قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
-----------------------------------------------

تفضّلت مجلة العربي، فأرسلت إلي مجموعة من القصص، وطلبت مني أن أختار منها أربع قصص تنشر في مجلة العربي، وبعد قراءة تلك المجموعة، اخترت القصص التالية لأنها أفضل خمس قصص من بين تلك المجموعة:

- تنتمي «حدث في عباءة ليل» إلى فضاء القصص الفنتازي/الغرائبي، على الرغم من محاولة المؤلف أن يوهمنا بواقعية الأحداث في نهاية القصة. ولقد جاءت أولى مراحل هذه الفنتازيا في العنوان، حيث الإشارة إلى أن أمراً «حدث»، ولكن مكان وزمان هذا «الحدث» غُيّبا في ضبابية لغوية كثيفة تشير إليها جملة «في عباءة ليل»، ويعمّق هذا الغموض ما ورد في السطر الأول والأخير من تقرير جاء على هذا النحو: «هذا ما لم أستطع تفسيره حتى اليوم!» ما الذي حدث؟ الإجابة ترتبط بالموقف الغرائبي الذي أشرت إليه، ففي إحدى الليالي، وفي طريق عودته إلى قريته ليحتفل مع جدته بالعيد، قضى البطل ليلته في أحد الكهوف، وقبيل نومه تذكر حكايات جدته عن الجن، وبعيد نومه برزت له إحدى الجنّيات تعاتبه على الغياب، وتعلن عليه الحب، وتقدم له عناقيد العنب! عندما تعاتب جنية إنسيا، وتقدم له عناقيد العنب إشارة إلى الحب، فنحن في فضاء غرائبي، ولكن عندما تسأل الجدة حفيدها عن «سر عناقيد العنب الشهية التي أحضرتها في العام المنصرم»، فنحن في حضرة الإيهام بالواقعية. ويبقى السؤال: كيف حدث هذا؟ يبحث عن إجابته عند القارئ الذي قد يؤول ذلك اللقاء بأنه كان لقاء بين جنية «الإبداع» وإنسان «الكتابة».

- تعد «لماذا تلوح فقط؟» من قصص التخييل المضاعف، الذي ينهض على الكتابة عن الكتابة، وهذا ما ربط بين العنوان والمتن الحكائي، فالتي «تلوح» هي القصة التي تلمع في ذهن كاتبها فكرة هلامية تنشد الاكتمال والخروج بصورة كاملة، وما بين التلويح في الذهن والاكتمال في الكتابة تسافر القصة في مسيرة التكوين حتى النهاية في الكتابة والبداية في القراءة. وقد أشار إلى ذلك المؤلف في السطر الأخير، والذي جاء هكذا «عدت أدراجي ألهث من شدة العطش، حملت قلماً وورقة وشرعت في كتابة قصة أهديها لرشيدة».

إن هذا السطر يحيلنا على بنية التخييل المضاعف، الذي ينهض - كما ذكرت - حول معاناة المؤلف في كتابته عن كتابة تلك القصة. أما «رشيدة»، والتي تراءت للبطل على سطح البحيرة، تخاطبه بالكتابة على سطح الماء، فهي فكرة القصة في تحوّلاتها إلى أن اكتملت بقرار المؤلف في السطر الأخير، والذي يطالب فيه القارئ بقراءة القصة مرة أخرى بعد فراغه من السطر الأخير.

- في «جبل موسيقى»، يتداخل الفن مع الأبوّة، بصورة ترمز إلى الحافز من جهة، وإلى الإنجاز من جهة أخرى. فالفن يظهر في عزف الابن على آلة البزق، والأبوّة تظهر في حضور العزف في وجود الأب. وهكذا فبعد موت الوالد عجز الابن عن العزف أو بتعبير آخر، عجز اللحن أن يأتي إلى البزق. وفي نهاية القصة يندغم الثلاثة: الأب والابن والبزق في معزوفة أخيرة فوق قمة الجبل، غاب عنها جسد الوالد وحضرت ذكراه، يختتم السارد القصة، معلقاً على تلك المعزوفة، ومعلناً قراره الأخير «بدأت أعزف. كان للعزف زهوة الانتصار. مساء عدت، دون بزقي، دون والدي». في حضرة الأب كان العزف، ومع غيابه غابت الموسيقى. وينبثق هذا السؤال المؤلم: لماذا لا يتخذ الابن من غياب الأب نقطة انطلاق؟ وتبقى الإجابة عند القارئ.

