مستقبل التاريخ.. د. خالد عزب

مستقبل التاريخ.. د. خالد عزب

كُتبُ التاريخ كنوز دفينة، فهي عملٌ مفصل قام بسرده المؤرخون، ودائماً، ما تغمرنا هذه الكتب بالسعادة حيث الحنين إلى الماضي، ولكن ليس هذا كل شيء بالنسبة للمؤرخين المعاصرين، لأننا لسنا فقط في حاجة لتقديم الماضي، بل أيضاً لشرحه وتفسيره، إلى طبقة أكبر، تخرجه من ظلام عباءة الماضي إلى ضياء الحاضر وفضاء المستقبل.

يثير الماضي تساؤلات عديدة، فللماضي علم يدرسه هو التاريخ، الذي أصبح هو ذاته محل تساؤلات مثيرة، فإلى اليوم يُقدم التاريخ من خلال كتابات المؤرخين سواء في الكتب أو المجلات العلمية أو الثقافية أو الصحف، لكن مع تقدم وسائل التكنولوجيا باتت الأفلام الوثائقية مادة خصبة تجذب الكثيرين للتاريخ.

علم التاريخ موضوعه دراسة أحوال المجتمعات الماضية، أي دراسة تطور الإنسان وما أنتجه من منجزات حضارية، وما تركته هذه المنجزات من تأثير في تطور الحضارة المعاصرة، هذا التعريف يُعد متقدمًا جدًا عن موضوع علم التاريخ قديمًا حيث كان الغرض الرئيسي من التاريخ مدح ولي الأمر وتمجيد الدولة، لذا لم يهتم قدامى المؤرخين بالحياة اليومية للبشر، لذا كان التاريخ قديمًا انتقائيًا، فالمؤرخون كانوا ينتقون الأحداث والوقائع التي يؤرخون لها (القصص التي يسردها المؤرخون من الماضي) مركزين على الأحداث التي تجذب انتباهنا، وذلك ما يدفعنا إلى القيام بقصها على المعاصرين.

تُعد لهذا كله كتب التاريخ كنوزا دفينة، فهي عمل مفصل قام بسرده المؤرخون، ودائمًا ما تغمرنا هذه الكتب بالسعادة، حيث الحنين إلى الماضي، ولكن ليس هذا كل شيء بالنسبة للمؤرخين المعاصرين، لأننا لسنا فقط في حاجة لتقديم الماضي بل أيضًا لشرحه وتفسيره، فالوصول إلى سياق أوسع للقصة يكون غير مقصور فقط على أحداثها المتتالية وإنما أيضًا للمغزى من وراء هذه الأحداث، خاصة أن أهداف علم التاريخ الآن أصبحت أوسع نطاقًََا وأكثر تنوعًا.

لكن السؤال المطروح الآن هو لماذا نهتم بالتاريخ؟

هناك إجابات عديدة على هذا السؤال، بعضها مفرط في إجاباته على نحو أن الاهتمام يكون بهدف الوصول للحقيقة المجردة، لكن هذه الإجابة تكون كاملة لو كان الهدف علميا بحتا، أو للتعرف على الماضي وما به من مآثر، أو لدراسة السلبيات والإيجابيات في تاريخ البشرية، أو لأنه مكون أساسي من المكونات الثقافية لأي شعب، وحقيقة الأمر أن كل ما سبق يُعد إجابة مبدئية حول السؤال المطروح، لأن الإجابة الواقعية هي أن كل ما سبق ليس سوى نتيجة لاهتمامنا بالتاريخ، فالتاريخ أساس لتثقيف المجتمع وإرشاده لقواعد السلم والحرب وإدارة شئون الدولة والتخطيط لمستقبلها، من هنا يتحول مفهوم التاريخ من نطاق العلوم النظرية إلى العلوم العملية، لأنه علم يرتبط بوجود الدولة وعناصرها المتمثلة في الأرض والشعب والسلطة السياسية ويعبر عنهم جميعًا بأنهم هوية الوطن ووجوده.

