسن ما في عصره الذي هبطت البلاغة فيه وهبط معها المنظوم والمنثور.

أما سبب شهرة هذا الشاعر - الذي لم تفض في ذكره المصادر - فهو "بات سجي الطرف" حين رددها المغنون في أزمان متعاقبة ، وشدا الشادون الذين لمسوا فيها كل ما يستثير كوامن الشجن ويوافق شروط الغناء الجميل من جرس جميل وتعبير رشيق وموسيقى منسابة وغزل مفعم بالشوق والحنين.

وهي بهذا المعنى تنتسب إلى تلك المقطوعات الشعرية البديعة التي حولها الغناء إلى أصوات عذبة مبدعة ، كتلك التي جمعها وصنفها الأصفهاني في كتابه الشهير "الأغاني". ووجه الشبه هنا تلك الجاذبية الآسرة التي أتيحت لهذه القصيدة - في نصفها الغزلي الأول " - فإذا بها تصبح نجوى المحبين ومؤنستهم، وباعث بوحهم وشجوهم وإفضائهم، ومهدهد لوعتهم ومعاناتهم، ورسول أشواقهم وأشجانهم إلى محبوباتهم ، يضئ بها ليل الصحراء الحالك، وتتألق بها نجماته الساحرة الحانية، وتمتلئ بشدوها أندية السمار ومجالس الساهرين.

وفتح الله بن النحاس - صاحب هذه القصيدة الجميلة يتفرد صوته الشعري في تضاعيف القرن السابع عشر وكأنه وتر يبحث عن صنوه، ونجم يفتقد مداره ومسراه. إن الإحساس بالغربة الشعرية في زمن يتراجع وتخفت أصداؤه وظلاله يتضاعف ويتأكد، كما أن التفات الشاعر إلى ما حوله يعيد إليه طرفه المرتد حسيرا كليلا، يوشك أن تملأه الدموع وتقهره المعاناة.

والقصيدة تنتسب لموروث الشعر العربي في فن الغزل النسيب وتؤكد انتماءها لقصيدة العذريين وشعراء البادية العشاق ، الذين اتكئوا إلى تقاليد البادية التي توجب احترام المرأة وتوقيرها، والتزموا بقيم الفروسية العربية حفاظا وتصونا، ولم يخرجوا على حدود الشكوى وشرح الحال والتماس التعاطف عند الملتقى - قارئا أو سامعا - لن تجد كلمة نابية، أو معنى مبتذلا، أو صياغة هابطة، وإنما هناك دوما في أبيات القصيدة. وعددها واحد وأربعون بيتا . نفس شعري أصيل، ومروءة وعزة نفس وإباء، لا يتناقض مع انكسار الفارس وخضوعه بين يدي محبوبته، هذا أمر وذاك أمر، والفارس المتجبر في موقف الصدام والنزال هو نفسه الملتمس لرضا الحبيب وصفحه في موقف المناجاة وخطاب القلوب للقلوب.

وعندما ينتقل ابن النحاس - في النصف الثاني من قصيدته - إلى الحديث عن "ابن فروخ" الذي يرى فيه الشاعر مثالا للفتى العربي ونموذجا للنفس العالية والبطولة الشامخة، فإنه لا ينسى نفسه في غمار اهتمامه بممدوحه، وإنما هو يقدم نفسه ويمتدح فنه وشاعريته .

ويبدو أن طيف المتنبي لم يفارق ابن النحاس شاعر حلب، فقد كانت حلبا مسرحا لجولات المتنبي الشعرية وفتوحاته، يوم كانت حاضرة سيف الدولة وقبلة أنظار القصاد، ورمز الصمود والبطولة في وجه إمبراطورية الروم. القوة العظمى في زمانها. وهي. أي حلب. الإمارة الصغيرة التي لا يمكن مقارنتها. شعبا وجيشا. بأمة الروم، لكن شاعرية المتنبي خلدت صورة سيف الدولة أميرا عربيا جميلا ومقاتلا بطلا وذواقة للشعر بصيرا بفنه ولغته، كما خلدت قصيدة ابن النحاس. وهي تغنى زمانا بعد زمان. صورة ابن فروخ، أميره وممدوحه ومفتداه الصادق الطعن الجريء القلب السمح:

بأبي أفدي أميري، إنه صادق الطعن، جرئ القلب، سمح

وهو يعلن في زهو وافتخار أنه بلبل أميره وصناجته ومردد مدائحه، وأنه وحده الذي يثبت في مجال المقارنة والانتقاد. كما تنتقد المعادن والدراهم لتمييز صحيحها من زائفها. إنه إذن مدرك لمنزلته بين شعراء زمانه المتشاعرين غير الموهوبين، وارتفاع قامته بين أقزام الشعر ممن لا يملكون موهبته ولا تأتيه للمعاني البارعة والأبيات السائرة والصور الشعرية الذائقة. يقول فتح الله بن النحاس:

آه من جور النوى، لا سقيت

تعطب الحر، وما للحر نجح

حسنوا القول وقالوا غربة

إنما الغربة للأحرار ذبح

فانتقدني واتخذني بلبلا

مدحه بين يدي علياك مدح

وهو يصف قوافيه بأنها كرائق الندى أو كالمطر الخفيف المنهل قطرة بعد قطرة وتساكبا بعد تسكاب:

