روح العروبة عند أمين الريحاني

روح العروبة عند أمين الريحاني

أمين الريحاني هو واحد من ثمار عصر النهضة العربية، تجول في العالم الغربي وتفتح على فكر الحرية والتنوير وعاد حاملا رسالته الإصلاحية للبلاد العربية التي كانت لاتزال ترزح تحت وطأة الاستعمار الأوربي والاستبداد العثماني. لقد كان واحداً من حملة مشاعل الاستنارة في وجه ظلمات القرون الوسطى التي ظلت سائدة فوق عالمنا العربي وحاول أن يكون جسراً ووسيطا بين الثقافتين العربية والعالمية.

«بلادي قد بدأت تتكلّم، وأنا صوتها المختار»

كان أبو العلاء المعري الباب الكبير الذي منه دخل أمين الريحاني عائداً إلى دنياه العربية. فبعد أن اطلع على رباعيات أبي العلاء ولزومياته شدّه الحنين إلى أصالة شعرية عربية تجمع العقل إلى الإيمان فقرر أن يترجم هذا الشعر إلى الإنجليزية بقالب موزون مقفى. وأدرك الريحاني أن هذا الشعر الذي سيقوم بترجمته ونشره سيطالعه الغرب ليكتشف فيه تراثاً عربياً قادماً من الشرق يحمل في طياته معالم فلسفة شعرية، أو شاعرية متفلسفة، تشكل نموذجاً حضارياً هو بمنزلة هدية فكرية ثقافية يقدّمها الريحاني من روح الشرق إلى أبعاد الغرب. صدرت ترجمة الريحاني بعنوان رباعيات أبي العلاء «The Quatrains Of Abo Ala عام 1903، كان لتلك الترجمة صداها الواسع في الأوساط الثقافية والإعلامية الأمريكية والبريطانية بحيث نشرت الصحافة في الولايات المتحدة وبريطانيا، على مدى سنتين تقريباً، سلسلة من المقالات حول الريحاني وترجمته لشعر المعري، مقارنة هذا العمل مع عمل مماثل يضاهيه جودة وأهمية هو ترجمة فيتزجرالد لشعر عمر الخيام من الفارسية إلى الإنجليزية. وقد أشار عدد من تلك المقالات إلى اكتشاف شاعر عربي كبير لم يعرفه الغرب من قبل على الرغم من أنه كان سباقا لعمر الخيام.

كان نجاح الريحاني بتقديمه إلى الغرب نموذجا ممتازا من الروح الحضارية للعروبة قد شكّل حافزاً له للمضي في حلمه العربي والسعي إلى بلورة الروح القومية للعروبة على أن يقدّمها لا إلى الغرب وحده هذه المرة بل إلى العرب أنفسهم أيضاً. في العام 1911 صدرت في نيويورك رواية الريحاني الإنجليزية بعنوان «كتاب خالد» The Book Of Khalid. وقد جاء في فصل «حلم إمبراطورية» من الرواية: «لم يكن بوسع خالد أن يفكّر.كان باستطاعته أن يحلم. روح الشرق - عقل الغرب - باني إمبراطورية عظمى.. صعود شعب عظيم ابتلته أيام شرّيرة مشئومة. نهضة جزيرة العرب، استعادة أراضيها واستصلاحها، وإحياء أمجادها - ولم لا؟...». من أجل ذلك رأى الريحاني أنه لابد من قائد لتحقيق هذا الحلم القومي: «نحتاج إلى صلاح الدين من جديد اليوم. صلاح الدين الفكرة،وسوف يشنّ حملة.. ضد أولئك المغتصبين التتار الذين يتزلفّون الآن للاثنين...»، هكذا تتضح عند الريحاني معالم الروح القومية للعروبة منذ العام 1911، أي عشر سنوات قبل قيامه برحلته العربية الكبرى والسعي إلى تحقيق مشروعه العربي السياسي في محاولته لبعث الروح العربية، وتوحيد كلمة العرب. وقد رأى الريحاني في نفسه القدرة على القيام بدور قيادي في هذا الاتجاه منذ العام 1911 حيث يقول في كتاب خالد: «بلادي قد بدأت تتكلم، وأنا صوتها المختار. أشعر بأنني لو أحجمت عن الاستجابة، ولو لم أهبّ لنجدتها فسوف تبقى بكماء إلى الأبد».

