غزة.. حلقة في الصراع العربي - الإسرائيلي طويل الأجل

هل انتهت بالفعل مجزرة غزة؟ وهل ستكون دماء الأبرياء من الأطفال الرضّع والسيدات والمسنين وغيرهم من مواطني غزة هي آخر ما تسفكه إسرائيل من دماء؟ هل كانت إسرائيل في حاجة ماسة إلى كل هذا الدمار، وإلى إراقة كل تلك الدماء لتبدأ طريق السلام؟

  • منذ أكثر من ستين عاماً والعالم لا يرى العرب سوى جثث وبشر على أرض تحوطها الدماء.
  • سفير أمريكي سابق بالأمم المتحدة دعا في مقال بصحيفة «واشنطن بوست» إلى إغلاق ملف الدولة الفلسطينية المستقلة وضم غزة إلى مصر وإلحاق الضفة الغربية بالأردن.
  • المماطلة الإسرائيلية في مفاوضات السلام وعمليات العنف المسلح ليست وفق أحداث عشوائية أو تدابير فجائية بل تخضع لإستراتيجية معدة سلفاً.
  • لن يكون هناك حل للقضية من خارج موطن الصراع ولن تستطيع أي دولة عربية أن تقوم بمفردها بهذا الجهد مهما امتلكت من القوة والمنعة.

ستون عاماً مضت على مسيرة الدم التي انتهجتها إسرائيل مع الفلسطينيين والعرب، لكنها، في الحقيقة، وبغض النظر عن النتائج النفسية على مواطنيها أنفسهم في المستقبل، وبالرغم من كل الأصوات العاقلة التي يطلقها بعض مثقفيها بين آن وآخر عن محصلة أفعالها على صورتها في العالم، كدولة احتلال دموية، لم تحقق إلا الخجل لمواطنيها اليوم، وغداً وبعد غد.

بالرغم من كل ذلك، فإن النهج الذي تسير عليه إسرائيل على مدى الستين عاماً الماضية يبدو أنه قد نمّى لديها نزعة التعطش للدماء، وكلما توحشت، ومارست القتل والعنف، تحولت ساديتها المريضة إلى نزعة أصيلة تمارس بها قدرتها على البقاء، كدولة احتلال مزروعة في سياق غريب عنها.

إننا منذ أكثر من ستين عاماً والعالم لا يرانا كعرب - حتى لو غض البعض الطرف - سوى جثث، وبشر على أرض تحوطها الدماء، ليس على أرض فلسطين فقط، وإنما على كل الأرض العربية، في سورية وفي لبنان، أو مصر التي تكبدت أكثر ما سال من الدماء خلال تلك الفترة، ومنذ عام 1948 على وجه التحديد، وكذلك على أرض العراق وغيرها من الأرض العربية.

وحتى قبل قيام الدولة اليهودية على أرض فلسطين سنجد أنها مارست أقصى درجات العنف تجاه الفلسطينيين، في مهمة بدت واضحة منذ ذلك الوقت، وهي تفريغ الأرض من سكانها العرب، لإحلال سكان الدولة اليهودية محلهم. وهو هدف إستراتيجي تجلياته عديدة، وآخرها، ولعلها ليست الأخيرة هو ما حدث في غزة أخيراً، في تلك المذبحة الدموية الصارخة.

ولاتزال العقيدة اليهودية تعبّر عن نفسها كل يوم، فتصريحات وزيرة خارجية الدولة اليهودية تسيبي ليفني أخيراً حول الواقع على الأرض ومستقبل التحركات الإسرائيلية تؤكد على «إمكان الفلسطينيين أن يحتفلوا بعيد استقلالهم فقط بعد أن يحذفوا مصطلح النكبة من قاموسهم».

والأكثر وضوحاً ما قالته عن عرب إسرائيل: «يمكننا أن نقول للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل الذين ندعوهم عرب إسرائيل، إن الحل لتطلعاتكم الوطنية موجود في مكان آخر».

