حرب الخشب وثقافة الثأر القبلي وجدان الصائغ

حرب الخشب وثقافة الثأر القبلي

أن يتحدث عمل روائي أنثوي عن الثأر ومتوالياته المدمرة يعني أنه يعايش لهيب اللحظة الراعفة! وأن يغوص إلى تفاصيله وصوت رصاصاته التي تتسلل إلى شغاف الروح فإن ذلك يعني الرغبة في وخز فضاء التلقي وخلخلة قناعاته من أجل إعادة صياغة الراهن المعيش المدجج بالالغاء! وأن تتحول خناجر الغدر والتربص إلى سيوف خشبية بمعنى أنها تشير إلى بدائية الحدث ولامنطقية احداثه! هذه الافكار وسواها قفزت إلى ذهني وأنا اتأمل رواية (حرب الخشب) للروائية الشابة هند هيثم - الصادرة عن اتحاد الأدباء اليمنيين, صنعاء 2003- وقد جعلت من الثأر القبلي حدثاً مهيمناً يضغط بشراسة على الفضاء السردي ومنذ العنونة التي شكلت الإضاءة الصارخة المكتنزة بمرارة السخرية (حرب الخشب)?! وهي تنقلك الى مناخاتها الملبدة بالوأد الجماعي منذ الاستهلالة المتخمة بحركة النحر المتسللة من الجسد إلى الروح فتكون إزاء ملامح الأم (سليمة) الثكلى بمصرع أولادها الاربعة (محمد وسليم وحسين وعبدالله) وتصميمها على إبعاد الابن الاخير والوحيد (عمر واخته زهرة) - الذي غدا على قائمة المطلوبين للثأر- عن دائرة الحدث الدامي, فنصغي إلى نبراتها الراعفة ونلمح دموع الطفولة التي تغسل عيون عمر وزهرة المبعدين عن حضن الأمومة غلبة وقهراً بل إنك تجد أن المخيال السردي يستعين بالمعادل الترميزي ليفك مغاليق هذه المحنة الإنسانية, تأمل مثلاً صوت عمر وهو يصف لك إحساسات الطفولة إزاء الطريق الذي تجوسه السيارة المنطلقة إلى عدن :

