متحف فيلسوف الفريكة أول متحف شخصي لأديب عربي

متحف فيلسوف الفريكة أول متحف شخصي لأديب عربي

«وأكون سعيداً إذا تمكنت أنا وإخواننا المفكرون المخلصون من رفع نقاب الجهل ليرى العرب شيئاً من نور العلم الذي هو أساس المدنية الجديدة. إني أتمثل دائماً أمة عربية رافعة رأسها تحت السماء التي أظلت أشرف الخلق».

(من رسالة الريحاني إلى صاحب صحيفة المؤيد في مصر).

من هو أمين الريحاني الذي سنجول وإياه في أرجاء متحفه الشخصي في البلدة التي شهدت مسقط رأسه؟

في المبدأ لا يحق لنا طرح مثل هذا السؤال عن هذا الأديب، المفكر، الفيلسوف، الشاعر، الروائي، الناقد، المنتقد، المتمرد، النابذ للجهل والتخلف، الداعية الإصلاحي، الناقم على جمود اجتماعي ظلل وطنه الصغير لبنان والأوسع أمته العربية، السياسي المكافح من أجل رفع نير عبودية الاستعمار، والإنسان الحالم بخير البشرية وبإمبراطورية عربية آمن بها ورسم معالمها بالأفكار التي طرح، والكاتب باللغتين العربية والإنجليزية فكانت كل واحدة كأنها لغته الأم، ولكن إعجابا منا بهذا النابغة فلا يضير خلوده أي محاولة لتسليط الضوء عليه بين حين وآخر.

ولد أمين الريحاني بتاريخ 24 نوفمبر من العام 1876 في قرية صغيرة تدعى الفريكة من أعمال منطقة المتن في وسط جبل لبنان. وكان الابن البكر لوالدين هما فارس وأنيسة ولإخوة وأخوات هم: سعدي، أسعد، يوسف، ادال والبرت. تلقى علومه الأولية في مدرسة القرية، ثم هاجر مع أهله إلى نيويورك سنة 1888 بعد الكساد الذي أصاب عمل والده في تجارة الحرير. هناك أخذ يتابع تلقي العلم، لكن والده احتاجه إلى جانبه في العمل التجاري، فأثار في نفسه صراعاً لم ينته إلا وقد نال لقب «فيلسوف الفريكة».

في نيويورك كان من المبرزين في العمل الفكري والسياسي وإلى جانبه جبران خليل جبران وقد ارتبطا بصداقة الموهبة والاهتمام عينه، فضلا عن الثقة والإعجاب اللذين أبداهما جبران تجاه الريحاني، إذ كتب إليه في العام 1910 يقول «أنا افتكر فيك يا أخي أمين في كل ساعة وأتكلم عنك كلما وجدت أذنا نظيفة خليقة بأن تعي لفظ اسمك»، إضافة إلى الدور الذي لعبه الريحاني في تقديم جبران إلى الحلقة الأدبية التي جمعته وعدداً من الشعراء والنقاد والكتّاب الأمريكيين.

ما بين المهجر والعودة إلى الوطن لبنان أبدع الريحاني كتابة وتأليفا في شتى الميادين، وباللغتين العربية والإنجليزية كما أشرنا آنفا، وسنأتي في سياق هذا التحقيق عن متحفه الشخصي إلى الإشارة والحديث عن هذه النتاجات التي اشتملت عصارة روح، وأهمها وهي كثيرة وأخلدها «كتاب خالد»، و«ملوك العرب».

من إسطبل خيول لمتحف

في عام 1953 قرر الشقيق الأصغر لأمين الريحاني السيد ألبرت إقامة متحف تستقر فيه نتاجات «فيلسوف الفريكة» بمواضيعها المتنوعة، ليكون بذلك أول متحف شخصي لأديب عربي، وقد اقتضى تحقيق هذا الأمر إعادة تأهيل إحدى القاعات الوسيعة التي كانت اسطبلا للخيل، وتحويلها إلى متحف تنقل إليه كتب وأغراض الريحاني الشخصية من المنزل إلى حيث عشرات الأمتار المربعة التي باتت متحفاً.

