من يهودية الدولة حتى شارون عزمي بشارة عرض: محمد صلاح غازي

من يهودية الدولة حتى شارون

دراسة في تناقض الديمقراطية الإسرائيلية

هذا الكتاب هو مساهمة بحثية في تحليل إشكاليات وتناقضات نظام الحكم في نقاط تقاطع السياسة مع الاقتصاد والأيديولوجية السائدة في حالة خاصة هى حالة إسرائيل.

يحلل الكتاب بنية الديمقراطية اليهودية إلى عناصرها المكونة. وتتناول عملية التفكيك أوجها متعددة لنشاط الدولة كعملية بناء للأمة من خلال الاقتصاد والعناصر والأفكار المكونة للأيديولجية السائدة وغيرها. والكتاب مساهمة نقدية واعية لموقعها الذي توجه منه النقد. ولكن النقد ليس مجرد نشاط غير موضوعى. ففي حالة تولده عن عملية تحليل تستخدم فيها أدوات العلوم الاجتماعية وتضيء جوانب من العملية الاجتماعية والسياسية التي تحققها الأيديولوجية الرسمية, هو مساهمة عملية وبحثية في فهم الدولة والمجتمع المعنيين. وهو بالتأكيد لايقل حرصًا على الموضوعية العلمية عن الإنتاج البحثي الإسرائيلي في الشأن الإسرائيلي, وإن كان يتضمن بعدًا أيديولوجيًا فهو بالتأكيد لا يزيد على البعد الأيديولوجي القائم في الأبحاث الأكاديمية الإسرائيلية.

من هذا المنطلق تأتي أهمية وخطورة هذا الكتاب لمؤلفة د. عزمى بشارة, العضو العربي في الكنيست الإسرائيلي, والصادر خلال العام 2005م, عن دار الشروق بالقاهرة. يتناول الفصل الأول من الكتاب تشخيص تناقضات الديمقراطية اليهودية بشكل عام, ويحدد البنيوية منها, وأهمها الطبيعة الكولونيالية وعلاقة الدين بالدولة وما يشتق منها. ويؤكد د.عزمى بشارة, أن إسرائيل ليست دولة ديكتاتورية, ولا دولة يحكمها العسكر, ولا دولة حزب واحد. وإنما دولة تتوافر فيها انتخابات برلمانية عامة ونسبية, يمثل كل حزب في برلمانها بعدد من المقاعد تماثل نسبته من الأصوات, وهى أكثر طرق التمثيل البرلماني تمثيلاً لنسب الأحزاب من الأصوات ولتوازنات القوى الحزبية, إذ تعتبر البلاد كلها منطقة واحدة, ويتم التصويت لقوائم حزبية وليس لأفراد.

صراعات حاضرة

ويذهب مؤلف الكتاب, إلى ان هناك مواجهة متعلقة بمكانة القيم الليبرالية في النظام الديمقراطي, مازالت محتدمة وتعتبر من إشكاليات الديمقراطية اليهودية المعاصرة, وتتقاطع مع ثلاثة صراعات أساسية دائمة الحضور في هذه المواجهة: - الأول هو الصراع حول العلاقة بين الدين والدولة, والثاني هو الصراع على تضييق الحريات أو توسيعها ومدى خضوعها للمسألة الوطنية وقضايا الأمن التى قد تتخذ شكل سياسات احتلال قمعية حينًا آخر, والصراع الثالث هو الصراع بين مساواة المواطنين ويهودية الدولة.

وقد ازداد احتدام الصراع الأخير فيما يتعلق بالمواطنين العرب بين البرلمان والمحكمة العليا في العقدين الماضيين. ويكشف د.عزمى بشارة عن التناقضات البنيوية في الديمقراطية اليهودية كحالة جمهورانية تجمعها قيم استيطانية جمعية من نوع تقديس الأمن والخدمة العسكرية والقيم العسكرية وسهولة نشر الشعور بالتهديد والاقتصاد الاستيطاني الاشتراكي الطابع, والخضوع لمصلحة المجموع الى درجة فرض الرقابة الذاتية, وصعوبة الخروج على الإجماع.. وجميعها عناصر معيقة للديمقراطية.

