الصورة الضوئية حرفة مغلقة أم إبداع مفتوح؟

الصورة الضوئية حرفة مغلقة أم إبداع مفتوح؟

منذ البدايات الأولى لاختراع الكاميرا (1839م) وحتى الآن، تسعى الصورة الضوئية لإثبات وجودها الفاعل والحيوي، في حقول الإبداع التقليدية، كالفنون التشكيلية والشعر والموسيقى والأدب.

كان الموقف العدائي المتشنج الذي جوبهت به الكاميرا منذ بداياتها، من قبل مزاولي ضروب الإبداع التقليدية، ونعتهم لها بالبرودة والآليّة والمحدودية، قد ترتب عليه قيامهم بطردها من معهد (أبوللو) الذي كان بمنزلة جمهورية الإبداع آنذاك، بل لقد ذهب الشاعر الفرنسي المعروف (بودلير) لاعتبارها ملجأ للفنانين الفاشلين عندما قال: «إن صناعة التصوير الضوئي هي ملجأ كل الفنانين الفاشلين الكسالى الذين لا يملكون أي موهبة، والذين يتكاسلون عن إتمام عملهم».

وأضاف مؤكداً، إن على التصوير الضوئي أن يقوم بوظيفته الحقيقية ألا وهي خدمة العلوم والفنون. أي أن يخدم الطباعة والنسخ اللذين لا يتطلبان أي إبداع، بل عليه مرافقة النصوص الأدبية. ويتساءل (براكمان): هل التصوير الضوئي فن؟ أنا لا أعتقد. ليكون هناك فن على العمل أن يخرج من يد الفنان المنتج للرسم. ويذهب (بارتيه) إلى تأكيد أن الصورة تختلف عن الرسم، لأنها عمل تسجيلي خال من أي إشارة. فهي عبارة عن خادم مخلص للطبيعة. إنها تسجل المشهد بشكل ميكانيكي، والتسجيل الميكانيكي هو حرفي، ويعتمد فقط على الكادراج، بينما الرسم هو عبارة عن إشارة ورمز غير طبيعي، يُلمح إلى وجود الأشياء. واعتبر (شاميغلوري) آلة التصوير الضوئي من دون روح، وأن عمل المصور الضوئي، منذ اللحظات الأولى لولادته، مدعياً أنه يعطي صورة طبق الأصل، وأن ثمة محاولات لمزج الصناعة بالفن، وهو أمر مرفوض بالنسبة له وللفنانين التشكيليين، إذ على الصناعة كما يرى، أن تبقى في مكانها، ويجب ألا تُقبل أبداً في معهد (أبوللو) المخصص فقط لخدمة الفن الإغريقي والروماني.

دفاعاً عن الصورة

بالمقابل، انبرى عدد من الرسامين والشعراء والموسيقيين والأدباء، للدفاع عن الصورة الضوئيّة، ومنهم الرسام المعروف (ديلاكروا) الذي أكد أن التصوير الضوئي هو أكثر من نسخ، إنه مرآة الشيء. إن التفاصيل التي لا تجدها في الرسم العادي، والتي كانت مهملة، فهي تظهر بوضوح بفضل آلة التصوير الضوئي، وبفضل معاني هذه التفاصيل، يصل الفنان إلى المعرفة الكاملة لبناء الشيء. إن الظل والنور يحتفظان بكامل حقيقتيهما في الصورة الضوئية.

أي بدرجة قساوتهما أو عذوبتهما، كما علينا ألا ننسى أن التصوير الضوئي، يسعفنا في عملية الغوص في أسرار الطبيعة وترجمتها. بل ذهب البعض الآخر، للتأكيد على أن الصورة الضوئية، برهنت منذ زمن بعيد، أنها قادرة على تلخيص وتحوير وتبسيط الطبيعة، مثلها مثل الرسم واللوحة الزيتية أو المائية، والمنحوتة والمحفورة المطبوعة، بدليل أن صور (مان ري) ومدرسة (الدادا) برهنت منذ العام 1922م أن الصورة الضوئية ليست هي دائماً تكراراً حرفياً للطبيعة. إن صور (موهولي ناجي) المنفذة عام 1926م ذات أسلوب سوريالي، وتحوير خيالي للواقع.

هذه التجاذبات بين رافض ومؤيد، للصورة الضوئية، دفعت المشتغلين في حقولها، إلى السعي الجاد والمتواصل، للبحث والتجديد، في تقاناتها، والعمل على تطويرها وإخراجها من مفهوم الفن الآلي البارد، أو الحرفة، أو الفن التطبيقي، بل والتطلع بكل ثقة، للوصول إلى صالات عرض الفن التشكيلي، ومنافسة الفنون التقليديّة الأخرى، على مهامها ووظائفها، ومن ثم إثبات قدرتها على الإبداع والابتكار، مثلها مثل أي فن آخر.

والحقيقة المؤكدة اليوم، أن مسيرة الصورة الضوئية على هذا الصعيد، لم تتوقف منذ ولادتها وحتى اليوم، إذ إنه من النادر أن يمر يوم دون أن تطالعنا بإضافة جديدة. الإبداع الحقيقي ليس وقفاً على الوسائل التقليدية، وإنما يمكن اجتراحه بكل الوسائل الجديدة المتاحة، إذا ماقادتها موهبة حقيقية، بغض النظر فيما إذا كانت وسيلتها قلما أو ريشة أو إزميلا ومطرقة أم آلة صماء!! لا يُنكر المصور الضوئي، أهمية ودور الكاميرا وعدساتها ومخابر طباعة الصورة الضوئيّة، ولاحقــاً الحاســوب والدفع الهائل الذي قدمه لها، لكنه في الوقت نفسه، يؤكد أن للعين التي تكمن خلف العدسة، واليد التي تديرها وتدير المراحل اللاحقة لإنجازها، هي الأساس!!

إلى آفاق الإبداع

ربما كانت الصورة الضوئية، في بداياتها الأولى، تبدو كما وصفها به مزاولو الإبداع بأشكاله وأدواته التقليدية الكلاسيكية، لكن اجتهاد المشتغلين عليها، وتطور وسائل تحقيقها، وقبل هذا وذاك، المواهب الحقيقية التي انضمت إليها، شكلت رافعة حقيقية انتشلتها من (الفن الآلي البارد) إلى (آفاق الإبداع الرحب والدافئ). فبعد مرحلة اقتصار الصورة الضوئية على الجانب التسجيلي لعناصر الواقع (إنسان، مناظر طبيعيّة، آثار، حدث) أو تسجيل المشهد المكون داخل المحترف (طبيعية صامتة، إنسان وعناصر أخرى) جاء ما يعرف بـ (الفوتو مونتاج) أي إدخال صورة على أخرى، بعد دراسة مستفيضة لما ستتمخض عنه هذه العملية التقانيّة الفنيّة، أو الجمع بين عناصر طبعية سجلتها العدسة، وعناصر مخبرية كيميائية أو فيزيائية، في الصورة الواحدة، ما يجعلها، كنتيجة، تتماهى بين خاصية (الصورة الضوئية) وخاصية (العمل التشكيلي).

هذا كله، قاد الصورة الضوئية إلى رحاب صالات عرض الفن التشكيلي، وإلى أكاديمياته ومعاهده، حيث أصبحت هذه الصورة، تقف جنباً إلى جنب، مع الرسمة، واللوحة، والمنحوتة، والمحفورة، والملصق. كما أن هذه الفنون مجتمعة، إضافة إلى فنون الكتاب والإعلام والإعلان، استفادت وبشكل كبير، منها ومن تداعياتها الكثيرة ،كالسينما والتلفاز، والإنترنت، والحاسوب. فهناك اليوم عدد كبير من الفنانين التشكيليين، يتكئون في إنجاز أعمالهم، على الصورة الضوئية والفانوس السحري أو الراشق، وعلى الحاسوب.. إلخ. لم يقف الأمر عند هذا الحد، فبفضل رواد الصورة الضوئيّة الفنيّة المعبّرة، المسكونين بالموهبة والخبرة، أصبح لها اليوم مدارس واتجاهات وأساليب، تماماً كما هو سائد في الفنون التشكيلية. بمعنى أننا نجد اليوم، صورة ضوئية كلاسيكية وواقعية وانطباعية وتكعيبية وتجريدية وسوريالية ورمزية. ليس هذا فحسب، بل بتنا نجد صورة ضوئية تتماهى بالرسمة وأخرى باللوحة وبالمحفورة المطبوعة وبالمنحوتة والملصق.

شاهد العصر

في هذا السياق، يؤكد نادي فن التصوير الضوئي السوري الذي يضم عدداً من الفنانين الضوئيين الموهوبين المنتجين الذين رفعوا من سويّة الصورة الضوئية الفنية التعبيرية، وجعلوها تقف إلى جانب الأثر الإبداعي التشكيلي. إن هذا الفن دخل ميادين الحياة المعاصرة بمختلف أوجهها، وأصبح بينه وبينها ترابط عضوي، من العسير الاستغناء عنه، أو الاستعاضة عنه ببديل. فلقد أصبح التصوير الضوئي أحد أهم وسائل الإيضاح التعليميّة في المدارس والجامعات، ودخل كعنصر أساسي في أبحاث علم الفضاء، ودراسة أعماق المحيطات والجيوغرافيا، إلى غير ذلك من مجالات العلم التخصصية. وعلى الرغم من هذا وذاك، فقد استطاع هذا الفن أن يكون شاهد عصر أمين، من خلال توثيقه لحضارات مختلفة المكان والزمان، تحفظ الطرز المعمارية والزخرفية لمدن دمرتها الحروب والزلازل، وأعيد بناؤها على أساس الصورة، كما سجل إبداعات العلماء والفنانين وصورهم بمناسبات عديدة. يضاف إلى ذلك أن للتصوير الضوئي خاصية أكثر تمايزاً وهي دخوله مجال (اللوحة الضوئية) حيث انتشرت معارضها انتشاراً واسعاً في دول العالم، وأصبح لها روادها المهتمون بها، ولهذا أصبح التصوير الضوئي فناً قائماً بذاته، نستطيع أن نطلق عليه تعبير (الرسم بالكاميرا) وهذا الأمر حتّم عليه، تطوير أدوات تنفيذه، خاصة الكاميرات وملحقاتها المختلفة، والدليل على ذلك، تنافس شركات صناعة الكاميرات ومواد التصوير الأخرى، بحيث تتمكن من تلبية حاجة وتفكير الفنان الضوئي.

من جانب آخر، فإن أهمية الصورة الضوئية الفنية المتقنة والمعبّرة، هي الآن في تصاعد مستمر في حياتنا المعاصرة، كونها أصبحت مادة أساسية مطلوبة بإلحاح، لأكثر من مجال كالصحافة والتشكيل والسينما والتلفاز والحاسوب، إضافة إلى أن المتميز والمتكامل تقنية ودلالة منها، يشكّل بحد ذاته، منجزاً إبداعياً لا يقل أهمية عن أي عمل إبداعي آخر.

على هذا الأساس، يرى البعض أن الشاعر أو الفنان التشكيلي، أو الملحن أو المصور الضوئي، في نتاجاتهم الفنية، يعبرون عن حالة انفعال عاشوها وعكسوها في هذه النتاجات.

صحيح أن مجال التعبير قد يكون أوسع وأسهل أمام الآخرين أكثر منه أمام المصور الضوئي الذي يضطر في أحايين كثيرة، لإنفاق الساعات الطوال لاقتناص لقطة، إلا أن تطور الوسائل التي يشتغل عليها، وفرت له إمكانات كبيرة للتغلب على هذه المعوقات، وبالتالي للتعبير بحرية عما يريد. بناء على ما تقدم، على كل فنان ضوئي يطمح للخروج بعمل فني متميز من الناحية الجمالية والتعبيرية، بذل جهد خاص، ومتابعة دءوبة، وتجريب مفتوح. فالصورة الضوئية الحقيقية، مثلها مثل أي عمل إبداعي آخر، سلاح وحقيقة تجسد الواقع، وتجنح في الوقت نفسه باتجاه الحلم، وعندما تتوحد الكاميرا مع الإبداع، وحس المصور الفطري مع موهبته وخبرته، تخرج الصورة الضوئيّة الفنيّة التعبيريّة المهمة.

 

 

 

محمود شاهين 




 





عمق التعبير





الاتجاه الوحشي





فن الوجه (البورتريه)





واقعية العدسة





سريالية العدسة





الاتجاه الكلاسيكي