من العاصمة بيروت، وبمحاذاة الطريق البحرية شمالا، وصولا إلى مفترق بلدة انطلياس الساحلية نتابع السير صعوداً ناحية المتن في جبل لبنان، عدد من البلدات تختصر تلك الطريق وصولا إلى حيث بلدة الفريكة وفيها المتحف، ومولد أمين الريحاني وضريحه المؤرخ يوم وفاته 13 سبتمبر 1940، وما بين هذين التاريخين من مجلدات كتبتها اليد اليمنى للريحاني التي لم يفارقها مرض العصبي الذي طالما آلمه جسدا، والذي على قساوته لم يكن أكثر إيلاما من أسئلة العقل لديه، تلك الأسئلة المثيرة للجدل، للنقاش الصاخب، للايقين، للأزمات الشخصية، للترحال المتكرر، إلى اللاجواب إلا اختصارا لجملة آمن بها الريحاني وتصدرت الباب الخارجي للمتحف وهي «قل كلمتك وامش».

متحف أمين الريحاني جزء من منزل حجري قديم، يعلوه قرميد أحمر كما الطابع العمراني لمنازل المنطقة المحيطة، والتي هي أيضاً تجمع غض لأشجار باسقات، خضراء على امتداد الفصول، ومنها شجر الريحان التي اشتق اسم العائلة منها.

منزل بين كوعين: الأول بأمتاره القليلة ابتعاداً عن المنزل، ذي الانعطافة الحادة والتي شهدت الحادثة التي أودت بحياة فيلسوف الفريكة وقوعاً من على ظهر الدراجة الهوائية، والثاني حيث المنزل القابع منذ بدايات القرن الفائت على كتف الوادي المنحدر عميقاً... عميقاً كما أسئلة الريحاني الفكرية والاجتماعية والوجودية والفلسفية والكونية بمعناها الإنساني.

إلى جانب الطريق العام، ونزولا على عدد من درجات السلم الحجري، تبدأ الرحلة إلى عالم المتحف ببابه المائل إلى اللون الأخضر، تحرسه منحوتة نصفية لصاحب المتحف، يقابله أعلى أحد أعمدة الممشى التي خطاها الريحاني بتأملاته جيئة وذهاباً، لوحة خشبية كتب عليها: «متى تحولين أيتها الحرية وجهك نحو الشرق؟ متى يمتزج نورك بنور هذا البدر الباهر فيضيء ظلمات كل شعب مظلوم»؟

من تحت هذه الأمنية تدخل إلى القاعة الوسيعة والضيقة في آن.. تتهيب المكان، تعود بك الذاكرة إلى ما تعلمته نتفاً عن هذا الأديب - الفيلسوف أيام دراستك في التعليم الثانوي.. تبدأ أسئلتك عن الموجودات، لتنتهي بالكثير منها خالي الوفاض، تثير الدهشة لديك تلك المجلدات ذات الأغلفة الصفراء بمرور الزمن.

نظرتك الحائرة والسريعة إلى جدران المتحف تبددها سهولة معرفة من أين ستبدأ، ويصحبك في هذه الرحلة الدكتور أمين ألبرت الريحاني ابن شقيق صاحب المتحف بكامل سعة اطلاعه وشغفه بمؤلفات عمه، فالمتحف بات صرحا ثقافيا يقصد لذاته، يغني أبحاث الدارسين الجامعيين، ويزيد معرفة تلامذة المدارس من ذوي الأسئلة الخام، كما أنه مقصد الزائرين العرب يرون فيه جزءاً من تاريخهم، وأغراض ملوكهم الشخصية المقدمة كهدايا إلى صاحب المتحف.

أزمنة الريحاني

يقسم المتحف إلى زوايا وفقاً لتسلسل زمني عاشه الريحاني وأبدع في كتابة مؤلفاته، من الجهة اليمنى من الباب الرئيسي تكون «البدايات 1876 - 1905»، وهو تاريخ مولد الريحاني حتى عودته الأولى إلى لبنان مع ذويه.. ومن زاوية «البدايات» تتصدر صورة العائلة وتضم الوالدين: فارس وأنيسة والأشقاء يحيط بها مجموعة صور فردية للريحاني بدءاً من عمر اثني عشر ربيعا تاريخ بداية هجرته إلى نيويورك.

في هذه الزاوية مجموعة من كتب البدايات في التأليف وأبرزها «نبذة عن الثورة الفرنسية» وكان لأمين من العمر ستة وعشرون ربيعاً، ثم كتابه باللغة الإنجليزية «رباعيات أبي العلاء» وهو ترجمات لبعض قصائد المعري الشعرية من «اللزوميات» و«الرباعيات» حيث «القلق والصراع الفكري والنقد العقلاني التحرري» إذ وجد الريحاني في مواقف المعري ضالته كبديل للمعتقدات البالية والواهية، والمدمرة للبشرية.