30 سؤالا حول العرب

وتكلّم الريحاني، وهبّ لنجدة بلاده، خطط ونفّذ ميدانياً قبل أن يكتب عن العرب. ففي رسالة إلى هنري فلتشر، مساعد وزير الخارجية الأمريكية، عام 1921، يطرح الريحاني ثلاثين سؤالاً حول العالم العربي، تشمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والتربوية والعسكرية، ليقول إنه عازم على القيام برحلته العربية الكبرى للإجابة ميدانياً عن تلك الأسئلة ولتعريف العالم بالبلاد العربية وهمومها وتطلعاتها. وكانت القاهرة محطته الأولى في طريقه إلى شبه الجزيرة العربية.

في القاهرة أقيمت احتفالات متوالية للريحاني، في فبراير 1922، وعلى مدى شهر تقريباً، وكانت الصحافة المصرية تواكب الحدث، ترحيباً بالضيف الكبير، ناشرة معظم ما قيل في الريحاني إلى جانب كلماته وقصائده حول الشرق ومصر العرب. ففي احتفال في سفح الأهرام، تكريما للريحاني، قال أحمد شوقي مخاطباً الأهرام:

هذا الأمين بحائطيك مطوقاً
متقدم الحُجّاج والوفادِ
إن يعدُهُ منك الخلودُ فشعرهُ
باقٍ، وليس بيانه لنفاد

ثم يلتفت مخاطبا الريحاني قائلا:

رفعوا لك الريحانَ كاسمك طيباً
إن العمارَ تحية الأمجادِ
حقُ العشيرةِ في نبوغك أولٌ
فانظر لعلك بالعشيرة بادي

وتوالت احتفالات القاهرة التي رحبت بزيارة الريحاني إلى الربوع المصرية مشيدة بأدبه وشعره ونبوغه، مرحبة كذلك باهتمامه المتواصل بـ «عشيرته» العربية. «فالشرقيون عامة» كما قال توفيق الرافعي، و«السوريون والمصريون خاصة أولى بمعرفة الريحاني وفضله وأحق بإيفائه الشكر على عمله، فهو ناشر لواء أدب الشرق في الغرب ومظهر فضل... فلاسفة الشرق أمام فلاسفة الغرب..»، ويتوقف لطفي جمعه المحامي عند أدب المقالة الريحانية حيث يقول: «في صومعته بوادي الفريكة أخرج للعالم العربي كتاباً من أجمل الكتب ألا وهو الريحانيات... فأثبت بكتابه هذا أنه قد أتقن لغة القرآن إتقاناً يسمح له أن يجاري أكبر الكتّاب أسلوبا وسلاسة وسلامة منطق».

غير أن د. منصور فهمي، أستاذ الفلسفة في الجامعة المصرية، (جامعة القاهرة لاحقا) تجاوز «أسلوب العظمة الكتابية، وصفاء النفس، والروح الثائرة»، عند الريحاني إلى ظاهرة أخرى لديه، قد تكون الأهم والأبلغ، وهي احتفاظه «بشرقيته على الرغم من طويل الزمن الذي عاش فيه نائياً عن الشرق ولكن جعل من آلام الشرق وآمال الشرق إلى قلمه وقلبه رسولاً». كذلك رأى الشاعر أحمد رامي، إضافة للخصائص الشعرية والأدبية عند فيلسوف الفريكة، أن الشرق ظل حاضراً لديه وما غاب عن دنياه، فخاطبه قائلاً:

ووصفْتَ مجدَ الشرق في أيامه
ونشَرْتَ ما درجت يدُ المقدارِ
وكشفْتَ عن سرّ الحياة فأصبحَتْ
مجلوّةً للنفس والأبصارِ

يبدو مما تقدّم أن شعراء مصر وأدباءها أكبروا في الريحاني إبرازه لأثر المشرق العربي في كتاباته العربية والإنجليزية.

ومن بين هؤلاء، إلى جانب أحمد شوقي، وأحمد رامي: لطفي جمعة، سليم سركيس، داود بركات، الشيخ عبدالمحسن الكاظمي، مي زيادة، د.منصور فهمي، أحمد محرّم، محمد عبدالرازق، الشيخ علي الزنكلوني من علماء الأزهر الشريف، الشيخ أنطوان الجميل، وسواهم.

الريحاني وملوك العرب

وفي تجواله في شبه الجزيرة العربية كان الريحاني شديد الملاحظة، شديد التتّبع لتفاصيل الأشياء، كما كان متوقد الذهن منفتحاً على جميع الآراء والأفكار التي تأتيه من الحكام ومن عامة الناس.

