شعراء أصفهان المنسيُّون
شعراء أصفهان المنسيُّون
بعد فتح أصفهان واستقرار كثير من العرب بها ترسّخت فيها اللغة العربية على مستوى النخبة من العلماء والأدباء والشعراء والمفكرين، وأصابت أصفهان فضلاً قلما ضاهتها فيه مدينة أخرى حتى أنها عرفت باسم «بغداد الثانية». يمتاز القرن الرابع للهجرة بازدهار الشعر العربيّ في أصفهان على أَيدي أَبنائها، بسبب اتِّخاذ البويهيين منها قاعدة حكم، واستقرار بعضهم فيها أو بعض وزرائهم ولا سيّما الصّاحب بن عبّاد راعي العربيّة وتراثها، شعراً ونثراً، وصاحب صناعة مميّزة فيها عريقة النِّجاد. وقد استمر ازدهار العربيّة بين نُخبها طوال القرنين الخامس والسادس للهجرة / 11 و 12 للميلاد، وبنسبة أدنى خلال القرنين السابع والثامن للهجرة/ 13 و 14 م، حيث غدا إنتاجها الأدبيّ صناعة لا إِبداع فيها، قبل أن تنحسر تدريجياً خلال القرن السابع للهجرة، ويقتصر دورها على علوم الدين في المساجد والمدارس، إِذ حلّت اللغة الفارسيّة التي طالما كانت لغة جمهور الشعب فيها، كما في بعض نواحي إِيران الأخرى، محلّ العربيّة، بعد أَن دمغتها العربيّة في العمق. ولازدهار العربيّة في أصفهان وسائر نواحي إيران التي خضعت لحكم البويهيّين سببان: أَولهما رعاية بني بويه للعربيّة بسبب طموحهم لتأسيس مملكة إِسلاميّة شيعيّة تشمل، إِضافة إلى قسم مهمّ من إيران، عراق العرب، إحياءً للشاهنشاهيّة الإِيرانية في لبوس جديد؛ فتلقّب ملوكهم، لذلك، شاهنشاه. وثانيهما كثرة العرب الذين وفدوا إلى أصفهان واستقروا فيها وفي القصبات والرساتيق المنتشرة في مناطقها القريبة والبعيدة، وصولاً إلى كاشان ونواحيها، بسبب ما ذكرناه من نعمة الطبيعة عليها. نتناول، بادئ ذي بدء شعراء أصفهان الذين اشتُهروا في أَواخر القرن الرابع وأوائل الخامس للهجرة. عَبدان الأَصفهاني (أو الأَصبهاني) يعرف بالخُوزي. اعتبر عبدان في مقدمّة شعراء ذلك العصر، وقد جرى شعره على سياق المولّدين في خفّة روح وظرف، رغم ضيق ذات يده. وصف الثعالبيّ شعره بأنه ظريف الجملة والتفصيل، وذهب إلى أنّه لم يسمع قولاً في خضاب الشَّعر أحسن من قوله ولا أَظرف ولا أًعذب ولا أَخفّ حيث يقول: في مشيبي شماتةٌ لعِداتي ومن لطائف معانيه وصوره ومراعاته بين المعاني والكلم قوله: سُقيت، وفي كفّ الحبيبة وردةٌ أَما على الصعيد الديني - الفكري فكان عبدان يجاهر بحبّه العلوييّن ويعلن ولاءه لهم. قال في علويٍّ: كم غاصبٍ حقَّكم ليهزلكم وقال أيضاً، في معرض ولائه العاطفيّ لهم: أقسمتُ حقّاً بما أُوتيتَ من كرمٍ عُمِّر عبدان حتى نيّف على السبع والسبعين كما يُستنتج من قول له: هيهات نجمي آفلٌ شاردُ أبو سعيد الرُّستمي: وصَّاف وابن بيئته هو محمّد بن الحسن بن محمد بن الحسن بن علي بن رستم، من بيوتات أصبهان. اعتبره الثعالبيّ من شعراء العصر في الطبقة العليا وهو يقول الشعر في المرتبة العليا. قال مفتخراً بنسبه الإِيرانيّ وبيانه العربيّ: إذا نسبوني كنتُ من آل رستمٍ وقال في معرض آخر: أنا من عُرفت سرّاً وجهراً أَمّا الصاحب بن عبّاد الذي كان يقدّمه على أكثر ندمائه وينظمه في عقد المختصّين به، فيشهد له مرّة بأنّه أشهر شعراء عصره، وتارة بأنه أشعر أهل عصره، ويقول في رسالة له إلى أبي العبّاس الضبيّ إِنّ الرستميّ كان يروع بمحاسن