العلوم الإنسانية وفجر عصر النهضة سليمان إبراهيم العسكري

العلوم الإنسانية وفجر عصر النهضة

العالم الآن يعيش عصرًا تكتسب فيه الدول مكانتها من حيث القوة والنفوذ, طبقًا لما تسهم به وتحصل عليه من بحوث علمية متطورة, تفرز بدورها تقنيات متقدمة تدر على مستثمريها ثروات ضخمة, وتستجلب أنماطًا من المجتمعات الحديثة قادرة على المنافسة في كل المجالات. لكن إدراكنا لهذه الحقيقة - ونحن نتطلع إلى اللحاق بالآخرين - ينبغي ألا ينسينا أن هذا العصر لم ينهض على أكتاف التقدم في العلوم الطبيعية وحدها, فالعلوم الإنسانية وما يكتنفها ويحيط بها من آداب وفنون وفكر, كانت ملازمة لذلك النهوض, بل كانت مقدّمة لفجر هذا النهوض. وهو أمر ينبغي ألا نغفل عنه, مهما كان حماسنا لعصر العلم.

  • قدم عصر النهضة بعضًا من أعظم شخصيات التاريخ الثقافي الأوربي مثل ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو ودانتي
  • إذا كانت نهضة العلوم الطبيعية تمثل صحة الجسد, فإن نهضة العلوم الإنسانية تمثل سلامة الروح
  • النهضة الأوربية لم تبدأ من الصفر, بل قفزت إلى آخر ما توقفت عنده الثقافة الإغريقية والإضافات الرومانية والمساهمات العربية الإسلامية

في أكثر من مقالة سابقة, وجدت نفسي مدفوعًا للحديث عن شروط القوّة والنهوض في هذا العصر, الذي هو بلا شك عصر العلم ومفرزاته واستحقاقاته.

وكانت غايتي في تلك الأحاديث أن أشارك بجهد متواضع في استنهاض كوامن أمتنا العربية للحاق بالآخرين الذين يسبقوننا, خوفًا من أن تتسع الفجوة بيننا وبينهم إلى درجة أن تتحول إلى هوّة مظلمة نتعثر في عتماتها, ويتعملق غيرنا علينا إلى حد الاستباحة والابتزاز, وربما فرض الهوان علينا. ولقد وجدت لأحاديث الاستنهاض العلمي تلك, أصداء إيجابية يبلغ بعضها حد الحماس في تكرار النداء, ولا أقول الشروع في الفعل, فالفعل في هذا المضمار يتطلب مبادرات لا تصنعها صرخات الكتابة, بل إرادات الأمة بنخبها ذات القدرات التنفيذية في مجال يتطلب قرارات واستثمارات وتحديّات وطموحات فاعلة على أرض الواقع. وبقدر ذلك الحماس, أحسست بالتخوف أن يفهم البعض أن نداء النهوض يقف عند حدود العلم والتقنيات ولا شيء سواهما, أي عند حدود النهوض بالعلوم الطبيعية والتغافل عن النهوض في حقل العلوم الإنسانية, وهذا نوع خطير من الفهم إن أغلقنا نداءاتنا عليه. لهذا وجدت نفسي أسارع بما يشبه الاستدراك, للتأكيد على أهمية النهوض في مجالات العلوم الإنسانية التي لا تقل أهمية عن العلوم الطبيعية, فإذا كانت نهضة العلوم الطبيعية تمثل صحة الجسد, فإن نهضة العلوم الإنسانية تمثل سلامة الروح. ثم إن تاريخ النهضة الأوربية, التي أوصلت الغرب وبعض دول الشرق المتقدمة إلى ما هي عليه الآن, يخبرنا - هذا التاريخ - بأن نهضة الفنون والآداب والفكر, كانت الطليعة التي اخترقت ظلمات العصور الوسطى الأوربية, خروجًا إلى الضوء الذي توالت في غماره عصور النهضة والتنوير والثورة الصناعية ومجتمعات ما بعد الصناعة التي يحيط بها الآن هذا العصر الذي هو حقًا عصر العلم.