- «المخدوعون» قصة تقليدية تظهر فيها عناصر القصة بوضوح شديد، بدءاً من دلالة العنوان الناجزة، إلى تطور الأحداث التي تعرض لها مجموعة من الشباب المغربي تحاول الهجرة غير المشروعة إلى أوربا. إلى «لحظة التنوير» التي اكتشف فيها هؤلاء الشباب أنهم خدعوا ولم يهربوا إلى أوربا وإنما ألقوا على شاطئ آخر من شواطئ الأرض المغربية. وإذا كانت القصة مباشرة وبسيطة، فإن موضوعها يمس جرحاً إنسانياً عجزت القصة أن تعالجه معالجة فنية عميقة.

-----------------------------------

حدث في عباءة ليل
خالد المرضي الغامدي (عمان)

هذا ما لم أستطع تفسيره حتى اليوم! حينها كان الليل ينشر عباءة سوداء لحد العمى، وتحت قبة السماء تتوارى النجوم, بيت جدتي في منحدر القرية الجنوبي,حيث أصرت هذا العام أن أقضي العيد معها.

- آآه يا جدتي, لم كل هذا العناء؟!

كان علي أن أصل هنا باكراً, لكن ما حيلتي أمام هذه الطرق المتعرجة الغارقة في الوحل, وأنا أهم بالعبور بين ضفتي الوادي, تذكرت حديثاً دار في ليلة مقمرة, كنت أتلصص على هذا الحوار الهامس, وعقل الطفل في رأسي يمنحه خيالاً واسعاً قالت جدتي حينها:

- إن لديهم عرساً.اسمعي الدفوف

- بسم الله:

قالت سميرتها وهي ترشف قهوتها, بينما تشير لها أن تصمت.. وأتبعت..

- يحضرون عند الحديث عنهم..

في الصباح كنت أستقبل الوادي,أحدق في الاخضرار, زقزقة طيور وطنين دبابير, أين هي الأعراس ونقر الدفوف؟, أحلام تفضحها شمس النهار, لكن جدتي لا تقول إلا حقاً, دوماً أقنع نفسي بأني سأحضر نقر دفوفهم يوماً.

ابتسمت وترجلت، هنا آخر الممر الترابي,ستنام مركبتي في حضن الجبل،أخذت أتخبط كأعمى بلا عصا, أجوس بقدمي في الطين, ويداي تمتدان أمامي,تتحسسان الظلام,حينذاك برزت من عمق الظلام, هكذا دون صوت أو همس, برزت فأضاء المكان, ضوء لا يشبه الضوء, وجمال لا يشبه الجمال.. كان الزمن يتلاشى, كأنما يرغب في التوقف, أحاول كطفل أن أفهم معاني الأشياء, أعيد ترتيب حواسي لتتدبر أمرها، هاهي صورتها ترتسم كتمثال مرمري مصقول..

- ياإلهي!

نبتت على لساني مخنوقةبينما تستجدي حنجرتي ندى الأشجار ورائحة الطين..

شعرها فاحم وطويل كذيل فرس, تستند إلى جذع شجرة, خصرها بين إبهام ناعم وأصابع رقيقة بيضاء, أتمعن تفاصيل جسدها من قدميها العاريتين حتى جبينها الناصع, لا أعرف إن كانت حواسي قادرة على استيعاب كل هذا الضوء، قالت:

- ياابن الإنسي أين كنت كل هذه السنين؟!

عيناها تبتسمان في براءة وصوتها يتدفق كنسمة قروية باردة, بأطراف أناملها رفعت غرة تنسدل على جبينها..

- كما أنت رغم السنين...

- .......

- افتقدتك, بالرغم من غبائك وخشونتك، كرهت قبيلتي بعدك، كرهت الخرائب ومرابض الابل،صداقتك منحتني التوحد والانزواء، رقبتي لا تزال تشكو حبالك القاسية..

كنت أنصت ببلاهة، أتجشم عناء اللحظة، أسترق نظرات إلى النجوم التي أضحت تتدلى كقناديل معلقة تتأرجح، بينما تواصل ذكرياتها بثقة مفرطة وأنا أرتب حواسي من جديد، أحدق في حضور الأشياء، الأشجار، النجوم، أحرك أطرافي، أمسح أرنبة أنفي، أشم رائحة المكان..