(توقفت زهرة عن البكاء, حاولت تسلية نفسها بالنظر إلى الطريق المظلمة من وراء زجاج النافذة المعتم, كل ما استطاعت تمييزه كان عبارة عن ظلال مبهمة لمعالم الطريق, لم تفتح فمها بكلمة, ولا أنا فعلت, كنت شارداً أفكر في أشياء غريبة غير مترابطة بحيث عجزت عن الإمساك بخيوطها وربطها منطقياً... ص7) من اللافت أن الرواية تستبطن على مدار صفحاتها شخصية عمر /السارد المبعد عن دياره بسبب هيمنة مناخات الثأر وأنواته الموتورة, وفي هذا المشهد تحديدا نلمح توافقاً ترميزياً بين الطريق المطلسمة المبهمة وبين محنة الطفولة إزاء إشكالية الثأر وقد رصد النص صيرورتها تراجيديا إنسانية من صنيعة المكان وأناسيه, فالطفولة الموء,دة بسبب طقس النفي تكون إزاء (طريق معتم + زجاج نافذة معتم + اشياء غريبة غير مترابطة) بل إن إعلان السارد (لم تفتح فمها بكلمة و لا أنا فعلت) إشارة إلى ذروة العجز وتفاقم الإحساس بعبثية القول في عالم مدجج بالإلغاء لمحنا تفاصيله عبر الحدث الدموي الذي تمحورت حوله الرواية ألا وهو مصرع عبدالله الاخ الاكبر لعمر الذي (كان الكل يعرف أنه أوسم شباب العائلة, وأفضلهم واذكاهم وليس له بالعير ولا النفير ص19) بل إنك تجد ان المخيال السردي يتوغل ليستبطن إحساس الانوات التي تتحرك على مسرح الحدث (قتل عبدالله أشاع الحزن والألم والقهر في كل أرجاء أرضنا, كان أملاً منهاراً, وأحس الجميع بشكل غامض بأنهم السبب في مقتل عبدالله, كان عبدالله بريئاً, بريئاً تماماً من كل شيء, لم يكن طرفاً في أي معركة, لم يحمل سلاحاً في حياته, كان يمكن ان يعيش أكثر, لولا أن مفاخرة العائلة الزائدة به جعلته في وجه المدفع والهدف الاول لآل عمر سالم... ص21) بل إن الرواية تجعل من الفضاء السردي مرايا نبصر من خلالها أصابع العتمة وحركة الزناد المتربصة بالإنسان بوصفه أداة لتفريغ هجير الضغينة (كمنوا لنا وكمنوا, والجولة الاخيرة كانت لنا, لم يردوا لفترة, اعتقدنا أن شوكتهم انكسرت, لكن هاهم يردون بغتة و يردون أفضل ابنائنا قتيلاً, تركوه حتى أدى آخر امتحاناته ثم قتلوه انتقاماً منا بعد سنين عدة مما فعلناه بهم في جولة ثأرنا, قتلوه بعد أن أدى آخر امتحاناته (في كلية الطب) ليروا الحسرة على وجوهنا ونحن نقرأ اسمه الاول على دفعة الخريجين, شماتتهم فينا بعد مقتل عبدالله كانت لاتطاق.... ص21) والتنامي الدرامي للرواية يتصاعد بتصاعد الحدث الذي يتقشر عن قتلى وعن قتلى وفي حركة دائرية مفرغة تطحن الآني وترمد الآتي وتسحق الذات في رحى الجماعة الموتورة, تأمل الآتي : (جاء عمي منصور من صنعاء وجلس مع أبي وبقية أعمامي الثلاثة عشر ليتدارسوا ثأرهم لعبدالله, عبدالله قتل في وضح النهار امام الناس في إهانة واضحة ومتعمدة. الرد يجب أن يكون عنيفاً ودموياً وموجعاً كما كان التحدي, كان جرحنا كبيراً وكان عليهم أن يدفعوا ثمن جرحهم الكبير لنا..... ص22) المتن ينتقل واعياً من الضمير المتكلم المفرد (أبي + عمي + اعمامي) إلى ضمير الجماعة (جرحنا + لنا + يدفعوا + جرحهم) ليعكس النص أسلوب صناعة القرار التي تخضع لصوت الدم وغريزة الافتراس والفتك, وقد كثف الرقم ثلاثة عشر المناخات المعتمة الملبدة بشؤم الدمار, إنك إزاء معادلة مغلوطة يكثف المتن أبعادها التراجيدية الجاثمة على وجود الذات الإنسانية المحشورة في دوامة الموت المؤجل الذي قد يتأجج حرباً ضروساً في مواضع شتى من الرواية, لاحظ على سبيل المثال تفاصيل الحدث الراعف الآتي منعكساً على وعي عمر سالم :