بواكير عصر

لاشك أن عصر النهضة الأوربي كان المدخل الذي عبر منه الغرب إلى نهوضه الحالي, بغض النظر عن بعض تحفظاتنا الثقافية والأخلاقية عن إساءة استخدام هذا النهوض تجاه المجتمعات الأصغر والأضعف في هذا العالم. كما أن نهوض بعض الدول الآسيوية مدين لهذا النهوض الغربي بما تحقق في الغرب أولاً من نهوض علمي وتقني حديث, مع الاحتفاظ لهذه الدول الناهضة في الشرق بحقّها الأخلاقي فيما بذلته من جهد للحفاظ على قيمها الخاصة وهي تركض في هذا المضمار للحاق بالآخر, الغربي. وعصر النهضة المعني هنا هو مصطلح يطلق على فترة انتقال من العصور الوسطى الأوربية إلى العصور الحديثة. وهذه الفترة تشمل القرون من الرابع عشر إلى السادس عشر الميلادي, ويؤرخ لها في الغرب بسقوط القسطنطينية عام 1453 على أيدى العثمانيين حيث نزح كثير من العلماء إلى إيطاليا حاملين معهم تراث اليونان والرومان الذي غاب عن الغرب إبّان ظلمات العصور الوسطى الأوربية. كما يدل مصطلح عصر النهضة على التيارات الثقافية والفكرية التي بدأت في البلاد الإيطالية في القرن 14م, حيث بلغت أوج ازدهارها في القرنين 15 و16م, ومن إيطاليا انتشرت هذه النهضة إلى فرنسا وإسبانيا وألمانيا وهولندا وإنجلترا وإلى سائر أوربا.

لقد ازدهر شأن النهضة الإيطالية إذ وجدت لها أنصارًا ينفقون عليها المال الوفير ويحيطونها برعايتهم, مثل أسرة ميديشي في فلورنسا وسوفرزا في ميلانو, وبعض البابوات الأكثر تنوّرًا عن سابقيهم وكثير من مجايليهم في روما آنذاك. وبلغت البندقية ذروة ازدهارها الثقافي في أواخر القرن السادس عشر. وكان أن قدم عصر النهضة ذاك بعضًا من أعظم شخصيات التاريخ الثقافي الأوربي مثل ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو, وميكيافيلي - على الرغم من أي تحفظات عن بعض نتاجاته الثقافية - وكان لهذه الحقبة تأثير واسع في الفن والعمارة وتكوين العقل الحديث وعودة واعية للمثل العليا والأنماط الكلاسيكية في الثقافة الإغريقية والرومانية. وفي هذه الفترة تم اكتشاف أراض وشعوب جديدة حيث اتسمت هذه الفترة بظهور طائفة كبيرة من الرحالة والمستكشفين والملاحين منهم الأمير هنري الملاح وكرستوفر كولومبوس وفاسكو دي جاما. وبالرغم من أن مفهوم عصر النهضة Renaissance يعني حرفيًا (إعادة الولادة), بمعنى الرجوع إلى تراث الإغريق والرومان, فإن المولود لم يتوقف بداهة عن النمو, وكان أن بلغ في القرن السابع عشر درجة من التغير الكمّي والكيفي تكاد تكون مفترقة تمامًا عن بداياته ويعبر عنها بمصطلح (الثورة العلمية), وهي مفصل تاريخي مهم لما نحن فيه الآن, حتى أن مؤرخ العلم (الفريد نورث وايتهيد) Alfred North Whitehead في كتابه (العلم والعصر الحديث) ذهب إلى القول إن (الوصف المختصر للحياة الأوربية في القرنين الماضيين, هو أننا كنا نعيش على ما زودنا به عباقرة القرن السابع عشر). ولعله كان يشير في ذلك إلى الإنجليزي فرانسيس بيكون الذي ابتكر أسلوب المشاهدة والتجربة, والفرنسي رينيه ديكارت الذي دافع عن فكرة خضوع العالم لقوانين الطبيعة, ومن ثم إلى جاليليو ومن بعده إسحق نيوتن وغيرهم من الرموز الغربية في هذا المضمار, الذي يتناسى فيه البعض فضل العرب المبكّر, ليس فقط في الحفاظ على التراث اليوناني والروماني الذي عميت عنه ظلمات العصور الوسطى الأوربية, بل أيضًا إسهام العرب إبان عصور نهضتهم الزاهرة في تطوير هذه المعارف والإضافة إليها. ومع احتفاظنا بحق الحضارة العربية الإسلامية التاريخي في الإسهام في نهضة الغرب التي وصلت إلى ما يحدد عناصر القوة المادية في عصرنا, دعنا ننصرف لتتبع بواكير هذه النهضة, لنتأكد من دور العلوم الإنسانية في انطلاقها.