شعره. مدح الرستميّ الصاحب بن عبّاد ومؤيد الدولة البويهي وعليّاً بن أبي القاسم وقال الشعر مؤلّفاً بين فصاحة البداوة وحلاوة الحضارة. ورغم جريه على سنّة الأقدمين في ذكر الأطلال في مستهل مدائحه فإنّه طعّمها بوصف بعض مظاهر الطبيعة في أصفهان ونهر زاينده رود، كما جاء في إحدى مدائحه لمؤيد الدولة. ورغم أنّه بدأها بذكر الطلل فإنّه استخرج من ذلك معاني مبتكرة وصوراً رقيقة ومواءمةً بين المعاني والألفاظ في رقة مياه أصفهان حيث قال: مررنا بأكناف العقيق فأَعشبت ثم انتقل إلى وصف الربيع متعزّياً بسلوته كما ذكر، واسترسل في وصف بعض تجليّاته الأصفهانيّة حيث قال: ألم ترَ أيام الربيع تبسّمت شيئاً. وقد حملت سوسانها في حجورها وهكذا، بعد أن يولّف الرّستمي بين مشهدين أَحدهما من البادية والآخر من الحاضرة - كما ألفَّ بين نسبه الإيراني العريق ومحتد بيانه العربيّ الأصيل -، ينتقل إلى وصف نهر زاينده رُود في قوله: وقد ماج وادي الزَّندَرودِ بفيضه ويبدو أنَّ الرستميّ، وهو الأصفهانيّ المعتزّ بانتمائه، كان كلفاً بنهر مدينته شغفاً بوصفه كلما سنحت له فرصة، كمثل قوله فيه، خلال مدحة وجهّها إلى الصاحب بن عبّاد: وحَكاك وادي "الزَّندرودِ" فأقبلت أبو محمدّ عبد الله بن أَحمد الخازن قال فيه الثعالبي: هو من حسنات أصبهان وأَعيان أهلها في الفضل، ومن خواص الصاحب ومشاهير صنائعه... وكان يتولّى خزانة كتبه. كان كاتباً شاعراً متصرفاً في فنون الكلام، وفي جملة من كان أبو بكر الخوارزمي يروي أشعارهم، وقد قال في وصفه غبارَ الرَّكب إنّه لم يسمع في معناه أملح منه وأجمع لأقسام الحسن والظرفّ حيث يقول: إنّ هذا الغبارّ ألبسَ عِطفيَّ ومن جميل استخراجه المعنى من مراعاة النظير والمقابلة: هندٌ ترى بسيوفِ مقتلها كان الخازن من شعراء حضرة الصاحب فبلغت أشعاره الثعالبيَّ في نيسابور عبر أبي محمد بن حامد الحامدي الذي جمعته بالشاعر حضرة الصاحب. وقد سعى الوشاة، كالمألوف عند الملوك والرؤساء، بينه وبين الصاحب بن عبّاد فتغيّر هذا عليه، فحمل شاعرنا عصا التسيار، وكان يوجّه إلى راعيه السابق قصائد الاعتذار والاستعطاف التي شبّه واحدة منها الثعالبي بقصائد النابغة الذبيانيّ الاعتذارية إلى النعمان، وإبراهيم بن المهدي إلى المأمون، وعليّ بن الجَهم إلى المتوكّل، مفضّلا إيّاه على هؤلاء الكبار الذين سبقوه. وأنا، وإن كنتُ لا أرى رأيّ الثعالبي في الخازن، فإني محاول أن أختار أجمل أبياته الاعتذاريّة. فمنها قوله: لنار الهمّ في قلبي لهيبُ أبو العَلاء الأَسديُّ ذُكر أَنه قديم الصحبة للصاحب، شديد الاختصاص به، وكان هذا يحبّه ويأنس به ويكاتبه. قال صاحب اليتيمة: فأَمّا شعر أبي العلاء فليس بالمحلّ العالي، لا سيما في المدح، وقلّة عيوبه تمنعه من إيراده بعد قلائد ولديه أبي سعيد وأبي محمد. وفي جملة ما ذكر من شعره وهو قليل، هذا البيتان اللذان ذكر ان الناس كانوا يتغنّون بهما: لا لعمري ما أَنصفوا حين بانوا أبو الحسين الغُوَيريُّ هو في الاختصاص بالصاحب والاشتهار في أصحابه كأبي العلاء (الأسدي). وكان كثير الشعر، قليل الملح. بهذه الكلمات وصفه الثعالبيّ. من أبيات له في قصيدة ربيعيّة(7): أَيها الصّاحب الربيع تجلّى منزلة رفيعة هذه لمحة عن شعراء من أَهل أصفهان أو مستوطنيها الذين