(من بين أعواد القش المتشابكة رأيت كيف قتل أخي وابن عمي, رأيت الرصاصة تستقر في الصدر, في موضع القلب بالضبط, ورأيت الدم ينبجس بعنف غزيراً قاني الحمرة من الفتحة الصغيرة التي أحدثتها الرصاصة, ويغرق كل شيء... ص25) يشكل هذا المشهد جورنيكا جديدة اختار لها المخيال السردي اللون الأحمر المتقشر عن عتمة مطبقة بديلاً عن الأسود المباشر ليعكس لنا عمق الخراب النفسي المتولد من إشكالية الثأر بوصفه مزاجاً يمحق الحياة بكل صنوفها ويؤيد وأد الطفولة الرامزة للحظة القادمة, ان هذا المشهد نجح في أن يمنتج أحداثاً دامية وأحاديث محمومة لانوات رمدها النحر الجماعي الذي تموضعت لحظات اتقاده في الإسطبل (ثبتنا لهم, لكنهم كانوا يتصيدوننا كالأرانب, كانوا يتصيدون صغار السن منا خاصة, أوقعنا فيهم عدداً من القتلى لكننا كنا سننهزم, لذلك وفي شبه إجماع جررناهم إلى الإسطبل, هناك وراء أكوام القش والعوارض الخشبية تمكنا من الاحتماء من الرصاص, لم أتمكن من الوصول إلى الإسطبل, بحثت عن مكان اختبيء فيه من الموت الذي يحيطني, وجدت كومة قش كبيرة وسط أعواد القش المتشابكة وحبست أنفاسي رعباً, اقترب عبدالقوي عمر سالم من المكان الذي اختبيء فيه, صوب مسدسه باتجاه القش..., أطلق رصاصتين باتجاه الكومة لكنني لم اتحرك ولو لأتنفس, توجه إلى الشجرة الكبيرة التي كنا نهوى تسلقها, تسلقها بخفة وسرعة قلّ أن تتوافرا فيمن كان في سنه, اختبأ بين أغصانها وبقي هناك ينتظر...... ص24) تتمظهر براعة السرد في نزع السمات الانسانية عن الانوات الموتورة المتحركة على مسرح الحدث بدءاً بالصورة التشبيهية التي قرنت غضارة الطفولة وبراءتها (المشبه) بالأرانب (المشبه به) و الانزياح الاستعاري الذي شيأ اناسي الحدث (المستعار له) بدلالة الفعل المستعار (جررناهم) ومروراً بمكان الحدث (الإسطبل) وانتهاء بالحركة السريعة لعبد القوي في تسلق الشجرة. بل إن المخيال السردي يتفنن في استدعاء الاسطبل بوصفه مكان الحدث الذي يذكي غريزة الافتراس (لم يتحقق النصر إلا بعد الاحتماء بالإسطبل وبأكوام القش والقمح المحصود, تلف جزء من محصول أرضنا كما فقدنا جزءاً من مواشينا وتضرر إسطبلنا بشدة... ص27) زد على ذلك أن المتن يعي تشيؤ الذات الانسانية وصيرورتها هدفا ًلمخالب الثأر وأنيابه المفترسة, قارن الآتي : (بقينا خمسة نسر الناظرين بتفردنا بين أبناء القرية, إلى أن تصيد الرصاص إخوتي واحداً تلو الآخر, فلم أحتمل البقاء بجوار قبورهم وهجرت القرية التي نشأت فيها تماماً ص86) وقد يخلق المخيال السردي وبوعي حاد ومكابدة فنية عالية توافقاً سردياً بين عبدالله الذي اختطفته رصاصات الثأر في اليوم الاخير من امتحاناته في كلية الطب ونورس هذا الفتى اليافع المفعم بالبراءة, لاحظ الاتي : (صعقت عندما رأيت نورس تحت ضوء النهار, كان مراهقاً في نحو الخامسة عشرة, شديد الشبه بأخي عبدالله إلى درجة التطابق, لم أره جيداً من قبل..., متى صار (نورس) يشبه عبدالله?! حينما كان صغيراً لم يكن بينه وبين اخي أي شبه... حتى الصوت صوت عبدالله... تأكدت تماماً من التطابق العجيب بين نورس وأخي عبدالله..... ص 82) يخلق المتن في هذه المواءمة الايحائية توالداً جيلياً ينبيء بتكرار حدث الموت المباغت, تأمل الآتي : (سألت (نورس) ذات يوم لماذا سموه نورس فأجابني أن أباه رأى نورساً يطير فوق البحر منعزلاً عن رفاقه يوم ولادته فسماه نورس, عبدالله كان يحب طائر النورس كثيرًا... ص 82) من اللافت أن المتن يتفنن في ربط خيوط البنية السردية لتكون إزاء محنة جديدة للذات منذ الولادة, فثمة إحساس بالاغتراب (وحيداً) وثمة رغبة بالانعتاق من إسار المكان يتمظهر في مساحة البحر اللامتناهية بل إنك تستشعر بأن المتن يعلن عن عبثية الجهد الفكري الذي يجابه بالوأد الجسدي, فعبدالله المجتهد الحالم بغد ثقافي واسع يتضاءل ليكون بحجم نورس هذا الفتى الذي يترك الدراسة ويتفرغ للصيد إلا أن مصرعه الذي يسبق مصرع عمر سالم سارد الرواية وبطلها يعزز الرؤية بعبثية الثقافة في خضم راهن ملبد بالدم والرصاص, تأمل الآتي : (في أحد الايام كان نورس يسحب شبكة الصيد المملوءة بالسمك, عندما رأى بطرف عينه نورساً يغطس بسرعة هائلة في البحر, لم يخرج النورس من الماء, كان لون النورس غريباً جداً لدرجة أن نورس تسمر وهو ينظر إليه أثناء هبوطه الذي لم يستغرق غير لحظة خاطفة. عندما لم يظهر النورس فوق الماء ألقى نورس بالشبكة إلى الماء وقفز من القارب سابحاً إلى حيث غطس النورس. نورس لم يعد أبداً, ولم يجدوا جثته... ص104) يخلق هذا الحدث السوريالي والغرائبي من الفضاء السردي أفقاً مرآوياً نبصر من خلاله أزمة الذات الإنسانية المحاصرة بخناجر الثار, فأنت في حضرة نورس (الفتى) تكون قبالة عبدالله جديد يخطفه بحر الدم, وأنت في حضرة النورس (الطائر) تكون إزاء أكثر من معادل ترميزي فثمة الطائر الغريب الذي يكثف اغتراب الذات ونشوزها عن السرب المندفع صوب هاوية الثأر, وثمة الفريسة (الصيد السمين/ الموت الزؤام) التي بقيت رهينة البنية الغاطسة, وثمة البحر الذي اختطف النورسين (الفتى + الطائر) ليكون موازياً لطوفان الدم الذي يبتلع الذات الإنسانية روحا وجسدا (لم يجدوا جثته) لتغدو رقماً بائساً لايخضع إلا لمقياس الفناء والعدم. وهو مشهد ينجح في أن يوقد في ذاكرة التأويل فيضاً من الأسئلة لعل أهمها هو: هل كان هذا الطائر الغريب هو الحدث الدامي بعينه الذي فجر فخاخ الثأر فجعل نورس الرامز لجيل بأكمله أن يلقي بشباك الحياة ليكون فريسة سهلة لوحوش البحر, وأقصد طقوس الثأر وأعرافه?!. وربما عزز هذا التأويل استدعاء المتن حركة الزمن الدائرية, فمأساة اليوم هي مأساة الأمس والغد معاً, قارن الآتي :