والعلوم الإنسانية من وجهة النظر الأكاديمية في الجامعة هي العلوم المهتمة بحقل واسع من حياة المجتمعات البشرية يشمل: التاريخ والجغرافيا والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والآداب, لكنني في هذه المداخلة أدمج الفنون الجميلة مع هذه العلوم ليكون حديثي عن الإنسانيات شاملا لها جميعًا. وللبحث عن دور هذه الإنسانيات المؤثّر في نشوء النهضة الأوربية, ومن ثم أي نهضة نصبو إليها, أجدني ملتفتًا إلى القرن الرابع عشر في إيطاليا تحديدًا لأستجلي ما حدث في هذا القرن كإرهاص لعصر النهضة الأوربية ومفتتح لها وولادة لما يليها وصولاً إلى عصرنا, ومن ثم أجدني متوجهًا صوب كتابات د.ثروت عكاشة لأن عينه اللاقطة والبصيرة ذهبت عميقًا في أغوار ذلك العصر لترصد أهم تجلياته, وذلك من خلال موسوعته عن (فنون عصر النهضة).

القرن المضطرب.. القرن المختلف

(لقد هَلَّ القرن الرابع عشر على أوربا بملامح شتّى متباينة كانت تُبشّر بمَقْدمِهِ, إذ كان عهدًا من عهود الانتقال بين العصر الوسيط المظلم, وعصر النهضة المُشرق, وكأنّه انتقال من شتاء قحط إلى ربيع خصب). وتركيزًا على البؤرة الأوربية في ذلك القرن - أي إيطاليا - يقول عكاشة: (وفي الحق إنه لم يكن ثمة وجود لإيطاليا من الوجهة السياسية بل كانت (دويلات مدن) تمزّقها المشاحنات والأطماع والحروب. ولم يكتف الباباوات والأباطرة بما بين هذه الدويلات من تنافر بل شطروا كلاً منها إلى طائفتين: جبِلّليين وجولْفيين يدين بالولاء للإمبراطورية الرومانية المقدسة ويشايع البابوات, وامتدت الضغائن لتطغى على كل الأنشطة, فإذا تزيّن الجبلّليون بريشة على جانب من قلنسواتهم وضعها الجولفيّون في الجانب الآخر, وإذا رمز الجبلّليون لأنفسهم بوردة بيضاء, لم يلبث الجولفيون أن يتخذوا وردة حمراء رمزًا لهم, وهكذا).

ومع مرور الوقت, بدأت أوربا تستنشق نسائم عالم جديد, ففي الوقت الذي بدأ فيه بعض المصورين التقليديين في رسم التصاوير الجدارية المرعبة عن يوم الحساب في الآخرة, انبرى آخرون (يستلهمون في تصاويرهم أشد قصص الكتاب المقدّس تفاؤلاً وبهجة, وإذا هم يمثّلون أبطالها بشرًا بسطاء على غرارهم). وعاصر جوتو الشاعر الفلورنسي دانتي الذي خصّه بالثناء ضمن من ذكر في الكوميديا الإلهية. وكان سيموني مارتيني صديقًا لبترارك شاعر إيطاليا العظيم في الجيل التالي وأشهر ما يُعرف به اليوم أغاني الحب الجميلة التي كتبها في محبوبته لورا. وينبغي علينا أن نشير إلى أن تصوير البورتريهات كما نعرفه اليوم, لم يكن له وجوده المتكامل خلال العصور الوسطى, فقد كان الفنان يقتصرعلى تصوير الشكل العام, مسجلاً فوقه اسم صاحب الصورة. ولقد فُقدت صورة لورا, التي رسمها سيموني مارتيني وبات متعذّرًا معرفة ما كان بين الصورة والحقيقة من شبه, إلا أننا نعرف أن هذا الفنان وغيره من أساتذة القرن الرابع عشر, قد مارسوا التصوير محاكاة للطبيعة, وأن فن رسم البورتريه قد لحقه خلال هذه الفترة, التي نحن بصددها تطوّر كبير. كما انخرط كبار المثالين من بيزا في العمل في سيينا وفلورنسا وبادوا وأرتزو, كذلك سعى الموسيقيون إلى مختلف القصور, وتباينت الأساليب الفنية بصفة عامة, وتنوعت مع الأساليب المحلية التي ازدهرت في البندقية وبيزا وسيينا وفلورنسا.

