مساحة ود

في العمر متسع

تلقت مكالمة تليفونية، فهرعت من غرفتها، استمرت تصرخ.. معقول! معقول! أبلغها محدثها أنه مات.

جرت إلى حيث يرقد لتتأكد من الخبر.

أحقا مات، هذا الصديق العزيز الذي استمر يشاغب البشر والحياة، المتدفق بالحيوية والنشاط، الذي لم يترك أحدا إلا واختلف معه على شيء أو جزء من الشيء أو جزئية من الجزء. كذلك لم يترك أحدا إلا واتفق معه على شيء أو جزء من الشيء أو جزئية من الجزء، ملأ الحياة صخبا وضجيجا، ثم مات.

استمرت يومين مشغولة بآخر إجراءات مغادرته الحياة حتى وقفت تودعه وهو يدخل إلى مرقده الأخير، أحست أنها لن تراه، لن تتحدث إليه، لن تقرأ له، فأقرت أنه كان ولن يكون.

كانا من جيل واحد، هو في جامعة وهي في أخرى. هو في كلية وهي في أخرى. هو دارس لعلم وهي دارسة لآخر، لكن لم تنقطع لقاءاتهما، واستمرت مناقشاتهما عن الوطن والأقطار والعلم، ثم عن الإنسان. حاول أن يجذبها إلى أفكاره، وحاولت هي أن تجذبه إلى أفكارها. فشل الاثنان، لكن صمما على الصداقة، عملا في مهنة واحدة فأصبحا زميلين.

بعد أن تأكدت أنه لن يكون، بدأت تكتشف أن الوحدة تحاصرها. تتساقط أوراق شجرة جيلها، ورقة بعد الأخرى.

ذهبت إلى ذلك الطريق الممتد على النهر حيث كانت اللقاءات والمناقشات والاتفاقات والاختلافات. تذكرت كم من مرات ضمهما هذا الطريق بمفردهما، لذا كانا يتحرران من قيود المناقشة الهادئة، فترتفع الأصوات وتتدفق الانفعالات وتحدث الاحتكاكات.

وجدت الطريق وقد امتلأ بالبشر والسيارات. نما إحساسها بالوحدة: مع من ستتحدث؟ وإلى من ستشكو ضغوط الحياة؟

عادت إلى مكتبها، هناك وجدت أعدادا من أبناء الوطن الشبان، هرعوا إليها.. أين كنت؟ ألا زلت تبكين ؟ لماذا أنت شاحبة؟ لا تحزني كثير.

مدت إليهم يدها، مدوا إليها أيديهم. اشتبكت الأيدي. خف إحساسها بالوحدة.

رحل صديق أخ. وجاء أصدقاء أبناء. ستتسع مساحة العمر الباقية لكل هؤلاء.

دعتهم لتناول الشاي، جاءت الأكواب، التقط أحدهم كوبا وبدأ يتذوق الشاي. تماما كما يفعل هو. ضحكت.

نعم ستتسع مساحة العمر لصداقات جديدة.