لذا عندما يعود الحاضر إلى الماضي، يكون الماضي مركز قوى، وغالبًا ما يكون التفكير في التاريخ في شكل سؤال يتأرجح بين ما هو التاريخ؟ ولمن يكون؟

مثل هذه الأسئلة ضرورية لوجود التاريخ، فإذا كان الماضي من دون فجوات أو مشكلات لما اكتملت مهمة المؤرخ، حيث إن التاريخ يُعد نوعا من أنواع الجدل، فهو جدل بين الحاضر والماضي، وجدل بين ما حدث بالفعل وما سيحدث مستقبلاً.

يروي المؤرخون القصص ساعين بذلك لإقناعك ببعض الأفكار فالأساليب التي يتبعونها تقوم على الحقيقة، حيث إنهم يقدمونها بإنصاف, حتى إذا أساءت إلى البعض. كما يتوجب عليهم ترتيبها ترتيبًا زمنيًا وجغرافيًا، وتقديم أعمال من سماتها جذب الانتباه، ساعين بذلك للوصول لسياق شائق وممتع يتناسب مع الماضي. نستخلص من هذا أن الماضي ليس القصة التي تُروى وحسب، ولكنه في مجمله مشوش وغير مرتب إلى حد ما، ويتسم بالتعقيد كالحياة التي نحياها، فالتاريخ يخلق الشعور بالحيرة، وذلك من خلال السعي للوصول إلى نموذج وسياق ومعنى وقصص سهلة للقارئ، من هنا نستطيع أن نعود إلى الماضي لكي نفهم حقيقة التاريخ في الماضي.

التاريخ تغير مفهومه ومضمونه من عصر هيرودت وإلى الآن، لكن التغير الحقيقي كان في فترة الانتقال إلى عصر الثورة الصناعية والدولة المعاصرة، باعتباره جزءا مما سمي بالعلوم الإنسانية بشكلها الحديث، كآلية من آليات السلطة التي تعمل على السيطرة على المجتمع من خلال التعليم والانضباط وإعادة ترتيب مدركات وذاكرة المجتمع.

المستقبل

إذا كان التاريخ قد تغير عبر العصور، فلماذا لا يتغير الآن مرة أخرى؟

حقيقة الأمر أن الماضي يتم استرجاعه في الحاضر، حيث يتم إعادة إنشاء الصلة بينهما، خاصة أن عملية كتابة التاريخ مليئة بالأسئلة؟ وهناك عنصر ما يجذبنا نحو الماضي ويحثنا على دراسة التاريخ, حيث لم يكن الناس يعيشون كما نعيش نحن الآن.

لكي نعرف هذا لابد أن ندرك أن الطباعة غيرت حياة البشر، فالكتاب المطبوع والصحيفة والمنشور وبطاقات الدعاوي وغيرها من أنواع المطبوعات خلقت مجتمعات مغايرة عن مجتمعات ما قبل الطباعة، فالإنسان صار قارئا مثقفا كائنا اتصاليا جيدا، كما غير التلغراف من طبيعة الاتصال بين المجتمعات والدول، والإذاعة صارت في كل ركن من أركان حياة الإنسان اليومية، كذلك التليفزيون الذي صار دوره نقل الوقائع مشاهدة للناس في أماكنهم البعيدة، بل إن كل هذه الأدوات صارت مرجعًا تاريخيًا نعود إليه الآن لنشاهد التاريخ حيًا أو مقروءًا من مصادره الأصلية وليس عبر وسيط، ومع ظهور الأفلام الوثائقية لاسيما أفلام الحربين العالميتين الأولى والثانية، صارت هذه الأفلام وسيلة ممتازة لرواية التاريخ، وصارت الصورة الحية مع السيناريو المحكم والراوي هما أداة التأثير الرئيسية للأحداث التاريخية.

في الماضي كانت السير الشعبية تقوم مقام الأفلام الوثائقية في تسلية الجمهور، غير أن الراوي في السير الشعبية كان يضفي على روايته حبكة روائية مسلية خارج السياق الحقيقي للحدث التاريخي، وهو يضاهي هنا ما يعرف اليوم بالمسلسلات التاريخية، لذا فإن التاريخ الحقيقي هو الذي يوضح لنا أمورا مختلفة لشعوب مختلفة، وتطور مهارة الإنسان في التأريخ للماضي هي المحك لرغبة هذا الإنسان في الاستفادة من هذا المخزون المتراكم للمعرفة والخبرة الإنسانية. فالتاريخ إذن بالنسبة للمجتمع بمنزلة الذاكرة.