الآن تنبهت أنها توقفت عن سرد تفاصيل آلامها، قذفتني بسؤال اللحظة، وعلي أن أتدبر أمر حنجرتي لتنسى جفافها إلى أجل. قالت متوسلة:

- لم تركتني ؟

- من ؟

- صديقة الطفولة، سنين طويلة أبحث عنك بعد أن رحلت، استجديت كل علية القوم.

كنت أتأمل تقافز الكلمات بين شفتين ناعمتين، لا أعلم لم شعرت ببعض السكينة والود تجاهها، خيّل إلي أن أمراً ما جمعنا ذات زمن!

- لم أفهم أرجوك...

قاطعتني بينما تتقدم ناحيتي في هدوء وخطوات وئيدة..

- طبعكم هو أبداً..الجحود..

تأملت قسمات وجهي عن قرب، كأم ترتوي غياب السنين لوحيدها العائد، ابتسمت...

- جدتك أطفأت نارها وأفرغت دلتها، يئست من حضورك اليوم..

شعرت بدوار تأرجحت له قناديل السماء، أفقت وأمعنت النظر في عناقيد العنب الممتدة أمامي، كانت تقطف بعض حبات ثم تغرسها في مساحة فمي المجدبة, ارتويت، واستويت قاعداً.

كان كل شيء حولي يوحي بالجنون لكنني عندما أفقت بينما تلسعني شمس النهار كانت عناقيد عنب تتناثر حولي راوية وشهية ..!!

وعند زيارة جدتي لنا في مدينتي البحرية بعد حين كانت دوماً تسألني عن سر عناقيد العنب الشهية التي أحضرتها لها في العيد المنصرم..

أما كيف حدث هذا فهو ما لم أستطع تفسيره حتى اليوم!.

لماذا تلوّح فقط؟
مصطفى لمودن (المغرب)

في يوم دافئ أحسست بعطش مفاجئ وبحرقة بسيطة في حلقي، كان المطر قد توقف لتوه، وظهرت أضواء شمسية بعد طول فصل مطير، خرجت كباقي الكائنات الحية أتمشى على سفح الجبل وأسخن أطراف جسدي. لكن هذا العطش المفاجئ عكر صفو خاطري قليلاً، قلت مع نفسي سأجد بركة ماء قريبة تروي عطشي، فالماء مازال جديداً لم يُلوث بعد، آخر القطرات نزلت في الصبح. لكن المفاجأة الثانية بعد العطش الذي أصابني هي أنه لم أجد نقطة ماء متمددة على الأرض، مشيت خطوات كثيرة، أبحث هنا وهناك، ولا ماء!.. عجباً، في مثل هذا اليوم غالباً ما تبقى برك مائية كثيرة، منها ما يدوم لأيام، فماذا حدث؟

تذكرت حكاية قديمة، تقول الحكاية إن شامة الجميلة هجرت أسرتها،وسكنت مغارة في أعلى الجبل، بعدما رفضتْ تزْويجَها من رجل لا تحبه، يُقال إنها كانت أجمل وأذكى فتاة في البلد، تتوافر على أجمل عينين ساحرتين، وكانت لهما قوة خارقة تستطيع تحريك الأشياء، مما جعلها محط احترام الجميع، أرادها أقوى رجل في البلد، زوجة لنفسه فرفضت، فضلت الانعزال في الجبل، مع مرور الأيام بدأت تساءل نفسها:

- هل يمكن أن أبقى بلا زواج؟ أنا في حاجة كذلك إلى رجل يتزوجني وأتزوجه، نعيش معاً، نكوّن أسرة وننجب أبناءً، الزمن يمر، الجمال يذبل مع الوقت... لكن كيف تتزوج وهي منعزلة في الجبل؟

فشامة قررت أن تختار هي بنفسها مَن تتزوجه، أن تتعرف على أبناء بلدها كلّهم لتختار منهم واحداً يناسبها، التجأت إلى القوة الكامنة في عينيها لتحقيق ذلك.

صعدت إلى أعلى القمة، نظرت إلى كل الأرجاء، وفي لمح بصر حوّلت كل عيون الماء والبرك المائية الصغيرة المتناثرة إلى أسفل الجبل الذي تسكنه، بذلك سيأتي كل الرعاة وكل من يريد جلب الماء وكل من يرغب في إرواء عطشه... حينها ستختار مَن يناسبها، غير أن تدفق مياه جميع العيون كون بحيرة كبيرة حول الجبل.