ومن الإشكاليات الرئيسية في الديمقراطية الإسرائيلية, إشكالية المواطنة ويهودية الدولة. وهي تنقسم الى إشكاليتين: - الأولى أن يهودية الدولة تستند إلى عدم الفصل بين الدين والقومية, وتقود بالتالي إلى عدم الفصل بين الدين والدولة. والثانية أن الدولة ليست يهودية فقط بحكم الأغلبية اليهودية فيها, بل أيضا بحكم كونها دولة اليهود. أي أن إسرائيل بحكم رؤيتها وتعريفها لذاتها ليست دولة جزء كبير من مواطنيها, وهي في الوقت ذاته دولة كثيرين ليسوا مواطنين فيها.. بعد. وتعني هذه الـ (بعد) أن الدولة ترى لذاتها مهمة أيديولوجية في إقناع هؤلاء أن (لهم دولة) غير الدولة التي يعيشون فيها عليهم أن يبادولها الولاء والانتماء وأن ينتقلوا إليها.

الإشكالية الاولى هي إشكالية عدم تمكن الدولة من تحقيق المساواة.

أما الإشكالية الثانية فهي إشكالية المواطنة المؤدلجة, المواطنة الصهيونية.

ويفترض أن المواطنة في الديمقراطية الليبرالية محيدة أيديولوجيًا ويحاول المنظرون المحافظون الجدد في إسرائيل, ومنهم من كان يتمسك بمواقف ليبرالية فيما يتعلق بحقوق الفرد, ومنهم من كان في الماضي يساريًا, أن يضفوا طابعًا عاديًا على حالة العلاقة بين اليهودية والديمقراطية, وأن هذه حالة طبيعية بين اليهودية والديمقراطية, مؤكدين على أن هذة حالة طبيعية لـ (دولة قومية). وقد برزت هذه الأقلام بشكل خاص لدى مناقشة مسألة (دولة المواطنين), أو (الدولة لجميع مواطنيها), واستثنائية العلاقة بين الدين والدولة في إسرائيل.

ومن ثم فإن د.عزمى بشارة قد عالج في فصلين متتابعين من هذا الكتاب تناقضًا بنيويًا أساسيًا واحدًا - من تناقضات الديمقراطية اليهودية - وهو علاقة يهودية الدولة بديمقراطيتها وأصول هذا النتاقض الفكرية, بما في ذلك مسألة العلاقة بين التطرف السياسى والغيبية الدينية.

يناقش الباب الثاني من الكتاب (النزعة الأمنية), ومركب الأمن في المجتمع والدولة. إن سحر كلمة الأمن في إسرائيل, هو سحر عصي على القياس بالأرقام. فكلمة الأمن تبرر كل ما يمكن تبريره بالقانون الطبيعى الذى يفترض أن يبرر القوانين والأحكام والأنظمة كمرجعية أخيرة, ولكن إذا ذكرت عبارات مثل (الدواعي الأمنية), (حاجات أمنية) فإن هذا كفيل باختزال الكثير مما يفترض أن يقال ويثبت ويبرهن حتى أمام المحكمة العليا.

فالعمل بأنظمة الطوارئ الانتدابية يبرر الأمن, وكذلك مصادرة الأرض, ومنع الدفاع من الاطلاع على الأدلة في المحكمة, فسحر كلمة الأمن يفعل فعله حالما يتم النطق بها, وتتغير تعابير الوجوة حال سماع الكلمة, ويتخذ كل الحديث مجرى آخر.

القومي والثقافي

ومن الإشكاليات ذات الأهمية, التى طرحها د.عزمى بشارة, (جدلية العولمة إسرائيليًا), فلم تكن الثقافة السياسية في إسرائيل في يوم من الأيام معادية لعملية العولمة الجارية في عالمنا أو مستنكرة لها, كما الحال في الوطن العربي, بل ويثير اتخاذ المواقف من العولمة سلبًا أو إيجابًا, أو تأييدًا, الابتسام في إسرائيل المنشغلة بتأسيس موقعها الاقتصادي ضمن هذه العملية الجارية بتوتر مستمر, مع صورة وتطور الثقافة السياسية السائدة في المراكز الصناعية المتطورة.

