الحاج محمد الناشر الجريء

الحاج محمد الناشر الجريء

بعد أن اكتمل، لا أذكره إلا همساً، حضوره، تطلعه صوبي. سواء باح بالقليل أو الكثير، بالسهل أو الصعب، فلم أعرف من غيره تلك الطبقة النادرة من الهمس الواضح، والتي لم أعرفها إلا منه على مدى نصف قرن لم أتوقف خلالها عن التواصل معه حتى وإن تباعدت بيننا المسافة بسبب السفر، سفر أيّ منا.

هو نفسه، لا يمكنني أن أستعيده في أطوار مختلفة، فهو لم يتغير عبر رحلته معي، وخلال رحلتي معه. مازلت أرى لقاءنا اليومي تقريباً في نهاية الخمسينيات، لكن لا يمكن تحديد لقاء بعينه، وكأن علاقتي به لا بداية لها، وبالتالي لا نهاية لها، فهو يسري في معارفي وأيامي. كان ذلك في وسط المدينة، بالتحديد فوق الرصيف الذي يقع أمام مطبعته الآن، كان الرصيف أضيق من المساحة الحالية، وكان الحاج قد ورث عن والده مكان «الفرشة» المخصصة للوالد الذي كان يوزع الصحف والمجلات لزبائن وسط المدينة. كان المكان حتى منتصف السبعينيات أوربي الطابع، معظم السكان من الأجانب، لم يجرِ تمصيره إلا بعد التأميمات الكبرى، لم يكن الحاج يوزع الصحف المصرية فقط، إنما الأجنبية أيضاً، الإنجليزية والفرنسية، وفيما بعد لغات أخرى.

غير أنه لم يوزع الصحف العبرية أبداً، موقف مبدئي من مواقف عدة تتفق مع محبته لعبدالناصر، ولثورة يوليو، لم أتعامل معه كموزع صحف، إنما كموزع كتب، عندما عرفته، كان ممكناً العثور لديه على الكتب التي يصعب وجودها في المكتبات الأخرى، خاصة الكتب الصادرة عن بيروت. كان الحصول على الكتب الماركسية صعباً، وكان وجود بعض العناوين عند المشتبه بهم قد يدفع بهم إلى المحاكمة. أذكر من العناوين الخطيرة أعمال لينين الكاملة، بالطبع «رأس المال» لكارل ماركس، «تاريخ الحزب الشيوعي» المكتوب في الحقبة الستالينية. فيما بعد أصبح معظم هذه العناوين متاحاً من خلال مكتبة الشرق التي تخصصت في بيع الكتب السوفييتية، وكان من أهم إصداراتها سلسلة «مطبوعات الشرق» التي قدمت ترجمات رائعة للأدب الروسي الرفيع، وترجمات رصينة للأدب السوفييتي الدعائي، وكان يدير المكتبة أحد أفراد الأسرة الأباظية وهي من أشهر الأسر الإقطاعية، وأعرقها في الريف المصري. كانت الكتب المحظورة، خاصة ما يعبّر عن الرؤى اليسارية منها يمكن أن توجد في أربعة مراكز: الأول: الحاج محمد مدبولي، الثاني: كشك في ميدان الأوبرا على مقربة من مقهى صفية حلمي الذي كانت تعقد به ندوة نجيب محفوظ الأسبوعية، وكان مخصصاً للصحف والكتب، صاحبه اسمه إسماعيل، أذكر ملامحه بالكاد، ولا أعرف إلا اسمه الأول، وسرى همس بين رواد الندوة الأسبوعية لمحفوظ أنه يعمل سراً مع المباحث العامة، أولاً لتوفير الكتب من مصادرها الطبيعية لأجهزة الأمن، وثانياً: لمعرفة مَن يشتريها لإدراج الأسماء في كشوف المشبوهين، الثالث: مكتبة صغيرة أنشأها الدكتور عبدالمنعم الحفني الذي قدم ترجمات عدة للأعمال الوجودية، وكانت تقع إلى جوار الهيئة العامة للاستعلامات بشارع طلعت حرب، وأخيراً مكتبة في أول شارع محمد علي عمل بها شخص يساري اسمه سعد الزناري، وكان ممكناً وجود بعض العناوين غير المتاحة بها. تلك هي النقاط التي كان ممكناً وجود الكتب المحظورة بها. بالطبع لم يستمر منها غير الحاج محمد. حضور الرجل ودماثته وشخصيته جعلت منه روحاً لوسط البلد لميدان طلعت حرب، كانت لديه قدرة على اكتساب ثقة الناس ومودتهم، وكان يبيع بالأجل لبعض كبار المثقفين الذين يعانون رقة الحال. كان يتحلى بصفات من نصفه بابن البلد الذي لم يحصل على قدر كاف من التعليم، وأهمها التمسك بالخصال الأصيلة، وأولها عدم التنكّر للأهل، وتمثل هذا في تعلقه بالجلباب والعمة رداءً له. كل من يمت إلى أسرة مدبولي غيّروا الهندام (بما في ذلك شقيقه الحاج أحمد، رحمه الله)، لكنه ظل إلى آخر يوم في حياته متمسكاً بالجلباب الذي صار علامة له. كان يتحلى أيضاً بذكاء دافق، ينظر إلى الزبون فيدرك غرضه بالنظر، ولأن أذنه كانت مع الطريق الحافل بالحركه تكوّنت عنده حواس استشعار يصعب تكوين مثلها عند مؤسسات كبرى مزوّدة بأدق الحواس الآلية. كان يعرف ما يمكن أن يروّج، وما يمكن أن يركن من كتب. لم أعرف مثل ذاكرته، حفلت بآلاف العناوين وأسماء المؤلفين. أحتاج أحياناً إلى كتاب فيدركه على الفور ويطلب مني المهلة التي قد تمتد أياماً، وقد تصل إلى سنوات، غير أنه لا ينسى، كما يقولون «كان يجيب التايهة..». في تقديري أنه كابن بلد ظل مخلصاً لمهنته الأصلية كموزع صحف، عقليته الأساسية موزع صحف، ومن دون جدال، كان أهم موزع للصحف، خاصة الأجنبية. بعض الصحف لم يكن يوجد إلا عنده، وأحياناً كان يمر بمصاعب مع مؤسسات كبرى فيعاقبها بعدم توزيع صحفها!

