أرقام

 أرقام

الحرب الأخرى !

فلسطين المحتلة دولة تحت الحصار, تحاول أن تتنفس فتكتم إسرائيل أنفاسها, تحاول أن تتواصل مع العالم فتقطع تل أبيب أوصالها, تحاول أن تزرع فتسرق دولة الاحتلال المياه, وترسل جراراتها ومستوطنيها لتجريف الأرض ونزع الأشجار, وكأنها حرب مع الطبيعة وليست حربا من أجل التعايش.

ما يجري في الضفة الغربية وقطاع غزة غير مسبوق وتجربة الصراع بين الشعب الفلسطيني تحت سلطته الوطنية وبين الاحتلال جديرة بالتسجيل وهو ما قدمته أرقام أذاعها التقرير الاقتصادي العربي الموحد في نهاية عام (2000).

في ذلك العام, وبالتحديد في نهاية عام (99) وبعد سنوات من تجربة السلام المزعوم وقيام سلطة وطنية في الداخل كان السكان الفلسطينيون قد بلغ عددهم (3,2) مليون فلسطيني بخلاف فلسطينيي المهجر وأرض (1948), وكان الرقم يعني أن الشعب الموجود تحت الحصار قد زاد بنسبة الثلث عمّا كان عليه قبل خمس سنوات من هذا الحصر في عام (1994).

ولكن, وفي اتجاه عكسي كانت فرص العمل تقل, فبلغت البطالة في المتوسط (25) بالمائة من القوى العاملة, وشهد عام (99) تحسّناً استثنائياً, فهبطت النسبة إلى (13%).

وربما كانت أرقام العمل والتعطّل هي الأكثر تعبيراً عن حالة الاقتصاد ووطأة إجراءات الاحتلال, فالقوة العاملة الفلسطينية موزعة بين اقتصاد فلسطيني يتلقى الضربات, واقتصاد إسرائيلي يفتح أبوابه ويغلقها وفقاً للظروف السياسية.

حاصر الإسرائيليون الاقتصاد الفلسطيني فسيطروا على معظم المياه, وجعلوا استغلال الآبار بإذن سابق.

وأغلق الإسرائيليون اقتصاد فلسطين, فبالرغم من زيادة صادرات السلع والخدمات إلى الضعف بين عامي (94) و (95) فإن ذلك قد خضع لأمرين:

الأول لتقلبات الإنتاج الخاضعة لظروف سياسية وأمنية وطبقاً لفتح الحدود أو إغلاقها.

والأمر الثاني, علاقة التبعية مع الاقتصاد الإسرائيلي, حيث يجري الضغط على قطاع الإنتاج الفلسطيني ليوفر خامات ومستلزمات الاقتصاد الإسرائيلي.

وانعكس ذلك على حالة الإنتاج والتجارة الخارجية, وانعكس بدرجة أكبر على حالة العمالة, فقد بلغ عدد المشتغلين من الفلسطينيين في اقتصاد إسرائيل ثمانين ألف مشتغل عام (94), إلا أنه وبسبب التوترات السياسية والإجراءات العقابية الإسرائيلية للمواطن الفلسطيني, فقد انخفض الرقم في العام التالي إلى النصف, واستمر كذلك حتى عام (98) ثم شهد تحسّناً نسبياً عام (99), وإن عاد للتدهور بعد ذلك ومع بداية الانتفاضة الفلسطينية.

***

الاقتصاد الفلسطيني اقتصاد تحت الحصار, لذا فقد تراجع نصيب القطاعات السلعية من زراعة وصناعة, كان المشتغلون بالزراعة يمثلون (21) بالمائة من القوى العاملة عام (94), فإذا بهم ينخفضون إلى (13) بالمائة في نهاية الحقبة. في الوقت نفسه, فقد انخفضت نسبة المشتغلين بالتشييد, وهو قطاع يعكس حالة الاستقرار أو حالة التوتر. وكانت نقطة التحسن في عدد المشتغلين في قطاع الصناعة والتي تعنى بالحاجات اليومية للمواطنين.