نزعة الريحاني المتمردة، القلقة نجدها في مجموعة الرسائل - المقالات في هذه الزاوية، والتي سبق لها ونشرت في صحف المهجر مثل «الهدى»، «الإصلاح»، «الحقيقة»، «المهاجر ومرآة الغرب»، و«الأيام»، وقد جمعت هذه المقالات في كتاب «شذرات من عهد الصبا»، إضافة إلى نص خطاب له حول التساهل الديني وكان ألقاه في نيويورك في جمعية الشبان المارونية وندد من خلاله بالتعصب الديني «الذي هو أساس كل الشقاق والانقسام بين المغتربين من أبناء سورية ولبنان» على ما يقول الخطاب.

كما تضم الزاوية دفاتر ذكرياته، مقالات باللغة الإنجليزية أراد من خلالها التوجه إلى القارئ الأمريكي «لكنه كان يلقى صدوداً كما في إحدى رسائله». وهناك أيضاً رسالة بتاريخ 1901 من الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت إلى الريحاني، وأيضاً مجموعة شعرية له باللغة الإنجليزية. أما الكتاب الذي أقام المهجر ولم يقعد أبناء الوطن إلا بعد مصادرته وإحراقه فكان «المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية» وفيه رفض الريحاني لكل ما هو ديني، كما جاور هذا الكتاب كتاب آخر بذات بالمضمون ذاته وهو «المكاري والكاهن»، وفيه انتقد رجال الدين النصارى ورسم وجوههم بالكاريكاتور وكان ذلك عام 1904 أي قبل عودته الأولى إلى قريته الفريكة مطلع 1905 «حيث بدأت فترة الانعزال لديه» بعد سنوات من صخب نيويورك وتحدياتها والعالم المادي السائد فيها والذي طالما أزعجه فكتب إلى شقيقه أسعد رسالة وفيها «يا أسعد، السعيد من علّم نفسه وأفاد الناس بحكمته». ولكن هل هذا ما كان يطمح إليه والد أمين، هذا الوالد الذي ارتضى المهجر محطة لإصلاح الوضع الاقتصادي للعائلة وأراد الاستعانة بابنه البكر أمين في العمل التجاري، لكن الأخير أبى هذا الروتين الذي لا يتلاءم وقلقه النفسي والفكري ومطالعاته، فكان انزعاج الوالد على صيغة سؤال حمل معنى الرؤية إذ قال لأمين: «هل أتيت بك إلى نيويورك لتعمل معي أم لتطلع فيلسوفا»؟

في الزاوية الثانية من المتحف وتحمل عنوان «كتاب خالد 1905 - 1911» يتصدر كتاب «الريحانيات» مع ترجمة له إلى اللغة الروسية قام بها صديقه المستشرق إينياس كراتشكوفسكي، وكتابه الخالد «كتاب خالد» باللغة الإنجليزية والذي يعتبر خلاصة أفكاره وتأملاته الاجتماعية والأدبية والفلسفية وقد صدر عام 1910 ويقع في ثلاثة أبواب: الأول بعنوان «التبادل» ويوجهه إلى الإنسان ويعالج فيه مشكلات الاغتراب الحضاري، الثاني بعنوان «في المعبد» ويوجهه إلى الطبيعة ويعرض فيه لعزلة خالد في جبال لبنان، والثالث بعنوان «في كل مكان» ويوجهه إلى الله ويعلن فيه ثورته على ازدواجية الصراع بين الشرق والغرب بحثاً عن المجتمع الفاضل أو عن المدينة العظمى المتجسدة في الإمبراطورية العربية كما سنرى في أفكاره المدونة في كتبه اللاحقة. يقول الريحاني في إحدى صفحات هذا الكتاب الذي شكلت فيه ثنائية الشرق والغرب إحدى محاور أفكاره: «إن الكائن الأكثر تطوراً على نحو رفيع ليس أوربياً ولا شرقياً، بل بالأحرى من يشارك في الصفات والمزايا الممتازة لكل من العبقري الأوربي والنبي الآسيوي». وهناك أيضاً عدد من الكتب الشعرية مثل «ريح السموم»، «داويني ربة الوادي»، وعدد من الرسائل وأبرزها «في العزلة»، ورسائل من جبران خليل جبران إليه وبالعكس (1907).