وفي خضم هذا الفيض الفني كانت (أسيزي) - وهي مدينة صغيرة تقع فوق تل صخري خفيض في بقعة ريفية ضنينة الخصب بإقليم أومبريا بوسط إيطاليا - مركزًا جمع شمل الجمّ الغفير من المواهب الممتازة التي عكست تيارات العصر - الفكرية - المتصارعة.

وقد استطاع الطراز القوطي خلال القرن الثالث عشر المحافظة على حال من التوازن وسط ما كان يضطرم به من قوى متصارعة بتطبيق المنطق المدرسي والمعمار الصارم, إلا أن مناخ الانفتاح للصراع الفكري في ذلك القرن, لم يترك حتى العمارة على حالها, فانتشرت تساؤلات مستهجنة عن عدم ملاءمة العمارة القوطية لريف إيطاليا المشمس, وعن مواصلة تمثيل كائنات العصور الوسطى الخرافية البشعة الشائهة. في الوقت نفسه الذي زخرت فيه مصورات الفنان جوتو بالنماذج الإنسانية, وعن الرؤى المتباينة التي انطوى عليها جحيم دانتي وفردوسه في الكوميديا الإلهية, وعن الاتجاهات الجديدة المؤثرة في الشعر والتصوير قبل حقبة (الموت الأسود) وبعدها, وعن المزيج العجيب الذي خلط فيه بترارك صور الفروسية القوطية بشغفه بآداب روما القديمة, وعن حيرته بين التأليف باللغة اللاتينية أم باللغة الإيطالية الدارجة. ولقد شهدت هذه الفترة محاولة جريئة رائدة في المجال الفكري والأدبي هي ميلاد (الكوميديا الإلهية) التي كتبها (دانتي الليجيري) باللغة الإيطالية, فرفع بها هذه اللغة إلى مصاف اللغات الأوربية العالمية, وتعد (الكوميديا الإلهية), أعظم الأعمال الأدبية, التي أثرت في العصور الوسطى من حيث شدة تأثيرها وتنوّع أفكارها والمجالات التي طرقتها, ذلك أنها جمعت بين أفكار فلسفة العصور الوسطى (السكولانية) (المدرسية) وأفكار (الفرنسيسكان) المتسامحين نسبيًا, وثقافة اليونان والرومان القديمة, فإذا أسماء أرسطو وفيرجيل وأوفيد وشيشرون تلتقي على صفحاتها مع أسماء بويثيوس وتوما الأكويني وفرنسيس الأسيزي.

(وتميز شعر دانتي بموسيقاه الخاصة, وبنظرة شاملة إلى الوجود, ونفاذ إلى الأعماق, وبثراء في الأخيلة والصور الشعرية. وكان كثير الترنّم بضوء الشمس ووهج النهار وتألق النجوم وبريق الأحجار الكريمة, وومضات النور ينشرها قنديل في ظلمة الليل, وبآثار انعكاسات الضوء وانكساراته على الماء والزجاج والجواهر, وبقوس قزح وانعكاس أطيافه الملونة على السحب, وبالوهج الأحمر لألسنة نيران الجحيم, وبألق الفردوس الباهر وإشراقة عيون البشر).