طالما كرّر هدفه الواضح على ملوك العرب وحكامهم من أنه آتٍ إليهم لثلاثة أمور، الأول للتعرّف إليهم، والثاني للعمل من أجل وحدة الكلمة العربية ووحدة الصف العربي، والثالث لوضع مؤلفاته عن العرب بالعربية كي يعرف بعضهم بعضاً، وبالإنجليزية كي يعرّف العالم بالعرب. وقد تحققت أمنيتاه الأولى والثالثة أكثر مما تحققت أمنيته الثانية. فالريحاني شارك في صنع الأحداث العربية في زمانه، وتحديداً في رحلته العربية الكبرى،حيث سعى لوضع معاهدات سلام بين ملوك العرب، واتفاقيات تعاون فيما بينهم. غير أنه لم يكن ليوفّق دائما إلى تحقيق تلك المساعي لتغلّب النزاعات العربية على محاولات التفاهم المشترك.

وكان الريحاني موضع تقدير وإكبار من جميع العرب، من ملوكهم وحكّامهم ومثقفيهم والأناس البسطاء العاديين الذين رافقوه في حلّه وترحاله.

وقد شارك كبار أدباء العرب وشعرائهم في التعبير عن هذا التقدير عبر احتفالات توالت مرحّبة بالريحاني في معظم الأقطار العربية التي زارها عن كثب.

ترحيب في بغداد

نذكر هنا، على سبيل المثال، قصيدة معروف الرصافي الشهيرة التي ألقاها في بغداد في احتفال نظّمه المعهد العلمي ترحيباً بالريحاني، في سبتمبر 1922، ومطلع القصيدة:

إن العراقَ بعرضه وبطوله
وبرافديه وباسقات نخيِلِهِ
يهتزّ مبتهجاً بمقدم ضيفه
ويبشّ مبتسماً بوجه نزيلِهِ
بربيب لبنان بريحانيّه
بكبير معشره بفخر قبيلِهِ
بالعبقريّ بفيلسوف زمانه
بأديب أمّته بداهي جيلِهِ
بأصحّ أحرار الأنام تحرّراً
في فكره وبفعله وبقيلِهِ

أما محمد مهدي الجواهري فنجد أبياته، هو أيضاً، تبادر إلى المديح في قصيدة له عنوانها «لبنان في العراق»:

أأمينُ إنْ سُرَّ العراقُ فبعدما
أبكى ربوعَ كولمبسَ الهجرانُ
لو تستطيعُ دَنَتْ إليكَ مُدلةً
فتزوّدَتْ من رُدْنِكَ الأردانُ

ثم نجدها مثقلة بالشكوى العارمة، فالثقة كبيرة بالريحاني، ولابدّ من المصارحة، حيث يقابل بين رسالة الريحاني العربية والواقع العربي الأليم، يقابل بين روح العروبة التوحيدية عند الريحاني، وما يشكو منه العرب من تفسّخ وانقسام بعيدين عن روح التضامن ووحدة الصف العربي.

تلك الروح دعا الريحاني إلى اعتناقها، وتلك المبادئ سعى إلى تحقيقها خلال رحلته العربية الكبرى، وبعد تلك الرحلة، فعلاً وقولاً وكتابة:

وحَّدْ بدعوتكَ القبائلَ إنه
ألقى إليكَ زمامَهُ التّبيانُ
كيف التألفُ والقلوبُ مواقد
تغلي بها الأحقادُ والأضغانُ
أنِر العقولَ من الجهالة يستَبنْ
وضْحَ السبيل ويهتدي الحَيرانُ

فإلى جانب الحرية والتحرير التي توقف عندهما الرصافي في دور الريحاني العربي، رأى الجواهري دورين آخرين أساسيين وهما التوحيد والتنوير، رأى دور الريحاني في تعزيز روح العروبة توحيداً «للقبائل» للأحزاب، للحكام، للصف العربي، وتنويراً للعقول عبر محاربة الجهل ونشر العلم والمعرفة بين الأجيال العربية. هكذا رأى المثقفون العرب روح العروبة مجسّدة في شخص أمين الريحاني.

وتوالت احتفالات التكريم بِـ «النابغة الريحاني بعد الجعدي والذبياني»، وبـ«شكسبير الأمة العربية»، وبـ«روح هيجو وبشّار»، وب«فيلسوف الفريكة» أو «الفيلسوف الشرقي». وتتالت الخِطَب والقصائد من شعراء العراق وأدبائه، ومن مثقفي الكويت، والبحرين.. ومن هؤلاء إلى جانب الرصافي والجواهري: محمد عبدالحسين الكاظمي، جميل صدقي الزهاوي، رشيد الهاشمي كاظم الدجيلي، عبدالقادر الكيلاني، أمين عالي باش أعيان، الشيخ محمد آل خليفة، عبدالرحمن الدوري، الشيخ عبدالعزيز الرشيد.. وسواهم.