إشارة هنا لابد من التأكيد عليها وهي إقرار معظم الباحثين بأن بداية الشعر المنثور في اللغة العربية تعود إلى أمين الريحاني، وتعتبر قصيدته الأولى وهي بعنوان «الحياة والموت أو الخريف غياب الشمس في لبنان» وقد نشرتها مجلة الهلال المصرية العام 1905، اعترافاً بدور الريحاني في إدخال هذا النوع من الشعر الحر. كما تعتبر قصيدته «هتاف الأودية» بداية دخوله التأليف في الشعر الموزون.

تماثيل وأوسمة

في هذه الزاوية من المتحف يوجد تمثال نصفي للريحاني بإزميل النحات الإيطالي «مالوزي» هو تقدمة من أبناء الجالية اللبنانية والسورية والفلسطينية في المهجر... إلى جانب خزانة مقفلة على عدد من الأوسمة تقديرا له بعد وفاته ومن بينها: وسام الدولة اللبنانية ملفوفاً بالعلم الفرنسي (1940 كان لبنان لايزال تحت الانتداب)، وآخر من ملك المغرب الحسن الأول جد الملك الراحل الحسن الثاني، وثالث من الشاه رضا خان والد الشاه الإيراني محمد رضا بهلوي تقديراً منه للعمل المسرحي الذي كتبه الريحاني في الذكرى الألفية للفردوسي بعنوان «وفاء الزمان».

وفي هذه الزاوية كتاب «وجدة» الذي تناول فيه شخصية الإمام علي بن أبي طالب وأراد تقديمها كعمل مسرحي في الغرب ولم يفلح، ولكن تكمن أهمية هذا العمل إضافة إلى ترجماته لأعمال المعري، في أنه كان بداية توجهه نحو التراث العربي والمشرقي، كما تحتضن الزاوية مخطوطته «المدينة العظمى» وقد تحدث عنها في حفل نظمته جمعية طلبة العلم في العهد العثماني سنة 1910 وتلخص أفكاره «إذ تضم القائد الذي هو رجل الشعب والجماعة الذين هم جماعة العلم والحرية والإنتاج، ويكون إطارها الواقعي في البقاع التي تربط آسيا بأوربا في الإمبراطورية العربية، وهذا ما انعكس في حلمه العربي الذي سعى إلى تحقيقه.

يفصل الزاوية الثانية عن الثالثة التي حملت عنوان «اختبار الغرب 1911 - 1921» عقد حجري على شكل مثلث، لكنه بالمعنى الفكري كما يقول ابن شقيقه أمين ألبرت الريحاني «فهو باب المواجهة الحقيقية بين الريحاني وبين الغرب، فلأول مرة حمل كلمته كشرقي اختبر الغرب أو كغربي قادم من الشرق ليقولها ويمشي بها في الأوساط الأمريكية والأوربية، وقد اتخذت أشكالاً مختلفة في العقد الثاني من القرن العشرين وقد ركز فيها على مساوئ الغرب والشرق»، ولعل الريحاني نفسه لخص ذلك بما كتبه يوماً: «من أغرب الأمور أن ليس في مدهشات الغرب ما يدهشني ولا في مسراته ما يسرني. أتلفت كل يوم إلى الشرق كالعاشقة التي تتلفت إلى بيت حبيبها». وربما هذا ما دفعه ودفع جبران يوماً إلى رسم خطة لبناء دار للأوبرا في لبنان حملت اسم «دار الأوبرا السورية في بيروت» (1910)، من دون أن يغفل إعداد دراسة أدبية تناولت رائعة الأدب العربي «ألف ليلة وليلة» لأنه رأى فيها وجهاً من وجوه الحضارة المشرقية التي يمكن أن يواجه بها الغرب.

في الزاوية أيضاً لوحات فنية واحدة منها للرسام الأمريكي والت ويتمان بريشة اس.جي.ولف، لوحة ماكس ابستمن بريشة ألبرت ستيفنز، لوحات لتروي كيني، مريم بطلة الريحاني في «زنبقة الغور» التي تعتبر من الناحية الفنية من أولى الروايات العربية التي تدخل الأدب العربي الحديث من باب التأليف والوضع وليس من باب الترجمة أو الاقتباس، كما أنها تبرز نزعة الريحاني لأفضلية العدالة على مفهوم السعادة. إضافة إلى «أنشودة الصوفيين» وقصائد شعر منثور نشرت سابقاً في مجلة الهلال عام 1905.