انخرطوا في حلقات وزير البويهيّين الشهير الصاحب بن عبّاد الذي غدت حضرته في أصفهان والرَّيّ مباءة للعلماء والمفكرّين والشعراء والناثرين الذين اتخّذوا من العربيّة لغة تعبير لهم، بينما كانت الفارسيّة تتأهّب لإِنتاج أدب قيّم واستعادة دور فقدته لغات إيران قبل الإسلام. والمعروف عن الصاحب أنه، إِضافةً إلى تعدّد مواهبه في فنون المعرفة، كان ينصّب نفسه راعياً للعربيّة وآدابها والمعارف الإِسلاميّة في مختلف فروعها، فغدت حضراته حيث كان ينتقل مجالس تتداولها جميعاً ومجمع القُصّاد من كل فجّ عميق. وإِذا كنّا قصرنا كلامنا هنا على أهل أَصفهان ومستوطنيها من الشعراء فلأَنّ هؤلاء لم يسلَّط الضوء عليهم في تواريخ الأدب العربيّ، في حين من الدهر كان شعراء أَصفهان خلاله يكادون يضاهون شعراء خراسان القديمة، ولاسيّما أَنهم انفردوا بتمثل طبيعة مدينتهم الغنَّاء في شعرهم، مازجين مضامين فنون الشعر التقليديّة بوصف بيئتهم الخاصّة. فإِذا تدبَّرنا النماذج المختارة في مقالنا من شعرهم أَلفيناها تدور في معظمها حول فنّ المديح التقليديّ، متأثرة ببيان شعراء العرب الكلاسيكييّن وصولاً إلى الجاهلييّن. إِلاّ أنهم من خلالها ومن خلال نماذج مستقلّة عن الفنون التقليديّة نفذوا إلى أَبعاد وجدانيّة خاصّة بهم, منطلقين من طبيعة بلدهم الغنَّاء، ولا سيّما نهر زايندهِ رود الذي لايزال يشقّ مساره عبر أَصفهان الجميلة درة المشرق، ومن تقاليدهم المحليّة العريقة. لذلك كان شعرهم في الطبيعة وما تنبته من روائع جمال جديراً بأَن يُدرج في سلك شعراء الطبيعة المعروفين في عهد بني العبّاس، ولا يجوز أن يغيب عن كتب المؤرّخين للأدب العربيّ. فمن خصائصهم أَنهّم ظلّوا أوفياء لعمود الشعر العربيّ وفنونه وتعابيره حتّى البدويّة منها في رموزها العربيّة القديمة. ويعود ذلك ، على ما نرجّح ، إلى اعتبارهم من سبقهم من شعراء العربيّة مثالاً أَعلى في النهج والمضمون. والجدير بالذكر أَنَّ هذا التوجّه يشمل كذلك شعراء الفارسيّة في أواخر القرن الرابع الهجري وخلال القرن الخامس بوجه أخصّ، من أَمثال مُعزّي ومنوهري ولامعي... كما يعود إِلى تعلّق الصاحب بتراث العرب، رغم نسبه الإِيرانيّ، وتعصبّه للعربيّة، وسعي الشعراء إِلى إِرضائه باعتمادها لغة تعبير. لكنّهم كانوا حين يؤوبون إلى أنفسهم يُفلتون من عقال المطروق المكرور، كما شاهدنا. ويمكن، في هذا الصَّدد، اختصار توفيقهم بين التالد والطريف، بما صَّرح به شاعرهم أبو سعيد الرستمي حين قال: إِذا نسبوني كنتُ من آل رستمٍ هذا، وقد التقوا جميعاً في وضع النبرة على وصف الريّاض والأزاهير، ولا سيّما في التغنّي بنهر أَصفهان "زايَنده رُود" الذي ورد في شعرهم، مجاراة لوزن الشعر بالعربيّة، في صيغة "زَندرَود" كما عند الرستميّ وسواه. وليس وصف الرستميّ لهذا النَّهر دون وصف الأخطل للفرات ووصف الصنوبريّ، شاعر سيف الدولة والطبيعة الشهير، لنهر قُوَيق وأَوصاف سواهما. أما وصفهم للطبيعة، بوجه عام، فينافس أوصاف الصنوبريّ نفسه وابن المعتزّ وشعراء الأندلس. لذلك قُلنا إنَّ على مؤرّخي الأدب العربي أن يسدّوا هذه الثغرة في تناولهم فنون الأدب العربيّ وأَلاّ يغفلوا شعر أيّة منطقة من مناطق رواج العربيّة وآدابها، سواء كانت دانية أو قاصية بالنسبة إلى مركز الحكم.
|