وهو تصريح خطير في الواقع يعكس التوجهات الإسرائيلية وخططها القادمة، التي تعتمد على إخلاء الدولة اليهودية من المواطنين العرب، وإبعادهم إلى دولة فلسطين، خاصة أن هذا التصريح يأتي في أعقاب إعلان إسرائيل أنها دولة يهودية، بمعنى أن غير اليهودي لا يحق له أن يكون مواطنا فيها، وهو القرار الذي حصل، فور إعلانه، على تأييد الرئيس الأمريكي المنصرف جورج بوش.

وأضافت فيما يتعلق بموضوع اللاجئين الفلسطينيين: «ينبغي أن يكون حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في إطار دولة فلسطينية (أين؟).. ويتعين على إسرائيل ألا تفتح أبوابها أمام عودة هؤلاء اللاجئين».

فتسيبي ليفني لم تعُد تتحدث عن ضرورة «وقف الإرهاب» في غزة وحسب، أو عن الصلح وإحلال السلام، بل عن الحاجة إلى «تغيير المعادلة في الشرق الأوسط»! وهي المعادلة التي ربما يوضحها التصريح الذي جاء من الولايات المتحدة بعد أيام قليلة من بدء الاجتياح الإسرائيلي الجديد لغزّة، إذ برز فجأة جون بولتون، السفير الأمريكي السابق لدى الأمم المتحدة من غياهب النسيان، ليدعو في مقال في صحيفة «واشنطن بوست» إلى إغلاق ملف الدولة الفلسطينية المستقلة، عبر ضمّ غزة إلى مصر وإلحاق الضفة الغربية بالأردن.

ونشر الكاتب اللبناني سعد محيو تفاصيل موسعة حول الموضوع في موقع «سويس إنفو» الإلكتروني ذكر فيه أن بولتون ليس فقط واحداً من أشرس المحافظين الجدد الأمريكيين، بل يعتبر أيضاً من الصهيونيين الليكوديين في الولايات المتحدة، وكان من أبرز المشاركين في وثيقة «القطع النظيف» الأمريكية، التي نشرت في أوائل تسعينيات القرن العشرين والتي دعت إلى نسف شعار «الأرض مقابل السلام»، وبالتالي، معاهدات السلام بين العرب والإسرائيليين، وإحلال شعار موازين القوى مكانه، لتغيير المعادلة في الشرق الأوسط.

وأوضح أن بولتون لم ينطلق من فراغ في دعوته هذه، ففي الداخل الأمريكي، ثمة مِروَحة واسعة من النخب الأمريكية الموالية لإسرائيل، التي تتبنّى نظرية تقسيم فلسطين 1967 بين مصر والأردن وإسرائيل، والممثل الأبرز لهذه النخبة، هو دانييل بايبس، الذي يُطلق عليه في الولايات المتحدة، «الفارس الأسود»، بسبب تطرّفه الصهيوني، وهو بدأ منذ يناير 2008 بتصعيد الضغوط والحملات في واشنطن، لتبنّي هذا الخيار، الذي يبرره كما يلي:

  • ياسر عرفات ثم محمود عباس، فشلا في تحويل غزة إلى سنغافورة جديدة وفي منع صعود الإسلام الراديكالي فيها، ولذا، يجب التخلّي عن فكرة السيادة الفلسطينية على هذا القطاع.
  • على واشنطن والعواصم الغربية الأخرى، إعلان أن تجربة الحُكم الذاتي في غزة فشلت، ثم القيام بالضغط على الرئيس المصري حسني مبارك لتقديم يد العون، ربّما عبر منح غزة أراضي مصرية إضافية أو حتى ضم القطاع برمته إلى مصر، بصفته محافظة من محافظاتها.
  • هذه الخطوة الأخيرة، ستكون منطقية وبديهية ثقافياً: فالغزّاويون يتحدثون لكنة عربية شبيهة بتلك التي ينطق بها المصريون في سيناء ولديهم علاقات عائلية مع سيناء، أكثر من الضفة الغربية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى علائقهم الاقتصادية مع سيناء، وحتى حركة حماس الغزّاوية، تجدُ جذورها الحقيقية في جماعة الإخوان المسلمين المصريين، لا في الحركة الوطنية الفلسطينية.

ويخلص بايبس إلى القول: «إن تحويل هذه العلاقات غير الرسمية إلى علاقات رسمية عبر ضم غزة إلى مصر، سيحقّق جملة أهداف دفعة واحدة: 1 - وقف الصواريخ على جنوب إسرائيل. 2 - كشف الطابع الاصطناعي للوطنية الفلسطينية. 3 - كسر الطريق المسدود في العلاقات العربية - الإسرائيلية.

وهكذا يتكشف لنا أن المماطلة الإسرائيلية في مفاوضات السلام، وعمليات العنف المسلح التي تمارسها ليست وفق أحداث عشوائية أو وفقاً لتدابير فجائية وإنما تخضع لإستراتيجية معدة سلفاً، وحتى قبل قيام الدولة اليهودية.

إن ما يطرحه هذا التقرير في الحقيقة يعكس واقعاً خطيراً، وإن بدا مدهشاً لنا، لكن النظر إلى الإستراتيجية الإسرائيلية والممارسات التي تقوم بها الإدارات الإسرائيلية المتعاقبة في إدارة صراعها مع الفلسطينيين، والعرب، يكشف لنا بوضوح أن كل تلك التصريحات ليست وليدة اليوم، ولا هي محض صدفة، بقدر ما هي سياسات قديمة مبرمجة سلفاً، يمثل كل منها خطة، قد لا يكون من المستبعد أنها موضوعة وفقاً لبرنامج زمني محدد أيضاً، ومنها تدار الإستراتيجية الإسرائيلية، أياً كان من يتولى إدارة الحكومة، وأياً كانت توجهاته السياسية داخل إطار الدولة اليهودية.

هذه الإستراتيجية، لم تتوقف منذ بدء إسرائيل تنفيذ مخططها الاستيطاني، وحتى هذه اللحظة، ولعلها لن تتوقف أيضاً في المستقبل، فالشق الرئيسي من هذه الإستراتيجية الإسرائيلية يبدو جلياً أنه يتأسس على عنصر آخر، هو نتيجة طبيعية للعنصر الأول، وهو تأكيد بقاء إسرائيل كأقوى قوة في المنطقة، وهو ما تحاول أن تؤكده، مرة بعد أخرى، عبر تلك المذابح الدموية، وعمليات الاجتياح البري، والضربات الجوية التي تنفذ بين الآن والآخر، على فلسطين أو لبنان، أو حتى على العراق في تدمير مشروع المفاعل الذري، والتي ارتبط العديد منها بوصف مذبحة، وخلفت في كل مرة، آلافاً من الضحايا والشهداء العرب، وأسالت أطناناً من الدماء، لتأكيد قوتها للعرب، وقدراتها العسكرية المتفاقمة التي لا يمكن مواجهتها.

والمعنى الضمني هنا والبديهي أيضاً هو أن العرب في المقابل وبالضرورة، يجب أن يكونوا الطرف الأضعف في هذا الصراع. وهو ما تجلى بقوة خلال الحرب الأخيرة، وما سبقها من محاولات إسرائيل في تحييد أطراف قوية من العرب في الصراع معها، ثم في إشعال النار في عناصر الاختلاف سواء بين فصائل المقاومة في فلسطين، وهو ما كان أحد تجليات هذه الأزمة، أو بين الأطراف العربية نفسها.

وضمن هذه الإستراتيجية يمكننا أن نفهم كيف أن إسرائيل، على امتداد تاريخ الصراع مع العرب، لم تطرح مشروعاً حقيقياً للسلام في المنطقة، والعكس صحيح، على طول الخط، كما أنها لم تعلن، ولا مرة واحدة، عن الحدود لدولتها وأين تقف تلك الحدود.

وخلال 60 عاماً من الصراع، ثم المفاوضات التي دخلتها إسرائيل مع العرب، لم تتقدم، على وجه الإطلاق، بأي اقتراحات عملية، وقابلة للتحقق على الأرض، كما أنها لم تقترح أي مشروع حقيقي مقبول للصلح مع العرب، يفي بمتطلبات العيش المشترك في منطقة تقع تخومها على حدود أكبر دول المنطقة. كما أنها، غالباً ما تعود من حيث بدأت، فهي على سبيل المثال قد اجتاحت غزة، بالرغم من أنها سبق لها أن انسحبت من قطاع غزة في سبتمبر العام 2005 بموجب خطة «فك الارتباط» أحادية الجانب التي نفذتها إسرائيل عندما أخلت جنودها ومستوطناتها من قطاع غزة.

لذلك كله فإن حربها على غزة التي وصلت إلى حد مواجهة الأطفال الأبرياء والنساء العزل بقوات برية اجتاحت غزة مستخدمة أقصى درجات العنف والتدمير، وفي ظل الموقف المستهتر واللامبالي تجاه إسرائيل من قبل القوى العالمية، وفي ظل استخفاف إسرائيل بتغير الإدارة الأمريكية ودورها في قضية الصراع العربي - الإسرائيلي وفقاً لما صرحت به تسيبي ليفني قبل فترة من وصول أوباما لسدة الحكم في الإدارة الأمريكية، كل ذلك يجعل من الضروري التفات العرب لقمة الكويت التي عقدت أخيراً، لتكون بداية وانطلاقة حقيقية لقناعة عربية بضرورة إيقاف توسع الدولة اليهودية على حساب الشعب الفلسطيني والأرض العربية.

فقد أثبتت ظروف المنطقة وطبيعة الصراع العربي - الإسرائيلي، والموقف العالمي تجاه إسرائيل أنه لن يكون هناك حل للقضية من خارج موطن الصراع، ولن تستطيع أي دولة عربية أن تقوم بمفردها بهذا الجهد مهما امتلكت من القوة والمنعة، ولن تكون هناك ثمار حقيقية تجنى من أي عمل عربي منفرد مع إسرائيل. فقد طرقنا أبواب القوى العالمية مراراً وتكراراً، كما فعلنا الشيء نفسه في الأمم المتحدة، ولدى الكتل الدولية في أثناء الحرب الباردة، ولم يؤد ذلك إلى تغيير ملموس على الأرض، بل مزيد من التقدم والتوسع للدولة اليهودية وضعف وتراجع لأصحاب الأرض والحق.

وبالتالي، فإن الإستراتيجية الإسرائيلية الثابتة، وواضحة الرؤية فيما يتعلق بإرادة إسرائيل لتحقيق أهدافها لا يمكن مواجهتها إلا بإستراتيجية عربية مقابلة، قائمة على قناعة بأن الدولة اليهودية تستمر وتتفوق وتبقى على حساب استمرار ضعف العرب وتخلفهم. وهذه القناعة تفرض عليهم الإيمان بضرورة أن ينحي كل طرف منهم نزاعاته ومشكلاته مع الطرف العربي الآخر جانباً، وتوحيد الجهود، مع إخلاص النوايا، من أجل وضع خطة عمل عربي مشترك، طويلة الأجل، تعتمد على إيجاد آليات واقعية لوقف مشروع التوسع الإسرائيلي من جهة، توازيها خطة مشتركة لتنمية المجتمع العربي علمياً واقتصادياً واجتماعياً، وبناء القوة الذاتية التي تفرض نفسها على مجريات الصراع.

فالحقيقة أن العالم العربي لا يمكن له أن يواجه العالم وإسرائيل إلا بالقوة، وهذه القوة لا يمكن لها أن تتحقق إلا من خلال تنمية اجتماعية شاملة، ثم تنمية القوة العسكرية.

فقد ثبت لعقود أن شراء السلاح وتكديس المعدات الحربية، من دون العمل على قضية التنمية البشرية كلها، ليس سوى ضياع للوقت والجهد.

وبالتالي، فلا بد من بدء طريق مختلف يعتمد على تحقيق القوة بشكل حقيقي يجعل من المنطقة العربية قوة ردع حقيقية على أساس من المنطق، ونتمنى أن تكون قمة الكويت الاقتصادية والاجتماعية، التي انعقدت في يناير الماضي، بما تضمنته من بنود خاصة بموضوع التنمية في أرجاء العالم العربي، بمنزلة مدخل حقيقي لبناء قوة عربية تستطيع أن تحمي العالم العربي، وسكانه، من أي سيطرة إقليمية في المنطقة أو قوة احتلال خارجية