من هنا فإن مستقبل التاريخ لن يكون في كتب تعتمد على النصوص فقط، بل سيعتمد على نوع جديد من الكتب التاريخية تقوم بالأساس على الصورة والرسومات (الجرافيك) الشائعة، هذا النوع يعرف بكتب القهوة coffee books، لأن الفرد يتصفحها للتسلية والمعرفة في أوقات الفراغ، ولأنها ستكون منافسا حقيقيا لشاشات التلفاز والإنترنت في جذب عين القارئ لمشاهدتها وقراءتها، وقد يلحق بهذا النوع من الكتب CD أو DVD عليه فيلم أو لقاء أو تسجيل لحدث مرتبط بموضوع الكتاب. أما الكتب التاريخية المحققة كالمخطوطات فسيكون موضعها المكتبات الرقمية على شبكة الإنترنت، ولذا سينحصر دور المؤرخ مستقبلاً في الدراسات الأكاديمية أو المجلات المتخصصة أو في المساعدة في تقديم المادة التاريخية على شبكة الإنترنت، بالإضافة لدور المؤرخ في تفسير التاريخ والبحث في ثغراته. فلن تكون هناك أمة ليس لديها موقع تاريخي شامل على شبكة الإنترنت، من هنا جاء اهتمام مكتبة الكونجرس بهذا الموضوع، والذي لم يقتصر على مجرد ذلك فحسب بل سعت إلى إقامة مكتبة تراثية عالمية بالاشتراك مع اليونسكو تضم نوادر التراث العالمي لكل أمة على شبكة الإنترنت تشارك فيها دول العالم بتقديم أفضل ما لديها من مواد تاريخية وأرشيفية ووثائقية.

التاريخ إلى أين؟

قديمًا كانت كل دولة تحتفظ بوثائقها داخل دار الوثائق القومية... الآن كل دولة تسعى إلى إتاحة هذه الوثائق والتعريف بها عبر شبكة الإنترنت، وهناك منهجان في هذا الصدد، الأول تطبقه الولايات المتحدة، بإتاحة ما تراه غير ضار بسياستها الجارية من وثائق كاملة على شبكة الإنترنت. والمنهج الثاني لدى الأرشيف البريطاني الذي يتيح بيانات وصفية كاملة للوثائق المتاحة للاطلاع.

لكن العالم يتجه الآن إلى ما هو أوسع من ذلك، ألا وهو إقامة مواقع إلكترونية أو مكتبات رقمية أو ذاكرة تاريخية على شبكة الإنترنت لكل دولة، هذا النوع من المواقع صارت الحاجة إليه ملحة لسببين: الأول، ويتمثل في إقبال الأجيال الجديدة على تكوين ثقافتها عبر الوسيط الرقمي وليس عبر الوسائط الناقلة للمعرفة والعلم في صورها المضادة سابقًا. الثاني، تعدد المواد والمصادر التاريخية، وهو ما يجعل من برامج الحاسب الآلي ميزة كبيرة في ربط هذه المواد مع بعضها البعض لتعطي - من مدخلات متعددة - نتائج متكاملة لمدخل واحد مطلوب البحث عنه.

فمن المصادر التاريخية الجديدة المواد الإذاعية، والمواد التلفزيونية، أرشيف الإنترنت، الصحافة، والصور الفوتوغرافية، الأفلام السينمائية، والأفلام التسجيلية، إضافة إلى المصادر التقليدية كالكتب، والدوريات، والوثائق، والعملات، وطوابع البريد، والآثار وغيرها.

هذه المواد جميعًا من الممكن في حالة وصفها في بطاقة وصفية شاملة تتضمن الكلمات التي يمكن أن يبحث من خلالها المستخدم عن هذه المادة تشكل مرجعية لاستعادة المادة عبر البحث على شاشة الحاسب الآلي، وهناك مداخل متعددة لتصميم الصفحة الرئيسية للموقع الرئيسي، منها مداخل تتبع موضوع البحث مثل: الحكام، رؤساء الوزراء، الموضوعات كالحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والفنية، والحياة العلمية، إضافة إلى الأحداث المهمة، فضلاً عن الشخصيات العامة في مقابل البحث بالموضوع. هناك أيضًا البحث من خلال المواد مثل: الصور، الوثائق، الأفلام، التسجيلات الصوتية، الخطب، الصحف والمجلات، الخرائط، النقود، طوابع البريد، الكتب، الأوسمة والنياشين، الأغلفة والملصقات، والإعلانات.

