بحور غزة.. لغزة الآن بحران: الأبيض المتوسط، وبحر الأحزان
بحور غزة.. لغزة الآن بحران: الأبيض المتوسط، وبحر الأحزان
ملف: غزة.. المأساة متواصلة غزة هي الجرح العربي النازف، علينا أن نعي جيداً شحنة الألم العظيم، التي أصابتنا جميعاً ونحن نشاهدها تدمر ونحن عاجزون. على هذا الألم أن ينبهنا دائماً إلى إننا نقف على حافة الخطر، وإذا كانت غزة قد فدتنا بدمائها هذه المرة، فمَن يدفع عنا الغائلة في المرة القادمة؟! مذابح إسرائيل ضدنا لن تتوقف فهي استعمار استيطاني، ولن يجدي أي نوع من الحوار معها، لأن هدفها الأول والوحيد هو استئصال السكان الأصليين، وهم على دراية تامة بكل التجارب الاستعمارية السابقة. ففي أمريكا وأستراليا ونيوزلندا، نجح الرجل الأبيض في إقامة دولته، لأنه استطاع أن يبيد السكان الأصليين من هنود حمر أو أبو أورجين وخلافه، أقصاهم عن الوجود الحقيقي، لم يبق منهم إلا مجموعات هامشية، نوع من الذكرى والشغف الأنثروبولوجي، بينما في المقابل عجزت فرنسا عن استئصال السكان الأصليين في الجزائر، وكانت النتيجة أن فرنسا اضطرت مرغمة بعد مقاومة باسلة إلى أن تتخلى عن حلم إمبراطورية فرنسا ماوراء البحر وتسلم الأرض لأصحابها، وكذلك عجز النظام العنصري في جنوب إفريقيا عن استئصال سكانها من الإفريقيين، وبالرغم من قنابل النظام النووية، فقد اضطر لتسليم القيادة للأغلبية السوداء حتى يتساوى الجميع، إسرائيل تعرف ذلك جيداً، وتدرك أن وجودها في فلسطين مهدد مادام هناك سكان أصليون، لذا فهي لا تخوض معارك، ولكنها تقوم بمذابح، لا تستولي على مواقع، ولكن تريد أرضاً محروقة لا تحوي إلا مقابر. إن الشعب الفلسطيني الذي نحاصره ونجوّعه، هو قوتنا الحقيقية، أو بالأحرى هو فرصتنا الأخيرة، علينا أن نحافظ على وجوده وبقائه، لأن هذا يعني لنا البقاء والوجود. واللعنة على كل الاتفاقيات الدولية، التي لاتعترف بها إسرائيل، بينما نستخزي نحن وراءها، الشعب الفلسطيني يجب أن يعيش، وأن يتعلم، وأن نساعده على أن يتمسك بأرضه، يجب أن يكون هناك صندوق عربي مشترك تُضخ فيه الأموال من أجل الحفاظ على الكيان الفلسطيني قبل أن يتم استئصاله كلية، إن لهم نصيباً في دخلنا وأموالنا وطعامنا، لأنهم يدفعون ثمناً باهظاً نيابة عنا. يجب أن تنخلى عن أردية الخيانة التي نرتديها جميعاً، وندرك أن الدور قادم علينا، لنحافظ على وجودهم لعلنا نحافظ على وجودنا. --------------------------------- ولا دموعا سوائل، مما يشبه ماء البحور، لا ماء للشرب، ولا للوضوء، فلا ينتظرن الإنسان فتوى تبيح التيمم للصلاة، ولا على الخائف صلاة، إن لم يمسك بالسلاح قوم للحماية من غزاة البرّ، فكيف ستكون الحماية من غزاة الجو والبحر؟ دموع من دون بكاء أمر محتمل، لكن لا بكاء من دون دموع. هنا الآن سنن في الكون جديدة، هنا الآن تصير ما لا تصيره الطبيعة، بفضل صناعة البشر المتقدمين جدا، لدرجة إغلاق العيون، فلا يلومنّ أحد «لؤي» عن بكائه بغير دموع، فلم تعد له دموع، ولم تعد له عينان، فلم يطفئ الغزاة العينين، غير تاركين للدموع منفذاً فقط، بل تم استلاب العينين ومكانهما، وصارتا وجهاً جديداً، محيراً، محزناً، مثيراً للغضب، كارهاً للسلاح، وللعنصر، أبيضها وأصفرها، وأزرقها، ما كان من الألوان حارا أو باردا. وباردة بالرغم من هذا القتل الكبير - عبارات الوصف والتعزية والرثاء، والفخر، وما يفيد المقتولين مدحهم؟ من بلاغة اللغات، ورمزها، قيل عن أصعب بكاء من غير دموع! لكن الرمز صار حقيقة، فلؤي الطفل الغزي يبكي طويلا بغير دموع. هل يشتاق الإنسان إلى دموعه؟ فقد سلب الغزاة العين والبصر والدموع؛ فمن قال إن الدمع غير عضو في الوجه؟! بل هو كذلك عضو خفي، لا يزول حتى يعود؛ فلا دمعة لك يا لؤي، ولا عينان، ولكن لك صوت يا طفل غزة الصغير. لك صوت، وقد سمع الناس الصوت، لكن من قال إن الصوت يكفي! ولغزة صوت عميق، ينادي ويستغيث؛ فمن عادة البشر أن يستغيثوا، ليغاثوا، ولا عيب ولا لوم على المنادي يستغيث متأوها على فقد البيت والأولاد وأعضاء الجسد، وكل الروح. ولغزة جميلة، وعائشة، وسعاد، وفاطمة، بتر جندي من بعيد أطرافهن، لم تترك حربه عليه أي غبار، فله فنجان من القهوة أو الببسي كولا، في الجو من علو شاهق فوق الغيوم، وفي البحر، من حصن الحديد الطافي باطمئنان على صفحة البحر الأبيض، ومن البر من داخل طيات من الحديد والفولاذ السميك. فلا لجميلة وقريناتها، وأقرانهن خطوات، غير خطا الروح تطير بهن من دون سيقان وأقدام، إلى الرأي العام الدولي، لعله يتأكد للمرة المليون من أن الغزاة غزاة بالفعل، وأن الغزاة قساة، وقساة جدا هم، حدّ الحجر والفولاذ والحديد، وأنه لم يعد بحاجة لدليل آخر، من دمنا، وأطرافنا، وعيوننا، ووجوهنا، كي يطرد الغزاة من الجماعة الدولية. لغزة الغزو عليها، من غزاة آثروا المجزرة النظيفة، قتل عن بعد، هو قتل نظيف، فلا فرسان حرب، ولكن ضغط على أزرار تصيب الهدف بدقة، ضغط لجبناء خانوا بزاتهم العسكرية، فابتهجوا لنهر الدماء، وهللوا للقتل النظيف، حتى يأخذ الفلسطينيون عبرة، فلا يطالبوا بغير البقاء على قيد الحياة، تمهيدا لقائد الغزاة المنتظر الذي يبشّر بالخبز، رافضا أن يدرك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان! لغزة الآن بحران: الأبيض المتوسط، وبحر الأحزان.. لم يمهل الغازي الناس أن يحزنوا، ويبكوا كما يبكي الحي الميت، ولا بكاء طبيعياً لخائف يترقب قذيفة يجهل مصدرها: أرضا أم سماء؟ وإن كانت أرضا، فأي أرض هي؟ بر أو ماء؟ حتى يحاذر ويحسن الاختباء من القذائف! لا أم ولا أب ولا أبناء، لا أخ ولا أخت، لا عم ولا خال، لا جد ولا جدة، لا أقرباء، فقط كانوا هنا يوما، جاءوا متفرقين، الأب ثم من الحب كانت الأم، وباستمرار الحب كان الأبناء. جاءوا متفرقين هنا، لكنهم انصرفوا معا في رحيلهم الأخير من دون موعد، من دون إعداد، رحلوا وكل منهم في سحنته العادية: النائم، والمستحم، والذي يتناول الطعام، أو يشاهد التلفاز، أو يراقب البشر من النافذة أو يطلب من الأم شيئا لا يطلبه إلا الأطفال، والأم ساهمة خائفة على القطا، وزغاليل الحمام ذوي الأيادي الصغيرة والأطراف الصغيرة والعيون الصغيرة والأحلام الصغيرة، وهذا الطفل الباسم، والذي ظل كذلك في رحيله يقتلنا بابتسامته في الوداع الأخير على الأكف التي سيلحق بعض أصحابها به بعد قليل. انصرفوا معاً، جميعاً مشفقين على ترك أحد وراءهم يتحمل بكاءهم وحيداً، فكيف يكون بإمكان واحد بكاء البشر! ولغزة فتى يصفه يمضي للاطمئنان على حبيبته، مبررا بأن شعره طال وآن الأوان لتقصيره، ولا تقصيرا لشوق يطول، ولا مبررا لها مثله لتخرج من البيت للاطمئنان أن روحه مازالت في هيكلها، في الجسد لم تغادر، فوقفت -دون أن يدري الفتى أو الراوي- على ما تبقى من الشرفة الهاربة الخائفة، لعله يمرّ، لا بدّ أن يمرّ، فقد وعدني بأنه سيفعل ذلك ما دام حيا، قال ذلك باسما، من بعيد بلغة الإشارة ومضى، على أمل أن تطول أيامه ليرى وجه حبيبته، أو أن تراه، ولو من بعيد يتصنع الاطمئنان على بيوت حيّ لا يقيم فيه. ولغزة لاجئون جدد، لم يمض على لجوئهم غير أيام، بعضهم عاد للاطمئنان على بيوتهم، فما وجدوها، وآخرون أعادتهم جثث من قضوا إلى رحيلهم فجأة، وهم بعد لم يكملوا عبارات التفجع والبكاء على من سبقهم قبل قليل؛ فخافوا من مواصلة المسير، لعل أمل بقاء البيت سالما يبقى أطول وقت ممكن. ترى ما الذي كان يدور ببالهم وهم عائدون إلى البيوت؟ أي تذكارات؟ وأي أغراض -إن كان البيت مازال على قيد الحياة- سوف يحملونها لمكان لجوئهم الجديد والقريب؟! لغزة بحر، وبحرها يفيض، وتمد أمواجه وتجزر، لكن بحر الأحزان لم تمدّ بعد أمواجه حتى تجزر، لكنها حين تمد، تغرقنا، فأي دموع ستكفي، وأي آهات، فآه من آهات لم تعد تكفي ولا تشفي! وآه كبيرة جداً جداً عميقاً تفطر القلب وتدميه لا تدمعه فقط! بحر من الدموع؟ نهر! قد لا يكون، بحرا، ولكنه ماء دمع كبير مستمر لايجف، وكيف يجف؟ بكاء طويل عال أو خفيض؟ لكنه بكاء للبكاء، بكاء تمنى لو كان بكاء عادياً؛ إذ إن البكاء أمر طبيعي، فيبكي الناس حبيبا يرحل، لكن كيف يكون البكاء للأحباء جميعا؟ هو بكاء للبكاء، بكاء لرحيل الأحزان العادية، التي أسلمت الغزيين لأحزان، خرجت عن سياقها كما اعتاد الناس الأحزان أن تكون، فلم يجد الحزانى الجدد أنفسهم قادرين على ممارسة طقوس الحزن والبكاء، باحثين بسرعة جدا عن طقس جديد يلائم القتل الجماعي، وإنهاء حياة الأب والأم والأبناء، غير مبق هذا القتل الجماعي الجبان، أي فرصة لتذكارات وأدلة وشواهد أن هؤلاء القوم كانوا هنا؟ فهؤلاء القوم كانوا هنا. هنا بالضبط، في المكان والزمان، لا في الخيال ولا أسطورة هنا، كي نعود إلى الحاضر باطمئنان الذي يصحو من كابوس أسود! لا يحفل الفاقد ولا الفقيد بما يتجادل فيه الأشقاء، لا وقت للوم والعتب، فقط استغاثة لعل بشرا يقدرون أن ينتشلوا الغرقى من بحر هائج، لاسيد غير الحزن الآن، وغدا حزن الفاقد بعد انتهاء العزاء والرثاء، وغدا سيفرغ الغزيون لبكاء أحبتهم الذين مضوا، والذين لم يمضوا من المصابين، في الأعضاء كلها، والجرحى الذين يطول أنينهم، وتزداد ألما في ساعات الليل، فحين يروح الناس إلى النوم، يطير النوم من جفونهم، فيئنون لعل الألم يشفق عليهم ويرحل قليلا، لعلهم يظفرون ببعض نوم يقوون به أطراف النهار، إذ النهار للزيارات.. فكيف يكون ولا ليلاً كالليل، ولا نهار! وهنا على باب المقابر المليئة، والتي تنوء بحملها من الموتى القادمين بالجملة يوميا، حيث لم تتهيأ لهم بهذا القدر، لقد ضاقت القبور، وتكدس الأموات معا في حفر صغيرة، في ضيق، كما كانت الأرض ضيقة بهم، وكما يكون البحر الواسع يضيق بأهله، وكما يكون كل هذا الفضاء ضيقا، إلا من هطول القذائف.. إلى أين سنمضي بالموتى؟ وهذا الشيخ الغزي يشرب حسرات بلد، يشهد ويشاهد ويلملم أشلاء القتلى ..كيف سأعيد تركيب الجسد داخل الكفن؟ كيف سيحمل وكيف سيدفن؟ هاتوا الأغطية أكفانا.انتهت الأغطية البيضاء، هاتوا غيرها، لم يبق، هات من الجيران وجيرانهم، أي موت هذا لا يجد القتيل قماشا كي يتدثر به وهو راحل في يوم شتوي نحو أرض غزة الرطبة! نصفان لشهيدين بترت أقدامهما تم وضعهما في كفن واحد، فيما ضاقت القبور بغزة وعزّت الأكفان!! تلك حقيقة، هنا، في أرض البرتقال المحروق. من الذي يبكي؟ ومن يدفن الشهداء؟ ليس هنا وقت للاقتتال بين الأخوة، فهؤلاء من هنا وهناك، من اللونين، يبكون معا، ويوارون قتلاهم معا، والذي في القلب في القلب؛ فما هو أقسى يا أخوتي، أن الغزي هنا يبكي على أخيه الذي اقتتل معه من قبل، فتمنى لو لم يقتتل مع أخيه، الذي قتل على أيدي الغزاة، ليبكي كما يبكي الناس قتلاهم..! فاليوم، هذا اليوم الطويل، لحساب أرقام الراحلين، ومن رحلت أطرافهم والأعضاء. وغدا إن توقف القصف والغزو، حزن طويل وبكاء بدموع ومن غيرها. أوقف الغازي قصفه، بانتظار حفلة قادمة يرجو أن يتسع له المجال لتحقيق مزيد من الإبادة.يبيد فيها غزة ويستريح! ما هم لو توقف القتل العام، واتجه القتلة لقتل جديد، يقوم على انتقاء من سيتم قتله من اليمام؟! ولكن ثمة بعض العزاء، بعض الأمل.. فلغزة أيضا بحور الغضب!.
|