بقواف كسقيط الطل، أو

أنها من وجنات الغيد رشح

كل بيت في العلا، كلله

من نفيس الدر والياقوت صرح

وهي المعاني نفسها والصور الشعرية التي امتلأ بها شعر المتنبي في مدائحه لسيف الدولة، وزهوه وفخره بنفسه:

وما الدهر إلا من رواة قلائدي

إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا

فسار به من لا يسير مشمرا

وغنى به من لا يغني مغردا

أجزني إذا أنشدت شعرا، فإنما

بشعري أتاك المادحون مرددا

ودع كل صوت غير صوتي، فإنني

أنا الصائح المحكي والآخر الصدى

ويبدو أن الوترين. وترى الغزل والبطولة. اللذين عزف عليهما الشاعر، كانا معا سببا في شهرة القصيدة وتجاوزها حدود مكانها وزمانها، وإكسابها لصاحبها منزلته المتقدمة بين شعراء عصره، بتحقق المغايرة والاختلاف، والغناء للحب والبطولة يستدعى شجونا ومساحات للتوهج ، ويحرك في سامعه فعل الحياة وإرادة البقاء ودوافع التحدي.

ولابن النحاس ولع بالبديع واهتمام باقتناص فنونه وطرائفه ، في صور الجناس والطباق والتورية، وفي جمال التقطيع والتقسيم، وفي الانتقالات من مقام إلى مقام، ومن طرفة تعبيرية إلى أخرى.. يقول :

بطل لو شاء تمزيق الدجى

لأتاه من عمود الصبح رمح

لأتاه من عمود الصبح رمح

وسطور بلسان السيف يمحو

وقد أشار القدماء . في معرض حديثهم عن حائية ابن النحاس الى قافيتها غير المألوفة ذات الرنين المبحوح، وإلى وقعها في السمع ، المصاحب للشجا والشجن ، وهو التفات ذكي، ينم عن بصيرة بموسيقى اللغة وظلال الكلمات وإيحاءات الحروف، وتكامل التأثير بالفكرة والصورة والإيقاع والجرس والبديع، مما نجد مثالا له ونموذجا جميلا في قصيدة ابن النحاس التي نعرض لها.

بات ساجي الطرف والشوق يلح

والدجا إن يمض جنح يأت جنح

وكأن الشرق باب للدجا

ماله خوف هجوم الصبح.. فتح ..

يقدح النجم لعيني شررا

ولزند الشوق في الأحشاء قدح

لا تسل عن حال أرباب الهوى

يا ابن ودي ما لذاك الحال شرح

لست أشكو حرب جفني والكرى

إن يكن بيني وبن الدمع صلح

انما حال المحبين.. البكا

أي فضل لسحاب لا يسح

يا نداماي وأيام الصبا

هل لنا رجع وهل للعمر فسح

صبحتك المزن يا دار اللوى

كان لي فيك خلاعات وشطح

حيث لي شغل بأجفان الظبا

ولقلب مرهم منها.. وجرح

كل عيش ينقضي ما لم يكن

مع مليح ما لذاك العيش.. ملح

وبذات الطلح لي من عالج

وقفة أذكرها ما اخضل طلح

يوم منا الركب بالركب التقى

وقضى حاجته الشوق الملح..

لا أذم العيس للعيس يد

في تلاقينا وللأسفار نجح

قربت منا فما نحو.. فم

واعتنقنا فالتقى كشح وكشح

وتزودت الشذى من مرشف

بفمي منه إلى ذا اليوم نفح..

وتعاهدنا على كأس اللمى

إنني مادمت حيا لست أصحو

يا تري هل عند من قد ظعنوا

أن عيشي بعدهم كد وكدح

كنت في قرح النوى فأنتدبت

من مشيبي كربة أخرى وقرح

كم أداوي القلب.. قلت حيلتي

كلما داويت جرحا سال جرح

ولكم أدعو وما لي سامع

فكأني عندما أدعوه.. أبح

أشتكي برح الجوى إذ لا أرى

"كابن فروخ" فتى لم يشك ب رح

كل من أسهره.. من رعبه

نومه اليوم بظل السيف سدح

أين منا كان لعابا سيفه

ما له إلا بأعلى القرن مسح

ما مضى حتى لقوا من نسله

لها قبل مساس الجلد.. يلحو

يولد الطفل لهم أو ينتشي

عليه من نقيع الرعب نضح

فإذا قيل "ابن فروخ" ... أتى

سقطوا لو أن ذاك القول مزح

بطل لو شاء تمزيق.. الدجا

لأتاه من عمود الصبح رمح

كم سطور بالقنا.. يكتبها

وسطور بلسان السيف يمحو

بأبي أفدي أميري إنه

صادق الطعن، جرئ القلب، سمح

كل ما قد قيل في ترجيحه

في الندى أو في الوغى فهو الأصح

يا عروس الخيل والسيف.. له

من قراع الخيل والأبطال صدح

يا رحى الهيجاء والخيل.. لها

في حياض الموت بالفرسان ضبح

خط سيف الجود في حظي الذي

هو كالدهر يمني.. ويشح

طالع الأدبار ما لي وله

إن يكن من كوكب الإقبال لمح

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات