ملف: الحاج مدبولي
ملف: الحاج مدبولي
في لقائي الأخير مع الحاج مدبولي في مكتبته الشهيرة في قلب الوسط التجاري للقاهرة؛ ميدان طلعت حرب، كنت قررت زيارة المكتبة، ولم أكن متأكدا من وجوده. اقتحمت مكتبه الصغير المحشور بين الكتب، فتأملني لوهلة. حملت عيناه تعبيرا ما بين المفاجأة، والدهشة، فتصورت أنه لم يتعرف عليّ. لكني سرعان ما فوجئت به يقفز من مكانه مرحباً وصارخاً: «سليمان الكويتي؟»، وبدأ فاصلاً من الترحيب، ثم قال: «تعرف إني متابع أخبارك أولاً بأول؟ وأعرف أنك تأتي للقاهرة كثيرا، ولكنك تبخل عليّ بالزيارة..». أخجلني، ولم أجد ما أجيبه به على عتبه هذا سوى التعلل بضيق الوقت، وكثرة المشاغل، في مقابل قصر الرحلات التي أزور خلالها القاهرة، والتي غالبا ما تكون مخصصة لمهمة محددة، والتأكيد بأن تولي مسئولية إدارة مجلة مثل «العربي» يمنعني من التغيب طويلاً عن مكتبي، لأنه عمل يقتضي تفرغاً كلياً، وإلا..! ومثلما فعل عندما وجدني أمامه وجهاً لوجه في العام 1991، في جناح مكتبته بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، راح يصرخ وهو يحتضنني: «ده الراجل صاحب الفضل في اللي انا وصلت له!». في ذاك اليوم كان يصرخ بأعلى صوته «الله ياخدك يا صدام على اللي عملته في الكويت، وأهل الكويت..». قبل ان يضيف بنفس الحماس: «يا سليمان، كل ما أملكه الآن تحت تصرفك وتصرف أهل الكويت». ثم عاد ليردد على مسمعي ومسامع العاملين في المكتبة، ما أخجلني، عما يسميه فضلاً عليه، رحمه الله. والحكاية هي أننا كنا أربعة طلاب من الكويت قد التحقنا بالدراسة في القاهرة أول الستينيات، وكنا نسكن قريباً من جامعة القاهرة، وبالتحديد في 2 شارع الدقي، بالطابق السابع. آنذاك كان هناك فتى صغير يزودنا بالصحف يوميا في ذلك السكن، وعرفنا أن اسمه محمد، حيث كان ووالده وإخوته يملكون كشكا للسجائر والصحف في ميدان الدقي. وفي ذلك الوقت وبسبب قرب الكشك من ميدان الدقي، عادة ما كان يتعامل بانتظام مع رواد مقاهي الميدان وأشهرها مقهى بردي الذي يرتاده أغلبية الطلبة العرب من الدارسين في القاهرة. كان قد بدأ يكسب ثقة هؤلاء الطلبة بأخلاقه، ونشاطه، وحركته الدءوبة ليل نهار. في ذلك الوقت في مطلع الستينيات من القرن العشرين، كنت أتلقى اسبوعيا كمية من مجلة «الحرية» البيروتية لأقوم بتوزيعها على الطلبة العرب في محيط علاقاتي بهم. وصادف وجوده في إحدى زياراته لنا في السكن ان شاهد نسخاً من المجلة فسألني عنها. أخبرته عنها، وأنها إحدى المجلات القومية التي تدعم الرئيس عبد الناصر وسياساته، فسألني: لماذا لا تعطيني هذه الأعداد لأقوم ببيعها لك في كشكنا؟ ورحبت بالعرض على الفور وسلمته كل أعداد المجلة ليوزعها، وبطبيعة الحال لم أطالبه بثمنها، لأنني لم أهتم إلا بأن يتم توزيعها بأفضل شكل ممكن. واستمر يتسلم المجلة مني بشكل أسبوعي، حتى طالبت إدارة المجلة في بيروت أن يقوموا بإرسال المجلة له بشكل مباشر. وأظن أن تلك المرحلة كانت بداية علاقته بالمطبوعات البيروتية، والتي استثمرها لتوثيق علاقاته بالصحفيين والكتاب العرب وتوسيعها، وفي مقدمتهم الكتاب اللبنانيون. هذه هي حكايتي مع الحاج مدبولي، رحمه الله، التي ارتأيت أن أفتتح بها هذه المقدمة للملف الذي لبى دعوتي للكتابة فيه، مشكورين، وبسرعة، كل من الإخوة: سليمان صالح الفهد (الكويتي المتمصر)، والأديبين الروائيين جمال الغيطاني ويوسف القعيد. وقد كان القصد منها هو تأكيدي للقاريء بأننا في هذا الملف لا نرثي فقيدا، بقدر ما نحيي اثرا، وأن نؤكد على أن الوطنية والنجاح ليسا ملكاً لأحد، بقدر ما أنهما ملك لكل إنسان جاد وشجاع وطموح وملتزم بوطنه وأهل بلده. فالحاج محمد مدبولي يستحق كل الدعاء له بالرحمة، وبأن يسكنه مولاه فسيح جناته. لكن الأصل أن نتذكر أنه بنى صرحاً من لاشيء، سوى الدأب. لا سلطة ولا مال كانا وراء هذا البنيان الذي اصبح أثراً عربياً لا يستغني عن زيارته والاستفادة منه أي مثقف مصري، أو زائر عربي، قارئاً كان أو كاتباً أو أديباً أو صاحب دار نشر لاكتشاف كل جديد في عالم الكتاب والنشر. فالمكان كان دائماً، ولا يزال، يعج بالأدباء ورجال السياسة والفنانين والشعراء وأساتذة الجامعات والقراء من كل الاتجاهات، وهذا ما يستحق منا أن ندعمه ونحميه لكي يبقى هذا الأثر (مكتبة الحاج مدبولي) مركزاً يرفد الثقافة والعلم. وأكرر شكري وعرفاني وامتناني لكل الإخوة الذين استجابوا فورا لدعوتي لهم بالكتابة عن مدبولي ومكتبته.
|