السؤال, ووسط تقلبات الاقتصاد وتوترات السياسة والتحرّك تحت مظلة النيران وتهديد المدافع, كيف كانت الحالة المعيشية للسكان الذين ازدادوا عدداً وازدادوا معاناة?

الأرقام الجارية تشير إلى تحسّن في نصيب الفرد من الناتج المحلي, لكن الأرقام كثيراً ما تكون خادعة, فطبقاً للمصدر نفسه (التقرير الاقتصادي العربي الموحّد الذي تصدره أمانة الجامعة العربية ومنظمات عربية اقتصادية أخرى), طبقاً لهذا المصدر, فقد انخفض دخل الفرد أو نصيبه من الناتج بالأسعار الحقيقية انخفاضاً شديداً.

كان نصيب الفرد الفلسطيني من الناتج المحلي (524) دولاراً عام 1994, فهبط إلى (361) دولاراً عام (99), والانخفاض علـى هذا النحو لا يحدث إلا في حالة مرور الدول والبلدان بحالة كوارث فتشهد هذا الانخفاض الحاد.

***

وقد حدث كل ذلك في ظل قيام السلطة الوطنية الفلسطينية التي حاولت أن تجسّد إرادة وتمثل شعباً, وتقدم مشروع دولة, لكنها كانت تواجه حرباً أخرى, هي حرب التجويع.

لقد قامت السلطة الوطنية ولديها مشروع للبناء وحلم للتحرير, وكان أول واجباتها توفير عيش أفضل للمواطنين, لكن الصراع السياسي حال دون ذلك, فطوال سنوات التسعينيات التي شهدت وجوداً للسلطة الفلسطينية وحتى نهاية الفترة الانتقالية في مايو (99), والتي لم تسفر عن انتقال لوضع أفضل. طوال هذه الفترة, كانت إسرائيل تفرض المزيد من الرسوم والجمارك والضرائب التي تتجاوز (150) بالمائة, كذلك كانت سلطة الاحتلال تفرض قيود الفحص والتحليل والمواصفات والمعايير لتحدّ من حركة الاقتصاد الفلسطيني, كذلك, كانت تتحكّم في الخدمات الأساسية من وقود وكهرباء واتصالات, كما تتحكم في المدخلات الإنتاجية الفلسطينية وبنسبة (90) بالمائة, طبقاً للتقرير الاقتصادي العربي الموحد, إضافة للتحكم في نقاط العبور داخلياً, ومع العالم الخارجي.

نحن إذن أمام اقتصاد جرى احتلاله أيضاً, فمقدراته يملكها المستعمر.. لذا, وعندما تبحث السلطة الوطنية عن مورد تغذي به النفقات العامة, فهي لا تجد غير الاقتراض والعون الخارجي الذي تراجع بتراجع فرص السلام.

وطبقاً لقواعد المالية العامة, فإن المورد الأول لموازنة الدولة, أي دولة هي: الضرائب, لكن مساهمة الضرائب المحلية في النفقات قد تراجعت من (61) بالمائة عام (94) إلى (30) بالمائة عام 99.. و... في الوقت نفسه, تزايدت إيرادات المقاصة مع إسرائيل من (22%) إلى (49%).

التبعية إذن تزداد لإسرائيل, فميزانية السلطة أيضاً تعتمد على موارد تحصلها تل أبيب وتصل إلى نصف حجم الإنفاق العام, فإذا كان الأداء الإسرائيلي أيضاً متعثراً, فقد تعثّر كل شيء في الوقت الذي بلغ فيه عدد موظفي السلطة الوطنية ربع حجم القوة العاملة الفعلية, أي بعد استبعاد نسبة البطالة.