إن الكوميديا الإلهية قائمة في بنائها الفني على ثقافة العصور الوسطى, إلا أنها استمدت من عصر النهضة كثيرًا من وجهات النظر, خاصة تلك التي تندد بطبقة الحكام المتسلطين على الناس, وإبرازه للمشاعر النبيلة الإنسانية, وأثرها في رسم حياة البشر, وكان يؤكد على هدفه من ذلك, وهو إزاحة البؤس عن كاهل البشر وتوجيههم إلى طريق الصواب. وكان دانتي عميق الإيمان بالإنسانية, ولم يكن يرى في تصوير عذاب الجحيم إلا إصلاحًا للفساد, وتكفيرًا عن الأخطاء التي ارتكبها المرابون والبخلاء والمتجرون بالدين ممن عرفهم في حياته.

وتميز ذلك القرن كذلك بظهور جماعات فلسفية عدة, كان من أبرزها جماعتان متضادتان في رؤيتهما لتفسير الأشياء وتحديد الواقع.

فذهبت جماعة إلى أن العموميات تنبثق من تعدد الأشياء المفردة, وجادلوا معتمدين على قانون الاستدلال, أي دراسة الوقائع المتفرقة والحالات الخاصة بغية استخلاص المبادئ العامة على العكس من الجماعة الأخرى, التي كانت سائدة وقتئذ, وجادلت أيضًا معتمدة على قانون الاستنتاج, أي البدء بـ (العام) وصولاً إلى الجوهر وهو (الخاص).

وكان من نتيجة ذلك الجدال الفكري أن تهاوى مبدأخضوع الفرد لسلطة الدولة الذي ساد خلال العصور الوسطى, حين كانت آراء أرسطو وآباء الكنيسة بداهات مسلّما بها دون جدال, كما كان يعني بداية التجربة الحديثة لبلوغ الحقيقة مع النظرة الأولى المباشرة سواء في مجال البحث العلمي أو في مجال الفنون, وعلى غرار قصيدة دانتي الشهيرة التي صيغت على نمط (رؤياه) وحملت عنوانًا فرعيًا هو رؤيا دانتي الليجيري, جاءت صور الفنانين في مجالات التصوير والنقش على الحجر, وتشكيل الزجاج المعشق, الملون, والكلمة الملفوظة والأغنية, تعبيرًا مباشرًا عن أحوال ذلك العصر بزّ في تأثيره فيهم أثرها في العقل المعاصر, وبهذا نجد أن من حمل شعلة النهضة الأوربية في القرن الرابع عشر, إنما هم الفلاسفة والفنانون والأدباء.

الإنسانيات.. انفتاح وخصوصية

إن ملابسات القرن الرابع عشر الميلادي في إيطاليا, تقطع بأهمية الإنسانيات كمدخل لاختراق التخلف الذي ساده طويلاً, ومعبر إلى التقدم والنهضة, وهذا ما كان في شأن النهضة الأوربية. ولابد أن قضية الترجمة, بما تنطوي عليه من معرفة باللغات الأجنبية, وهي فرع من العلوم الإنسانية, كانت أداة فاعلة في منجزات عصر النهضة الذي تصاعدت أضواؤه بعد القرن الرابع عشر, وللحضارة العربية الإسلامية في هذا الصعود أسهم ونصيب, فالنهضة الأوربية لم تبدأ من الصفر, بل قفزت إلى آخر ما توقفت عنده الثقافة الإغريقية والإضافات الرومانية والمساهمات العربية الإسلامية. وفي هذا الخصوص, يقول الدكتور محمود الجليلي: إن تأثير الطب والعلوم العربية الإسلامية في عصر النهضة كان استمرارًا لتأثيرها في القرون الوسطى, ولكن بصورة واسعة وكبيرة.

وكان فردريك الثاني, قد توّج إمبراطورًا للإمبراطورية الرومانية المقدسة سنة 1220م, ولكنه آثر السكن في صقلية, وكان له اهتمام خاص بالعلوم, وشجع المناقشات العلمية والفلسفية, كما أنه أسس جامعة نابولي سنة 1224م, وكان فيها عدد كبير من المخطوطات العربية, وانتشرت الثقافة العربية الإسلامية في جامعات أوربا, بما في ذلك باريس وإكسفورد, وتمت ترجمة عدد من الكتب من العربية إلى اللاتينية, وبسبب استعمال الطباعة حوالي سنة1450م, صار الحصول على هذه الكتب متيسرًا, وكانت عاملاً حاسمًا في النهضة.