تقدم إسرائيل المثال الأكثر تطرفًا على أن عملية العولمة لا تؤدي بالضرورة إلى زوال الحدود القومية, بل تؤدي إلى ردة فعل للحفاظ عليها وإلى محاولة تثبيت الحدود القومية كحدود ثقافية عن طريق تعميق البعد الإثنى الباحث عن الأصل (الدينى في الحالة الإسرائيلية) المشترك للجماعة القومية كجماعة عضوية متخيلة, وذلك كبديل لبعد السيادة والدولة كعامل أساسي في تشكيل الهوية والقومية الحديثة.

حاولت القيادة الصهيونية التاريخية العلمانية استخدام مفهومي الدولة والسيادة في عملية إعادة خلق الهوية اليهودية كهوية قومية تنضم إلى الأمم الأوربية الحديثة, بهذا المعنى فهمت الصهيونية التاريخية ذاتها كعملية نفي يهودية الشتات كجماعة دينية مقدسة تعيش على هامش القوميات الناشئة في أوربا. ولكن الصهيونية العلمانية التي انطلقت من الحاجة الى تأسيس قومية يهودية حديثة -وليس من وجود مثل هذه القومية كما يعتقد بعضهم خطأ - لم تستطع في ذروة علمانيتها التخلص من التطابق التام بين الانتماء الديني والانتماء القومي للأمة التي يراد تأسيسها بإقامة الدولة. وقد تجلى ذلك منذ البداية بأن كان (نفي الشتات) صهيونيًا عودة إلى رموز ما قبل الشتات في (مملكة يهودا) و(أرض إسرائيل) التوراتية في عملية علمنة لأساطيرها ورموزها.

وعلى الرغم من أن إسرائيل تعتبر محطة الإنترنت الثانية حجمًا بعد الولايات المتحدة في العالم, فإن هذه الحقيقة لم تغير من طبيعة يهودية الدولة والمجتمع. وكما اجتازت العولمة حدود الدولة القومية مبرزة موضوع الهويات المحلية والثقافية في دول أوربا والولايات المتحدة, كذلك اكتشفت اليهودية ذاتها في هذه الأقطار, وبدأت تبحث عن تحديد لهوية يهودية تتجاوز الالتزام بطقوس الديانة اليهودية في الأحوال الشخصية, وبخاصة أن اليهود في هذه البلدان العلمانية غير ملتزمين بهذه الطقوس. هنا يعاد اكتشاف إسرائيل عالميًا كمحور لهذه الهوية اليهودية المعولمة, وتتم صهينة الهوية اليهودية في الغرب وفي الولايات المتحدة بشكل خاص بمعنى التضامن والتماثل مع إسرائيل, فهي حاجة تحتمها الهوية الثقافية في دولة ديمقراطية ليبرالية تحتمل التعددية الثقافية إلى جانب المواطنة المشتركة.

لقد كانت الصهيونية منذ البداية حركة أوربية تجتاز الحدود القومية في أوربا نحو هوية قومية معولمة, ولكن انتصارها كحركة بين الجماعات اليهودية المنظمة في العالم تم بعد أن اكتسحت عملية العولمة الجارية الحدود القومية عبر وسائل الاتصال والشركات العابرة للقارت, وبعد أن تم تفتيت الثقافة القومية إلى تعددية ثقافية تندرج ضمنها اليهودية أيضًا. من ناحية أخرى وفي إسرائيل نفسها, فإن النهج السياسي نفسه الذي بنى الاقتصاد والمجتمع والدولة في إسرائيل على أسس حديثة, أدى بسياسته التوسعية وفي بحثه عن أيديولوجيا تبريرية لها إلى التطابق بين (أرض إسرائيل) ودولة إسرائيل الدنيوية المحتلة.

يقف د.عزمي بشارة خلال الفصل الرابع على طبيعة تحولات السياسة الإسرائيلية المعاصرة بناء على ما سبق طرحه في الفصول الأولى من الكتاب. تلك التحولات التي طرأت على معالم الخارطة السياسية الإسرائيلية الجديدة التي توطدت منذ العام 1977م إلى تثبيت نشوء معسكرين, (يمين ويسار), حول الـ (ليكود) و(العمل), أي نحن إزاء (نظام المعسكرين) وليس (نظام الحزبين). وتدور في فلك كل حزب منهما مجموعة أحزاب صغيرة ومتوسطة أكثر أيديولوجية منه تشد به إلى اليمين أو إلى اليسار.