أما الطاولة الصغيرة التي تتوسط هذه الزاوية، فنجد عليها بعض الأغراض الشخصية للريحاني من بينها زجاجة نبيذ لاتزال مقفلة أتى بها من باريس سنة 1938، إلى ساعات وأقلام، ونص لدراسة حديثة أعدها د.بول جهشان وتناولت التلاقي الفكري ما بين أمين الريحاني والمفكر الأمريكي من أصل فلسطيني إدوارد سعيد في نقدهما للاستشراق.

«الحلم العربي 1022 - 1928» هو في الزاوية الرابعة ويتضمن رسائل وصورا لملوك عرب ومنهم: الشريف حسين ملك الحجاز، الملك فيصل الأول ملك العراق، الشيخ أحمد الجابر الصباح حاكم الكويت (حملت توقيعاً كتب عليه «تذكاراً إلى حضرة الفاضل الأديب الأستاذ أمين الريحاني 20 صفر 1341 هجرية»)، الملك غازي نجل الملك فيصل ملك العراق، السلطان عبدالكريم الفضل حاكم لحج في اليمن، كما يتضمن عددا من مؤلفاته باللغتين العربية والإنجليزية، والترجمة العبرية لكتاب «ملوك العرب» (الذي صدر عام 1922) والتي يقول الدكتور أمين «لقد حرضت الجالية اليهودية في نيويورك يوم صدور الكتاب على الريحاني ودعت إلى مقاطعة ندواته. أما الهدايا في هذه الزاوية فهي سيف من حاكم الكويت الشيخ أحمد الجابر، وسيف آخر من الملك فيصل الأول، ورسالة بخط يده (1935)، وثانية من الإمام يحيى إمام اليمن، ومن الأمير فيصل آل سعود وكان وزيراً للخارجية (1939) قبل أن يصبح بعد ذلك ملكاً على السعودية، إضافة إلى رسالة من الشريف حسين (1922).

أما المحابر التي على الطاولة فهي هدايا ملك العراق فيصل الأول.

هذه الزاوية التي حملت صورة الشيخ أحمد الجابر الصباح تستدعي منا بعض التوقف عند الفصل الذي تناول فيه الريحاني تاريخ دولة الكويت في كتابه «ملوك العرب» فيقول: «كان الشيخ عبدالله الصباح أول من حكم الكويت وذلك في النصف الثاني من القرن الهجري. أما الشيخ أحمد الجابر الصباح الذي التقاه الريحاني ونزل في ضيافته فيصفه بأنه «ربع القامة، دقيق الملامح، حسن الخلق والبزة، لطيف الإشارة والحديث وكان معجباً بالمدنية الغربية ويود لو أن للعرب جزءاً يسيراً منها»، ويضيف الريحاني «لقد استقبلني (أي الشيخ أحمد) وأعرب عن دهشته لسفري في البلاد العربية هذه السفرة الطويلة». كما يصف القصر والمفروشات الفاخرة التي تزينه، وأيضاً المأكولات «التي فتنت بما أحاط صحفة الأرز من الألوان المطبوخة من البقولات».

كما يتناول علاقة الإنجليز بهذه الإمارة الناشئة حديثاً، وعلاقتها بالجوار، وبناء السفن لاستخراج اللؤلؤ وللتجارة مع الهند ودول الجوار، إلى أن يقول: «مهما يكن من أمر الكويت ومشاكلها التجارية والسياسية فإن فيها غير التجارة ثروة وغير اللؤلؤ كنزاً، فيها ذكاء وجرأة وأدب شاهدت فيه نماذج جميلة في الحفلات التي أقيمت هناك وفي المجالس، وفي الكويت نهضتان لها ركنان: المكتبة الأهلية والمدارس النهارية والليلية، وهي تتغذى فوق كل ذلك بما تثمر به العلوم والآداب العصرية في سورية ومصر، إلى أن يقول: «كما أن سفن الكويت الشراعية تصل إلى الأساكل التي لا تدنو منها البواخر الكبيرة، فكذلك أدباء الكويت في اختلاطهم مع البدو وأسفارهم في داخل البلاد العربية يستطيعون أن ينشروا روح العلم والتهذيب وروح القومية السلمية في العشائر والبوادي».