(اتصلت بي زهرة تستشيرني في اسم مولودها الثاني, قلت لها إن تترك تسميته لأبيه هذه المرة فقالت إن أباه ترك لها مهمة تسميته وتسمية جميع الاطفال الذين قد يأتون بعده, سمه نورس... ص104) يفتح التوق إلى تسمية الجنين - الرامز إلى الآتي بكل تفاصيله -نورساً في الذاكرة ثقوباً لاتشعب, لنكون قبالة حركة دائرية مفرغة للموت بدءاً بعبدالله (النورس الترميزي) ومروراً بنورس (الفتى) وانتهاء بـ (نورس الجنين) وعبر دوامة تتكور حول الموت بوصفه الحدث الدامي الذي سارت نحوه وبوعي درامي معظم شخصيات هذه الرواية التي تقفل على مشهد مصرع بطلها وساردها, تأمل الآتي (قتل ماهر عبدالوهاب, فعلها عمي منصور, سأقتل الآن بماهر, لابد للحفاظ على شرف القبيلة من أقتل.... غادرت البيت إلى المحطة... في الطريق قابلت جاري صالح المنصور الذي كان قادماً ليدعوني لزفاف ابنه... قبلت الدعوة بابتهاج وحماس وهنأته من كل قلبي وأنا أرقب بطرف عيني سيارة هيلوكس حمول نصف طن تقف عند رأس الحارة ويخرج منها ثلاثة مسلحين..... ص106) إن إقفال الرواية على سطر مخروم بخمس نقاط يحيل الى حركتها صوب تشغيل النبر الطباعي الذي يعكس لنا اخترامات الجسد الغض تحت وابل من الرصاص الحي, بل إن هذه الاخترامات التدوينية تنجح في أن تشرك مخيال التلقي في تشغيل ذاكرة التأويل لاستنتاج ماسيحصل.