خبرته التوزيعية الهائلة نقلها إلى مجال الكتب، في منتصف الستينيات تقريباً حصل على كشك من نقابة الصحفيين، أصبحت الفرشة التي كان يبسطها أول النهار، ويلمها آخر الليل مقراً دائماً ثابتاً، تم تركيب هاتف داخل الكشك، ويبدو أنه تمكن من عقد اتفاق مع العمارة المواجهة ليستخدم المنطقة تحت السلم لتكون مخزناً لكتبه، أصبح الكشك بؤرة حيوية، حوله يلتقي المثقفون ويدور الجدل، إذا مررت ولو دقائق فيجب أن تلتقي بمَن تعرفه، سواء من مصر أو من البلدان العربية أو الأجنبية، خلال هذه الفترة دخل مجال النشر، نلاحظ خبرته النادرة في اختيار العناوين الثقيلة التي خشيت مؤسسات كبرى من الإقدام عليها. يكفي أنه صاحب القاموس الوحيد، فارسي/عربي، تأليف الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا، كما نشر عدة موسوعات كبرى في العمارة والفن. ومن الطريف أنه وضع أفكاراً للعديد من الكتب التي نشرها كان يطلب من بعض الكتاب ذوي المهارات الخاصة أن يضعوا له كتباً معينة، مثل «القبلة في الأدب العربي» وما شابه، وقد عرفت أحدهم، كان زميلا فاضلا في أخبار اليوم، وقد وضع عشرات الكتب بعضها بمبادرات منه، وبعضها الآخر من اقتراح الحاج محمد، وقد أصدر سلسلة لتاريخ مصر، أعاد من خلالها إصدار مؤلفات عديدة نفدت وأصبح الحصول عليها صعباً، إلى جانب رسائل الدكتوراه والأبحاث التي كان ممكناً أن تظل فوق أرفف الجامعات مهملة. كان يقول ببساطة: «عشان الناس تعرف تاريخها».

لدقته وحرصه اكتسب ثقة الموزعين العرب، خاصة اللبنانيين، وأصبح اسمه نموذجاً يحتذى، في بغداد سمعت من يصف مكتبة المتنبي بأنها «مدبولي العراق»، وفي اليمن أيضاً وفي الدار البيضاء، وفي تونس، ومعذرة لأنني نسيت الأسماء، كثيرون من هؤلاء تعاملوا معه من دون عقود موقعة، فقط بالكلمة الموقعة شفاهة منه بهمسه بإيماءته، بنظرته، معظم الناشرين العرب في معرض الكتاب يتركون لديه ما لم يبيعوه، وفي يناير التالي يتوافدون عليه ليحصلوا على حقوقهم، في الغالب الأعم كان يدفع نقداً، يدخل يده إلى الجيب العميق للجلباب والذي نسميه السيالة، ويخرج الآلاف، وفي الغالب يكون ذلك من العائد اليومي للبيع، سواء زمن الفرشة أوالكشك و المكتبة.

عندما أصدرت مع رفيق الدرب يوسف القعيد كتابي الأول «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، سلمناه نصف الكمية (ألف نسخة)، وزع الكتاب بحماس، وكان سعيداً بما أحدثه من صدى، وحدث الأمر نفسه مع رواية (الحداد) ليوسف. بالنسبة لنا تميزت علاقتنا معه، كان عمادها الثقة والمحبة، نشرنا عنده بعض أعمالنا، لم نحرر عقداً، ولم نتفق على مبالغ واضحة، إنما كان يخبرنا تقريباً بالمستحق ونحصل به على كتب أي تعاملنا بالمقايضة، كثيراً ما كان يستطلع رأيي أو رأي يوسف في أمور تهمه.

وعندما تعرض الكشك لخطر الإزالة في منتصف السبعينيات قبل استقراره في المكتبة، خضنا المعركة كتابة وحركة، وتصدى كبار الكتاب للدفاع عنه أذكر منهم أنيس منصور وأحمد بهجت ومحمد عودة وغيرهم. في السبعينيات اشترى مكتبة في مواجهة مقهى ريش، باعها بعد ذلك إلى وزارة الثقافة العراقية لينتقل إلى المكتبة الحالية، والتي أصبحت مركزاً ثقافياً عالمياً، فمن لم يشتر الكتاب من مدبولي تصبح نسخته ناقصة وكأن الحاج محمد قد أصبح جزءاً من كل نص أسهم في وصوله إلى القراء، هذا هو!.

 

 

جمال الغيطاني