ويتصدر الزاوية الرابعة من أقسام المتحف نص صلاة «النجوى» ضمن إطار خشبي، وقد كتبها الريحاني في الصحراء السعودية في رحلته التي جاب فيها شبه الجزيرة العربية شاهداً ومدوناً وصديقاً ومؤرخاً. وكان الريحاني يتلو هذه الصلاة عند السادسة من مساء كل يوم وبصوت عال من على شرفة منزله في الفريكة. يحاذي هذا الإطار جزءاً من مكتبة الريحاني الخاصة (الباقي موجود في الطابق العلوي من المنزل)، ونسخاً من مجلات كانت تصدر في ذلك الزمن، ومكتبه الخشبي وكرسيه والنظارات، وأهم مكتشفات ذاك العصر وهو «الدكتيلو» يستعين به في الكتابة.

مسيرة الريحاني العربية

لا يمكن لأي متابع لمسيرة الريحاني الأدبية والسياسية إلا ليتوقف أمام القضايا القومية العربية التي أولاها حيزاً واسعاً في حياته كتابة وكفاحاً.. فالمرحلة العربية في مسيرته كانت نقطة تحول في حياته الشخصية (الانفصال عن زوجته الأمريكية الرسامة بسبب رفضها مرافقته في رحلته العربية)، وفي حياته الأدبية والسياسية خاصة.

يقول الريحاني في مقدمة كتابه «ملوك العرب»: «رافقت العرب في خروجهم على الترك أثناء الحرب، ورافقتهم في المجلات الإنجليزية والجرائد العربية فكنت أقوم فيما أكتب ببعض الحب والإعجاب». هذه ليست البداية فقط، لقد بدأت مع تعلم اللغة العربية، وفي الانجذاب إلى المعري، وقراءة كتابي «الأبطال» للكاتب الإنجليزي كارليل الذي يتحدث عن الرسول العربي محمد، و«الحمراء» لواشنطن أرفينغغ الذي يتحدث عن بعض أمجاد العرب، وهكذا بدأ يحلم ببعث الأرض العربية واستعادة مجدها، كما حلم في كتابه «كتاب خالد».

والانتماء العربي كما أراده وحلم به الريحاني رسم له خطوطه الفكرية، إذ يقول: «باتحاد قوانا يمكننا أن نبني إمبراطورية عربية حديثة ونحيي الإمبراطورية العربية السالفة».

وإذا كان «كتاب خالد» بداية تطلعه إلى قائد وتأكيد هوية عربية، فإن رحلته في الصحراء العربية كانت تجسيداً لهذا الحلم الذي أراد النهل من منابعه، يضاف إليها الأوضاع الاجتماعية والسياسية في فترة الاحتلال العثماني، وحملات التتريك، والدعوة العربية لمناهضتها، فكل ذلك أثار في شخصه حس الانتماء.

كانت عروبة الريحاني الفكرية علمانية علمية ديموقراطية عادلة، يكره العصبيات على شتى ألوانها الطائفية والدينية والقبلية ويحذر من مخاطرها ومن وقوفها بوجه الوحدة والتحرر، كما كان يحذر من تحالف القوي والضعيف في السياسات الخارجية.

وبالرغم من اصطدامه بالدور اليهودي في نيويورك فإنه كان ضد الأفكار الصهيونية ومخاطرها، لكنه كان متفائلا بالحق العربي في فلسطين, فقام بجولة في فلسطين سنة 1927 محذراً من ادعاءات الصهيونية، كما انصرف إلى إقامة الندوات والمحاضرات السياسية لشرح المشكلة الفلسطينية في لبنان وفي الغرب.

ولم يفت الريحاني القيام بمهمة الوسيط أو التقريب بين حاكم عربي وآخر لتبديد الخلافات بينهما، إيماناً منه بمستقبل هذه الأمة ونهضتها فيكتب في مقالة «روح العروبة»: «إن الأمة العربية استطاعت أن تحفظ كيانها أكثر من ألفي عام، وهذه الأمة كانت تنتصر دائماً على الموت، وكانت من الأمم الفاتحة، من الأمم الممدنة التي حملت مصابيح العلم والشعر والنبوة حقباً من الزمن..».