أما النتائج السالبة لهذا الوضع فهي منطقية: عجز في الموازنة, عجز في المدفوعات مع العالم الخارجي, زيادة في حجم الدين العام والاقتراض من الخارج.

إنه اقتصاد المأساة, أو اقتصاد الأزمة, وهي الورقة السياسية التي تلعب بها إسرائيل للضغط على الفلسطينيين.

***

وربما كان الاقتصاد الفلسطيني تحت الاحتلال نموذجاً لاقتصاد الأزمة في كل مكان, فبالرغم من أن الأرقام لا تعكس كثيراً ما نسمّيه بند الأمن وتكاليفه, فإنها تقدم باختصار انعكاس فقدان الأمن بالنسبة للحالة الاقتصادية, فكيف تنشط الاستثمارات وغارة جوية واحدة يمكن أن تنسف ما يتم بناؤه? وكيف تعمل رءوس الأموال ونصف الفلسطينيين في حالة بطالة, ومن ثم فلا يوجد طلب كاف في الأسواق أو قوّة شرائية تساعد على رواج المشروعات.

فإذا أضيف لذلك حالة التشوّه التي تجعل اقتصاد فلسطين مربوطاً بحبل (سري) لاقتصاد إسرائيل, لأدركنا طبيعة المأزق الفلسطيني والذي يريد الإسرائيليون أن يجعلوه بمنزلة معادلة تقول: لقمة العيش في مقابل السلام بالمعنى الإسرائيلي, أما التحرير, فتلك قضية أخرى وعلى طلابه أن يدفعوا الثمن.

وقد دفع الفلسطينيون كثيراً, وكان ثمن الانتفاضة غالياً, لكن الاقتصاد السياسي للمعركة بات هو نقطة الخطر.

لقد حاول العالم الخارجي مواجهة الأمر بعون اقتصادي يساعد الأوضاع في الأرض المحتلة, ومن أجل المساهمة في تحرير إرادته السياسية, وبالفعل جرى تقديم ما يزيد على أربعمائة مليون دولار كمعونات ومنح أجنبية في كل من عامي (97 و 98), لكن الرقم أخذ في الانخفاض بعد ذلك بعد أن يئس العالم من الوصول إلى محطة السلام, وبعد أن انتهت الفترة الانتقالية التي كان ينبغي الوصول فيها إلى حل نهائي.

وربما تكون القمة العربية التي انعقدت عام (2000) انطلقت من هذه النقطة: نضال سياسي وحصار اقتصادي, ومن ثم بات الدعم العربي هو البديل.

وقد يتوافر الدعم أو لا يتوافر, ولكن سوف يبقى الذهاب إلى الحقل أو المصنع أو المتجر تحت نيران العدو, وسوف يبقى الحذاء الإسرائيلي الغليظ عند المنافذ ونقاط العبور ورءوس الآبار, سوف يبقى شبح كل ذلك قوى ضغط يصيب الاقتصاد بالشلل.

ورقم
سر الفقر

ثلاثة أرقام تصنع أزمة انخفاض مستوى المعيشة في الوطن العربي: سكان يزيدون بنسبة (2,4%) سنوياً وهو ما يعادل مرة ونصف مرة النسبة العالمية.

في الوقت نفسه, فمتوسط الأعمار يتحسن حتى بلغ (64) عاما, ويرتفع إلى سبعين عاما في بعض الأقطار.

والرقمان يصنعان حاجات معيشية أكثر في الوقت الذي يقل فيه الإقبال على العمل بسبب تخلف المرأة, فلا تزيد القوى العاملة على (36%) من السكان مقابل (50%) في مناطق أخرى.

النتيجة أن كل فرد عربي يعول فردين في مقابل فرد واحد في العالم المتقدم وكثير من الدول النامية.

الكعكة إذن يتـم اقتسـامها على عدد أكبر, وتلك هي المشكلة, والتي تفاقمها نسبة بطالة تزداد ارتفاعاً.

 

محمود المراغي