لكن هذا كله يجب أن يُعزز بمواد تاريخية موضوعية تشرح ببساطة كل ما يتعلق بتاريخ البلد حيث إن مستخدم الموقع يفترض فيه أن يكون باحثًا عن مادة تاريخية يريد أن يقرأ حولها أو أن يتعلم قبل أن يستخدم هذا الكم الهائل من المواد. وإذا أضفنا لذلك مقالات ودراسات لمؤرخين في أيقونة icon خاصة تتناول قضايا بعينها، أو تفسيرًا أو شرحًا لحدث تاريخي، يكون الموقع التاريخي قد اكتملت أركانه.

هكذا سيكون تقديم التاريخ للمجتمع خلال السنوات القادمة، لكن هناك فروقا بين أن يُقرأ التاريخ من كتاب به نص تاريخي أو من خلال موقع تاريخي على الإنترنت. هي كمال يلي:

الكتاب التاريخي

 

الموقع التاريخي

يقف عند رؤية مؤلفه للموضوع.

 

يدع القارئ يشكل رؤيته الخاصة به من خلال المواد المتاحة له.

ينتهي العمل فيه فور طباعته.

 

يمكن تصحيح معلوماته والإضافة له.

لا يتفاعل مع قارئه.

 

تفاعلي، حيث يمكن للقارئ المشاركة في الإضافة له.

محدود التوزيع.

 

ليس له حد في الانتشار.

مادته محدودة على صفحاته.

 

مواده متعددة تخدم الموضوع الواحد وتتنوع بصورة تلفت عين المشاهد.

للأجيال الحالية.

 

تاريخ للمستقبل.



بل يمكن أن يتفاعل مستخدم المكتبة أو الموقع التاريخي مع جمهوره سواء عبر البريد الإلكتروني، أو عبر فتح نقاش حول مسائل أو قضايا تاريخية محددة، يشارك في النقاش علماء تاريخ مع الجمهور، خاصة في قضايا تاريخية خلافية، إن هناك ميزة إضافية للمكتبات الرقمية التاريخية، هي أنها بمنزلة سجل وطني يحفظ كل ما يتعلق بتاريخ الوطن في ذاكرة لا تختفي ولا تحترق بمرور الزمن أو لأي سبب من الأسباب، فالوثائق لدى دار الوثائق القومية، والمواد التليفزيونية لدى محطة التلفاز الوطنية، والنقود لدى البنك المركزي، والصحف لدى المؤسسات التي تصدرها.. وهكذا. لكن المكتبة الرقمية هي الوعاء الذي يجمع كل المواد التي لها علاقة بذاكرة الوطن. يعزز مثل هذا النوع من المكتبات الرقمية المحتوى الرقمي للدولة أو الأمة على الشبكة العنكبوتية التي يجرى الصراع حولها من قبل العديد من الدول والمؤسسات, الكل يريد مؤطئ قدم له على هذه الشبكة إثباتًا لهويته وشخصيته.

إن الذاكرة الرقمية التاريخية تشبه الفيلم السينمائي في عرضه للمشاهد التي سرعان ما تتحول إلى ذاكرة الإنسان، بعضها مشاهد ينساها وبعضها يتذكرها في موقف ما.

ستعود بكم الذاكرة سنين طوالا إلى الوراء فتردكم إلى الماضي الذي لم نكن نحن جزءًا من مشاهده, يوم أن كانت بلادنا في بدايات نهضتها المعاصرة، حيث كان أجدادنا يناضلون من أجل تحديث بلادهم والحصول على حقوقهم، وأنتم تستعرضون مشاهد من حياتهم اليومية، سترونهم وكأنهم أشخاص حقيقيون يعملون ويقاتلون يتعذبون ويناضلون، ويعيشون حياتهم بأدق تفاصيلها، ستأخذكم إلى المدن والقرى، هكذا سيكون مستقبل التاريخ، صورة من الماضي تبعث عبر شاشة الكومبيوتر كي تقرأها الأجيال القادمة.

 

 

خالد عزب