لنعد إلى أقسام المتحف إذ بين الزاويتين الرابعة والخامسة باب لغرفة نوم الريحاني وتخته الذي توفي على فراشه، إلى ثيابه المعلقة في الخزائن، فالمسبحة السوداء اللون مهداة من البابا بنيديكتوس الخامس عشر، إلى أدوات الحلاقة، فالأحذية.

الزاوية الخامسة للترتيب الزمني لحياة أمين الريحاني بعنوان «الآفاق الدولية 1928 - 1940» وهي مرحلة التعرف عن قرب إلى المشرق العربي ودراسة أوضاعه السياسية والاجتماعية والثقافية، وترسيخ علاقاته العربية وحصيلتها «ملوك العرب»، ولكن كانت أيضاً مرحلة الانفصال عن زوجته الأمريكية الرسامة برثا كايس التي تتصدر صورتها إحدى جدران المتحف، لكنها وبعد وفاته زارت الفريكة وطلبت في وصيتها أن يحرق جثمانها بعد الوفاة وينقل رمادا ويدفن إلى جانب الريحاني بالرغم من طلاقهما، وكان لها ما طلبت في العام 1970.

في زاوية «آفاق دولية» رسائل وصور للخليفة الحسن الأول ملك المغرب، الجنرال فرانكو ملك إسبانيا، الملك عبدالعزيز آل سعود، السيف الخاص به الذي كان قد استخدمه في استرجاع الرياض من آل الرشيد، كما أن هذا السيف يعود إلى أحد قادة الفتح الإسلامي لبلاد فارس (من حوالي 1200 سنة)، وهناك أيضاً قطعة من ستار الكعبة وخنجر الإمارة.. إلى كتابه الأخير الذي لم ينجزه قبل وفاته «قلب لبنان»، وكتاب الرسائل المتبادلة بينه وبين الملك عبدالعزيز آل سعود، وست وستون رسماً من وجوه لشخصيات عربية، ونساء، ورسوم كاريكاتور، والرسم الوحيد الذي عرف به الإمام يحيى واعتمدته الصحف الغربية، إضافة إلى لوحات بريشة أصدقاء الريحاني أمثال جبران ومصطفى فروخ، حليم جرداق، هيلين بيل، وآخر صورة له قبل وفاته عن عمر 64 عاماً.

مخطوطات الريحاني

أما الجناح الأخير من المتحف وهو يختلف عن الزوايا التي أشرنا إليها آنفاً، فهو يضم أرشيف المتحف وما كتب عن الريحاني، إلى 18 مخطوطة باللغة الإنجليزية لم تكن قد نشرت قبل وفاته، عملت مؤسسة الريحاني للطباعة على نشرها تباعاً.

في الجناح أيضاً 85 كتاباً ما بين أطروحة ماجستير ورسالة دكتوره من مختلف جامعات العالم والوطن العربي تناولت أدب الريحاني.

بعد الانتهاء من الجولة، وقبل الاستدارة ناحية الباب الخارجي نتوقف باندهاش آسر أمام قطعتي السجاد من الصناعة العجمية وهما هدية من الملك عبدالعزيز آل سعود إلى الريحاني تمثل الأولى الكرة الأرضية وتمثل الثانية شجرة الحياة.

ربما كانت حياة الريحاني المتعددة الإبداع والتنوع والاهتمامات، ثرية كما تنوع الفصول الأربعة من عواصف خريفية استمتع بحزن إخفاقاتها، إلى حياة ربيعية تدب في أوصال أفكاره التحررية، إلى صيف ساطع بشمسه وفرت له جولاته العربية في قلب الصحراء، إلى شتاء اختلط فيه الشعور بالانعزال مع فيض المطر كما في نتاجاته الزاخرة بأحلام خير البشرية.

أو ربما كانت تلك الكرة الأرضية التي حملها على ظهره كما حمل «سيزيف» صخرته وفقاً للأسطورة اليونانية، فنجح لأنه أراد ذلك، وأخفق لأن للعالم نظريات لا تتطابق والمدينة العظمى التي بنى أفكارها الريحاني ورحل.. والتي لم، وربما لن تجد طريقها إلى الواقع.

 

 

منى سكرية 





 





أمين الريحاني في شبابه





البهو الرئيسي لمتحف الريحاني





رسالة من حاكم إسبانيا الجنرال فرانكو موجهة لأمين الريحاني، من بين رسائل عديدة في المتحف





من مؤلفات الريحاني





من مؤلفات الريحاني





على باب المتحف تمثال يجسد طفولته