أنا أريد أن أروي عطشي، مازلت أتمشى، أبحث عن أي منبع ماء أو بركة. بعدما أزحت عن طريقي غصن شجرة مائل رأيت بحيرة تمتد أمامي!

اقتربت أكثر من ضفتها وأنا أحاول ألاّ تنزلق قدماي في الماء أو تنغمس في الوحل، ملتُ بجسدي على صفحة الماء اللامعة فتراءى لي وجه صبوح لفتاة لم أره من قبل، مسحت عيني، الصورة واضحة، فتاة جميلة تنظر إليّ وتبتسم، آه فهمت لم أفكر في الأمر منذ البداية، هي فوق غصن وصورتها تنعكس على الماء! نظرت إلى الأعلى، لكن لم يظهر أي أثر لأي فتاة، تحسست أطرافي وتأكدت من أنني لست نائماً، أدخلت أصبعي في الماء فتكوّنت دوائر تتباعد داخل البحيرة إلى أن تتلاشى... لكن الغريب في الأمر أن أصبعي لم يبتل بأي قطرة ماء!..

قلت لأحدثها: ما اسمك يا رائعة؟

لم ترد، أعدت عليها السؤال، فلاحظتُ حروفاً على صفحة الماء الهادئ، مفاجآت كثيرة هذا اليوم! تهجيت الكتابة: «هند».

قلت: ياهند أريد سماع صوتك. لم أسمع شيئاً، لكن أصبعا ظهر وخط بحروف أنيقة على سطح الماء:

ـ اسمي خديجة.

قلت: يا خديجة، هل أنت هي شامة التي كانت تروي عنها الجدات؟

كتبت: ممكن.

أعلنت بكل لهفة: اظهري أريد رؤيتك كاملة. كتبت مرة أخرى بأصبع يشع منه نورٌ فضيّ يُضيء أكثر صفحة الماء:

ـ ليس الآن.

قلت لها: إن شامة قد تزوجت، ولكن ليس من أحد رعاة الغنم، لقد علمتْ أن هناك آخرين لا يرعون الغنم، ولم يزوروا قط البحيرة، اشترطت على كل مَن يرغب في الزواج منها أن يكتب لها قصة، ثم أن يكون الأول مَن يقطع البحيرة سباحة، انتشر الخبر وكان لها ما أرادت.

رأيتُ أول حرف على سطح الماء، فعرفتُ أن رفيقتي غير المرئية تريد قول شيء، كتبت:

- هي قصص كثيرة، يحلو للجميع حكْيَها وسماعها، خواتمُها متعددة، لكنّها كلّها تنتهي بزواج شامة، لقد كان قصدها منذ البداية هو الزواج.

- وأنتِ؟ هل ستظهرين؟ أريد رؤيتك وسماع صوتك، فهل لك بدورك شروط؟

- عندي شرط واحد فقط، هو أن تكتب لي قصة أكون أنا بطلتها...

لوّحت لي بيدها واختفت. عدت أدراجي ألهث من شدة العطش، حملت قلماً وورقة

وشرعت في كتابة قصة أهديها لرشيدة.

جبلٌ موسيقيّ
حسن عبد الله (سورية)

نحن خمسة إخوةٍ، أنا أكبرهم حين أعزف على أوتار "البزق" يتكوّرون ويتداخلون كالنحل ويسترقون السمع.

وأمّي.. وقد حفر الدهر عميقاً أخاديده على وجنتيها الغائرتين, ترمقنا بنظرات شغف مع ابتسامة أمل، وقد جمعت الروث اليابس وكوّمته على مقربة من التنّور تتهيّأ للخَبيز..

تحلب العنزات صباحاً, وأحياناً، في المساء .. تحضّر الحساء قبل بزوغ الشمس على الموقد الطينيّ... نكون مازلنا مستلقين في فراشنا.. صوت تقلّب الحساء في القِدر.. شذى البخار المتصاعد إلى أنوفنا.. رائحة البصل اليابس توقظنا, الواحد تلو الآخر.

نخضع جميعاً لطاعة الوالد بصمتٍ، الذي يغتسل في الفجر حين يمضي ليلته في البيت..