مرورًا بمرحلة انتصار الوسط ونهاية حقبة الاستقطاب فقد انتصر باراك في الانتخابات لرئاسة الحكومة العام 1999م (هذه حقيقة. ولكن الادعاء أن (اليسار انتصر), والذهاب إلى حدوث (انقلاب سياسي) في إسرائيل, والزعم أن قوى السلام في اسرائيل هزمت قوى الحرب كانت كلها تفسيرات لهذه الحقيقة وليست الحقيقة بحد ذاتها).

ويطرح علينا د.عزمى بشارة هذا السؤال البالغ الأهمية, ماذا يعني سعي باراك بعد فوزه, بعد مقتل رابين بثلاث سنوات, وبعد مرحلة حكم نتانياهو, لإقامه حكومة ائتلاف واسعة تسعى لأن تستند بشكل واضح إلى أغلبية برلمانية يهودية وبتحالف مع (المفدال) بالذات? من ناحية المنطق, عبر باراك عن استنتاج التيار العمالي داخل المجتمع الإسرائيلي من مقتل رابين على يد يميني متطرف. ولم يتخلص الاستنتاج بالتصعيد ضد اليمين المتطرف أو ضد المستوطنين, بل بالعكس تمامًا.

كان من الممكن أن يتحول مقتل رابين إلى عملية تحويل للمجتمع الاسرائيلي إلى مجتمع مؤلف من مصالح متصارعة ووجهات نظر متنازعة حول القضايا المصيرية, في مثل هذه الحالة كان من الطبيعي أن تقوم القوى التي استخدمت العنف لوضع حد لسلطتها بالرد, ولكن سرعان ما استدعيت القبيلة, وقد استدعاها حزب العمل ذاته, ورئيسه الجديد رئيس الأركان السابق.

كان هذا هو مغزى إصرار باراك على أن يستند ائتلافه إلى أغلبية يهودية في الكنيست, بحيث تشمل هذة الأغلبية الحزب القومي الديني. ولكن هذا يعني, ايضًا,- أن الانقسام الانتخابي, وبالتالي انتقال السلطة, لم يتم بشكل واضح من معارضي العملية السلمية في عهد نتانياهو إلى مؤيديها في عهد باراك. وإنما أشار إلى إنه سوف يضطر المؤيدون والمعارضون تاريخيًا إلى الانضواء تحت لواء الإجماع القومي, وإلى عدم الاعتماد على أصوات غلاة المستوطنين من ناحية, أو على أصوات العرب من الناحية الأخرى, والانتقال تدريجيًا من الاستقراء الكامل لعملية صنع القرار داخل معسكر واحد إلى الإجماع القومي المستند الى الحد الأدنى المشترك, أي اللاءات, التي بدأ فيها باراك خطاب الانتصار بعد منتصف ليلة السابع عشر من مايو, والتي انتخب شارون في الواقع لتنفيذها.

ويرى د.عزمى بشارة, أن يهودية الدولة هي ليست مجرد صفة أو مفارقة أو وعاء للتوتر أو الاسترخاء الأمني, بل أيديولوجية سائدة تمنع فصل الدين عن الدولة وتدفع للتأكيد على الهوية اليهودية, وعلى الانتماء, أي على العضوية في الجماعة كأوراق ثبوتية في الملكية على الدولة.

ويختم د.عزمى بشارة كتابه بقوله: لا يجوز رؤية المشاريع السياسية الإسرائيلية بمعزل عن الثقافة السياسية السائدة لها, وهي ثقافة عنصرية لا شك في ذلك. والمسايرة العربية أو الفلسطينية للمطالب والشروط الإسرائيلية المصاغة بهذا المنطق لا تفيد العرب ولا الفلسطينيين من المتبرعين بها, بل تشرعن عنصرية لا شرعية لها في أي دولة متحضرة من الدول التي يريد العرب إثارة إعجابها. هذه العنصرية الإسرائيلية ليست مسألة جانبية, ولا هي ظاهرة مرافقة أو عارضًا من عوارض المواجهة, بل هي مسألة بنيوية.

 

عزمي بشارة