وقد يتعرض المخيال السردي إلى إشكالية فساد الدور - على حد تعبير النسق الفلسفي- حين يورد: (حرب ثأرنا, حرب الخشب, اكملت اربعين عاماً, تماماً كحروب العرب الشهيرة, حرب البسوس, وحرب داحس والغبراء, كلها دامت أربعين عاماً, واختلط الحابل بالنابل, فلم يعد أحد يعرف من الظالم ومن المظلوم, ومن المعتدي والمعتدى عليه... ص76) يتحرك الزمن السردي على أكثر من مستوى, فثمة العتبة التقويمية المتمظهر في (أربعين عاماً) وثمة العتبة النفسية التي تربط بين طروحات الراهن المعيش المتخم بطقوس الثأر وبين الجاهلية الأولى (حرب داحس والغبراء + حرب البسوس) لنكون قبالة فساد الدور المنبثق من (فلم يعد أحد يعرف من الظالم ومن المظلوم, ومن المعتدي والمعتدى عليه...), إذ إن الكل ظالم لنفسه ومظلوم بوقوعه في شرك تصفية الجسد, وقد يضيء الحوار بين عمر سالم وأخته زهرة حول مسوغ تسميته باسم عدوهم اللدود إشكالية فساد الدور مرة أخرى, قارن الآتي :

(مدت يدها والتقطت دفتر محاضراتي, قرأت الاسم على الغلاف بصوت عال : عمر سالم../رفعت رأسي إليها.. / دعي دفتري..

تركته ثم قالت بهدوء

- عمر

- نعم

- ليس غريباً أن يسميك أبي عمر?!

- لماذا?!

- اظنه لم ينتبه إلى أنك ستسمى عمر سالم

- لماذا?!

- أنت تعلم.. آل عمر سالم.. الثأر وما إلى ذلك.. حتمًا لم يكن ليسميك عمر لو انتبه إلى أن اسمك سيكون عمر سالم.

- لقد انتبه إلى ذلك..

- وسماك عمر?!

- نعم

- على اسم من?

- ماذا تعنين?!

- أعني أن عمر ليس اسماً شائعاً في العائلة, فأنت الوحيد المسمى عمر

- منصور شرير وأبي لايريد لأبنائه أن يكونوا كعمهم.. قلت لك سماني عمر لأكون عمر سالم, تماماً على اسم عدوه..

سكتت قليلاً تشاغلت بالعبث بأوراقي

-دعي أوراقي وشأنها, وقولي لي مالذي جعلك تفكرين في هذا?!

-لاشيء أحاول ترتيب تاريخ العائلة وتوضيح كل كبيرة وصغيرة فيه بشكل منطقي, لكن اسمك قفز فجأة وأخل بنظام العائلة المنغلق على ذاته حتى في الأسماء....ص56) يشتغل هذا الحوار على إذكاء فساد الدور بمعنى ان الجد عمر سالم (المعتدي / القاتل) هو الحفيد (المعتدى عليه / المقتول) المحشور في دوامة الثأر المفرغة وهي تسحق الوجوه المتشابهة التي تحيا في ظل الهم الواحد والمكان والمعتقد الواحد والطموح المشترك وتقع فريسة ناموس القتل الجماعي.