أنا الرجل الصغير .. خليفة والدي .. أقلّده .. أضخّم نبرة صوتي... أتجهّم وأتصنّع الجدّيّة والعزم، لكنني لا أدخن. أنا هو في كلِّ الأمور، عدا أنني أعزف على البزق ...أكلّل الغناء بالنغمة، لا أحمل بارودة.. لا أرحل... لا أغيب .. لا أعاقب إخوتي بالضرب. قد أكون أحياناً سليط اللسان, كثير الصراخ.. لكن الأمر لا يتعدّى أكثر من ذلك حين يغيب والدي ندرك أنّه سيغيب طويلاً ... وقد يخطر لنا في كلّ رحلة أنّه لن يعود... بل إنّنا كثيراً ما نتخيّله عائداً, محمولاً على الأكتاف، ملفوفاً بكفن أبيضٍ ... لكنّه يعيد البهجة إلينا مع كلِّ عودةٍ وهو يقول:

"البارودة أمانة لا بدّ أن أعيدها.. إنّهم هناك فوق الجبال ينتظرون عودتي ، بين الثلوج، داخل الكهوف، على الغيوم التي تلثم فروة الجبال وتجلس، لتغسل أكتاف الصخور... تكلّل المكان بقبلٍ نديّةٍ ، لا أخشى الضباع ولا الذئاب، انحدار الجبال المفاجئ، اتجاه السيول أو... أحياناً سطوع الشمس.

يغيب.. نحتسي نخب الاحتفال واللقاء.. كلما يذهب ويجيء، يأتينا مثل الكئوس الفارغة, ملثََّماً، ملتحياً, منهكاً.. تزداد آمالنا, نتوّج اللقاء بطعامٍ لذيذ. لا نرتوي من كئوس الشاي المتكرّرة... حين ينوي الفراق والرحيل... أحمل (بزق), أركع بخشوعٍ، تحملني شجوني, وأعزف «قبيل المسير.. دون نوتة... بلا دوزان.. في البداية تقبّل أناملي الأوتار، تدغدغها بلطف ... والآلة عتيقة متصدّعة، لكنّها لا تسرّب أسرار أصالتها، «الأوتار تبدّل طموحاتنا الدنيئة.. تنشّط دورة الدم... تدفع آمالنا التي ضلّت وتاهت بين وحل الطرقات الترابية، الملتوية في الحقول, على سفوح الجبال لحظات الفجر الضبابيّ, إلى الضوء..صخب... لكنه يفجّ أدمغة العناصر بشقّ الوديان الخالية من الأشجار والرمال... بأنين الرياح خلف الأبواب المشقّقة أيّام الشتاء».

بدأت العزف كالعادة دون نوتة, والدتي على مقربة من المنزل، على البيدر هناك... خرج والدي، على كتفه بارودته، كالعادة ... أخرج خلفه، وأنا أعزف . الطريق ملتوٍ ... صخريٌّ وعر... تغطّيه طبقة رقيقة من الثلوج . كلما نصعد تزداد كثافة الثلوج, تستقبلنا الصخور مباغتة ... لكنها لا تعرقل سيرنا ...و أعزف ... يرتفع الصوت, يفيض الخيال.. كلّما أصعد, يرتفع العزف .ينقطع الوتر السفليّ لكنّني لم أتوقّف. تنقطع صلتي بالمكان .

: «وصلنا القمّة..» رفعت رأسي لم يكن والدي في المكان ... إخوتي في زاوية الدار يهمسون .. البارودة لا تزال على الجدار ... والدتي تجرّ المعزاة . سألتها عنه, وهي: «لقد رحل!!». حين عدت لأستأنف العزف ... كان اللّحن بليداً، فاتراً فتوقّفت.

حملت بزقي وسرت في طريق السيول ... طريقٌ لم يسلكه والدي من قبل . لكنني وصلت إلى القمّة بقليل من المشقّة ... قرفصت... بدأت أعزف.. كان للعزف زهوة الانتصار مساءً، عدت .. دون بزقي.... دون والدي.....

المخدوعون
نور الدين جامي (المغرب)

لم أكن أتخيل أبداً أن تنقلب حياتي رأساً على عقب، كنت من أشد المعارضين للهجرة السرية، وأعتبرها خيانة للوطن ، كنت أتشاجر مع أصدقائي، حينما كنت ما أزال تلميذاً في الثانوية وتحديداً حينما كنت أرى الدنيا بعين وردية، وحين حصلت على الإجازة بدأ هذا الصرح العظيم يتهدم شيئاً فشيئاً، وعندما كنت عضواً في جمعية المعطلين هدم الصرح عن آخره وبدأت أتصيد الفرص في محاولة لخوض حرب مع البحر حتى وإن كانت غير متكافئة ....