امتزاج الثقافات

ونتساءل بالمقابل: ما هي المبادئ التي توقف عندها الريحاني في خطبه وقصائده النثرية من مصر إلى العراق فشبه الجزيرة العربية؟ في خطبة أولى للريحاني شاكراً المحتفين به في القاهرة، في 4 فبراير 1922، يقول: «من مدنية الغرب تجيئنا العلوم الكونية الحديثة، وإلى مدنية الغرب نتقدم نحن الشرقيين بالحي السليم الدائم من علومنا الروحية، وإن في مثل هذا التبادل الرقي الحقيقي بل فيه تصل الأمم إلى أعلى درجات التمدين». تُرى هل هي لغة العولمة التي سبقت العولمة الحالية بنحو مئة عام؟ أم هي لغة الآداب العالمية المتبادلة التي يشير إليها الريحاني بقوله: «إن أدبنا يظلّ ناقصاِ إذا كان لا يمزج بشيء من الأدب الإسلامي، والآداب الإسلامية العربية لا تستمر حيّة نامية عزيزة راقية إلا إذا امتزجت بشيء من الآداب الإفرنجية، وفي هذا الامتزاج كنه الحياة الجديدة التي ستكفل للأمم الشرقية استقلالها التام، وترفع شأنها بين الأمم المتمدنة».

لكن فكرة التبادل بين الشرق والغرب تستوجب عند الريحاني تعزيزاً لمكانة الشرق وإغناء لقدراته الروحية والفكرية. فهاهو في قصيدته النثرية الشهيرة ينطق باسم الشرق مخاطباً أبناءه، راسماً معالم المسيرة التي يرتئيها من أجل نهضة العرب، ويقظتهم، واستعادة مكانتهم بين الأمم:

«أنا الشرق/ أنا حجر الزاوية لأول هيكل من هياكل الله/ ولأول عرش من عروش الإنسان/ لذلك تراني محني الظهر، ولكني قويم الرأي، ثابت الجنان/أنا جسر الشمس، من أعماق ظلمات الأكوان إلى الأفلاك الدائمة الأنوار/.../ أنا الشرق/وقد جئتك يا فتى الغرب رفيقا..».

ماذا تعني الحرية؟

إن المفردات والمصطلحات التي تتشكّل منها روح العروبة عند الريحاني، كما نستخلصها من هذا النص، هي: الحرية، وصون الذات من الأجنبي، ومحاربة الجهل بالعلم، والاتحاد. وقد خصص فصولاً في مؤلفاته حول «الوحدة العربية»، و«روح العروبة»، فهو الساعي، قولاً وفعلاً وكتابة، إلى الاتحاد لأن «الوحدة العربية أساس الحرمة القومية». وإثر عودة الريحاني من رحلته العربية الكبرى، أطلق على منزله في الفريكة، لبنان، اسم «بيت الأمة»، حيث كان يؤمّه العديد من المفكرين والزعماء العرب أمثال: شكري القوتلي، فارس الخوري، سعد الله الجابري، حسين العويني، تقي الدين الصلح، أبو علي سلام، الحاج أمين الحسيني، عبدالرحمن النقيب، كاظم الدجيلي، نعوم اللبكي، خليل مطران، مي زيادة، داود بركات، عبدالمحسن السعدون، ساطع الحصري وسواهم. ومازال متحف الريحاني يحتفظ بسجلات تضم آلاف البطاقات الشخصية من زائري الريحاني من مختلف أنحاء العالم العربي في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي.

تلك هي روح العروبة الفعلية عند الريحاني وتلك هي معالم مشروعه العربي الذي بدأه بفصل بعنوان «حلم إمبراطورية» باكراً في كتاب خالد ثم أتبعه برحلته العربية الكبرى التي أنتجت: «ملوك العرب، وتاريخ نجد الحديث، ثم قلب العراق، وفيصل الأول، ثم المغرب الأقصى، وقلب لبنان»، إلى جانب مؤلفاته الإنجليزية عن العرب التي نالت شهرة واسعة في أوربا وأمريكا.

 

 

أمين ألبرت الريحاني 





 





 





سيف من مقتنيات الريحاني





غرفة الريحاني وفيها يظهر المكتب الذي ألف عليه أغلب كتبه