ويمكن اختيار أواسط القرن الخامس عشر (1450م) بداية عصر النهضة الأوربية التي امتدت إلى الآداب والفنون والعمارة والسياسة والعلوم, وكانت الكتب العلمية والطبية المترجمة من اللغة العربية إلى اللاتينية عنصرًا مؤسسًا في هذه النهضة, وعلى سبيل المثال الواضح, فإن كتاب القانون في الطب لابن سينا من ترجمة جيراد الكريموني, ظل يطبع طبعات متعددة في مدن مختلفة, مما يدل على انتشاره الواسع والحاجة إليه, فقد طبع في ستراسبورج سنة 1473 و1480, وفي ميلانو سنة 1473, وفي بادوا سنة 1476و 1479 وفي البندقية سنة 1482و1486 و1489 و1490, وفي نابولي سنة 1491, وطبع بالحروف القوطية في البندقية سنة 1507. وأعاد الطبيب المتعرب أندرياس الباكوس (Andreas Al-pagus)1450-1522ترجمته من الأصل العربي إلى اللاتينية, وقد طبع بعد وفاته في البندقية سنتي 1527 و1544, وأعيد طبعه سنة 1555 مع بعض التعليقات لابن أخ المترجم بولص الباكوس وبندكيتس رينيوس, مع شرح عدد من المصطلحات فيه, وتاريخ حياة ابن سينا, وطبع في بازل سنة 1556, وطبع الأصل العربي في روما سنة 1593 بالحروف العربية, ومعه بعض تآليف ابن سينا في علم المنطق والعلم الطبيعي وعلم الكلام. مما يؤكد وجود عدد كبير من الأطباء الذين يعرفون اللغة العربية في أوربا آنذاك. وهذا الانتشار للآثار الفكرية والعلمية العربية في أوربا آنذاك, ربما يشير إلى فهم أثر (رسالة الغفران) للمعري في الكوميديا الإلهية لدانتي.

إن مثال كتاب القانون لابن سينا وحده كفيل بتنبيهنا إلى ما تستلزمه النهضة من انفتاح على علوم الغير, وهذا الانفتاح يتطلب أدوات من الإنسانيات, ليست اللغات الأجنبية والترجمة إلا جانبًا منها, فالآداب والفنون هي أدوات من ساحة الإنسانيات تقود ليس فقط إلى الانفتاح الذاتي والنظر إلى الآخرين من حيث ما لديهم من ثقافة ومعرفة, بل تقود إلى حوار صحي مع المحيط العام بما فيه الطبيعة والعالم الواسع, وتكون النهضة محصلة لذلك كله.

ويبقى في التأكيد على أهمية الإنسانيات كطليعة للنهضة, وأداتها الأساسية, أنها الوعاء الحافظ للخصوصية, يستفيد من منجزات النهوض, ويقوى بها, ويحيط الهوية القومية بسماتها الخاصة من تراث ثقافي يتجدد ويظل أصيلاً بعد تجدده, وهو أمر نراه جليًا في تجارب النهضة الآسيوية المعاصرة, ومثالها الأشهر هو اليابان, أما مثالها الأقرب فهو ماليزيا.

إن دراسة تاريخ وإبداعات تجارب الأمم التي تسبقنا في مضمار التقدم العلمي والحضاري تؤكد لنا أن النهضة العلمية والحضارية تقودها إبداعات وأفكار المفكرين والفلاسفة والفنانين والشعراء والأدباء الذين يرسمون الطريق بأفكارهم ورؤاهم المتخيلة للمستقبل, فالعلوم الحديثة, وقبلها القديمة, جاءت أولاً في مخيلة المبدعين من كتّاب وفنانين وشعراء, مهّدوا الطريق للعلماء والباحثين والصناعيين.

ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى أن نطلق العنان لأصحاب الفكر والفن والأدب ليمهدوا طريق النهضة التي طال انتظارها.

 

سليمان إبراهيم العسكري