وجاء اليوم الموعود، امتطيت الحافلة رفقة صديقين، انطلقنا من مدينتي الصغيرة قبل الفجر بقليل ووصلنا إلى مدينة الحسيمة وجهتنا بعد العشاء أمام المحطة كانت هناك سيارة رباعية الدفع سوداء في انتظارنا، بعد عشر دقائق من الطريق المعبد ولجنا طريقاً آخر غير معبدة قرابة الساعة.

دخلنا بعدها إلى منزل صغير يتكون من غرفة وحيدة كبيرة جداً إلى جانب مرحاض صغير جداً تكدّسنا في تلك الغرفة كنا قرابة ستين شاباً ما أثار انتباهي هو شاب أعمى ، أراد أن ينهض، لكنه لم ينتبه إلى شخص أمامه فاصطدم به فنهره هذا الأخير قائلا:ً

- ألا ترى أيها الأعمى؟! انظروا أيها السادة ضرير يريد أن يهاجر سراً، إنها إحدى علامات الساعة الكبرى.

- لقد قيل لي إنه هناك، إذا كنت أعمى فسترى، وإذا كنت لاتستطيع المشي فسستتمكن من الركض.

مضت عشرة أيام ونحن ننتظر، وفي الليلة العاشرة بعد أن تناولت العشاء، هذا إن صح أن نسمّي العدس المغلي في الماء مع الخبز اليابس بالعشاء ... رن الهاتف حاملا معه صوت أمي الواهن، تمنيت لو كانت أمامي لأرتمي في حضنها، لمت نفسي لأنني كذبت عليها ولم أخبرها الحقيقة، لو كنت أخبرتها فعلاً بوجهتي الحقيقية، فهل كانت ستوافق؟ لن تمنعني بالقوة لكنها ستنظر إلي بعينيها ثم ستغرق في بكاء صامت حتى أتراجع..

حين أقسمت لها بالله بأني على أحسن مايرام أغلقت الهاتف بعد أن أمطرتني بوابل من أدعية الخير، ارتد بي الفكر مباشرة إلى سمية تساءلت عما تقوم به في تلك اللحظة.

- أسرعوا..

جاء الأمر كالصاعقة في أقل من نصف ساعة تكدّسنا في قارب مطاطي لايسع لعددنا الهائل.

هذا هو البحر إذن الذي يقلّب وجهه في اليوم أكثر من سبعين مرة. كانت معركة غير متكافئة كنا مجردين من كل سلاح غير سلاح الأمل.

لم أدر كم أمضينا من ساعات على البحر، كان الوقت يمر بطيئاً، حين وصلنا إلى اليابسة بدأنا نتقافز كالقردة من شدة الفرح كل واحد اتخد لنفسه في البر سبيلاً، أخذت أنا وصديقاي نركض بأقصى سرعة إلى وجهة مجهولة، ارتمينا في حضن كهف صغير في أحد الجبال، نمنا من شدة التعب، حين استيقظنا كانت الشمس تتوسط كبد السماء، لذلك كان من المستحيل الخروج في مثل هذا الوقت.

حين أرخى الليل سدوله، خرجنا نتسلل ، صادفنا في طريقنا بعض الأشجار الخالية من الثمار، فاكتفينا بأوراقها المرّة، فجأة ترامى إلى سمعنا صوت السيارات، فعلمنا أننا قريبون من الطريق السيار، مشينا بمحاذاته حتى لايرانا أحد، حينا أصبحنا عاجزين عن الحركة، أسندنا ظهورنا إلى إحدى الأشجار، وجاء الفجر حاملاً معه ضوء الصباح. واصلنا مسيرنا، اقتربنا أكثر من الطريق، كان أكبر ناسنا يتقدمنا، فجأة تسمّر في مكانه كأنه رأى خطباً ما، التفت إلينا بعينين ذاهلتين، تم دون سابق إنذار، أخذ يضحك بأعلى صوته حين تنحى جانباً، رأينا قطعة صغيرة من الأسمنت مطلية بطلاء أبيض كتب عليها:

- الحسيمة على بعد 5 كيلومترات.

 

 

مرسل فالح العجمي