بل إنك تجد أن الفضاء السردي يتكيء الى تقنية المعادل الترميزي من خلال التركيز على اليد بوصفها أداة للقتل والبناء معاً إلا أن الرواية وعبر تناميها الدرامي تجعل التلقي يجري مقارنة بين خشونة يد عمر سالم (سارد الرواية وبطلها) وبين صفاء يد غريمه ماهر عبدالوهاب فالأول الذي اقترف جريمة قتل عبدالقوي عمر سالم كبير قبيلة الخصم بعمر الرابعة عشرة في خضم معركة ساخنة نشبت بين آل عمر سالم وقبيلته بعيد مصرع شقيقه عبدالله تبدو يده خشنة متصلبة, لاحظ الآتي:

(تصافحنا, أمسك يدي الجافة الخشنة المعروقة بكلتا يديه ثم سألني :

- ماذا تعمل?!

- حالياً طالب جامعي..

ولكنني كنت أعمل في الحقل في قريتنا قبل أن آتي إلى هنا.. ص 50) يجمع هذا المشهد بين الغريمين (عمر سالم وماهر عبدالوهاب عبد القوي عمر سالم) والمخيال السردي يعي خشونة يد عمر وجفافها بسبب من اقترافها خطيئة القتل استجابة لطقس الثأر إلا أنه يخطف فضاء النص صوب الدور الحقيقي لهذه الكف في البناء وإعمار الأمكنة (كنت أعمل في حقل قريتنا) وأما الثاني ماهر عبدالوهاب عبدالقوي عمر سالم فقد أضاء المشهد الآتي المنعكس على وعي عمر سالم نقاء يديه: (مشينا صامتين بعد ذلك, وطوال الطريق ظل يتأمل يديه الشمعيتين الناعمتين اللتين صارتا عقدة حياته بعد ذلك... ص68) هي اليد مرة أخرى إلا انها يد بيضاء لم تقترف جرم السقوط في شرك الثأر, بيد أنها في العرف السائد مخضلة بالخطأ لأنها لم تنسق إلى طروحات الدم المدججة بالإلغاء, فبقيت هاربة من قدرها حتى انفصلت عن دورها في بناء الكون, لذا تجد المتن يورد وبمايشبه السخرية المريرة : (كان قد اشتغل (ماهر) عامل بناء خلال الفترة التي لم أره فيها لا لشيء إلا ليكسب يديه بعض الخشونة, اكتسبتا بعض الخشونة لكنهما ظلتا رقيقتين شمعيتي المظهر, ولاحظت أنه دوماً يحاول إخفاءهما عندما يتكلم... ص70) إن عملية إخفاء اليد تنجح في أن تستبطن إحساسات ماهر, هذه الكينونة الناصعة التي ترفض الانصياع إلى منطق الرصاص والبطش في تحقيق عدالة القصاص, لذا فإن اصطراعاً نفسياً حاداً يتحرك بين وعيها الحاد بسبب من مرجعيتها الثقافية والعقائدية بخطأ خرائط الدم التي يرسمها الثأر وبين إحساسها بالذنب لأنها قد خرجت على عرف الثأر حين انفصلت برؤاها عن الجماعة.

وخلاصة القول, فإن رواية (حرب الخشب) للروائية هند هيثم قد استطاعت أن تلامس تراجيديا الثأر ودواماته الشرسة ومنذ العنونة التي سخرت من صيرورة الثأر طوفاناً يجتاح الأمكنة وأنواتها فلا يتركها الا هشيماًُ تذروه الرياح, وقد أعلنت الرواية في اكثر من مفصل عن رؤاها إزاء مايحصل على الأرض ومرارتها وهي ترقب انفلات فراشات الحضارة واحتراقها في هجير الثأر, هذا الحدث الكارثي العابث بشراسة بإنسانية الذات البشرية ووجودها..

 

وجدان الصائغ