صداقة 40 عاماً مع صاحب المكتبة «الأثر»!

منذ حوالي سنة ونصف السنة، طرحت على الزميل الصديق «الدكتور سليمان العسكري» رئيس تحرير هذه المجلة تقديم رسم بالكلمات «بورتريه» عن أعلام النشر، والصحافة، والأدب وغيرهم من الأقطار العربية كافة. قال: سأفكر في المشروع، ومن ثم أحيطك علماً بقراري.

وفوجئت به يشترط موافقته بأن يكون أول شخصية أقدّمها هي: الحاج محمد مدبولي - رحمه الله - ولا حاجة بي إلى القول أني رحّبت في الاختيار، لأني أزور «بو محمود» وأتواصل معه بصورة دائمة كل أسبوع على الأقل، سيما أني أقطن قريباً منه، واعتدت ساعة العصاري على زيارته يومي الإثنين والخميس. وهو الآخر: يزورني ليلاً حين أكون بمعية مولانا الشيخ إمام عيسى الموسيقي المغني الوطني الشهير، والشاعر أحمد فؤاد نجم، ورفيق مسيرتهما الفنان التشكيلي القطري «محمد علي» ضابط الإيقاع في جوقة «حوش آدم» بحي الغورية، فضلاً عن سهرات عازف الكمان والموسيقي العالمي الأستاذ «عبده داغر». والجميل في العم «مدبولي» أن الصيت الحسن، والنجاح الذي صنعه بعبقرية «الصعايدة» الفطرية، فضلا عن حظوته بالشهرة الناشئة عن الفعل والإنجاز وإتقان أسرار مهمة الناشر، بالتراكم المتواتر، عبر خبرة تترى، وصبر عنيد، وسائر مناقبه التي سترد في السياق لاحقاً، كل ذلك مكّنه من تجاوز كل العقبات والعراقيل اللتين استهدفتا تحجيم مؤسسته الثقافية، سعياً لاحتوائه، بل إزالته من فضاء النشر والتوزيع بجرة «فرمان همايوني» من أحد المسئولين بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان! اللهم إلاسلطان محاربة الناجحين!

إن السيرة الذاتية لـ«مدبولي» باتت معروفة لجل الأدباء والمبدعين في شتى مناحي الإبداع، فضلاً عن المثقفين العرب من الخليج إلى المحيط. من هنا أحس أن ذكرياتي معه، قد «تضيء» سيرته الذاتية، وتضيف إليها تفاصيل بسيطة، تتبدى فيها شخصيته العصامية بامتياز. حين نشر الروائي «علاء الأسواني» روايته البكر «عمارة يعقوبيان» الطبعة الأولى من خلال «دار ميريت للنشر» لم تلق الشهرة المدوية التي حظيت بها لاحقاً لأسباب لا مجال لذكرها في هذا السياق، لكنها حين أعيدت طباعتها ثانية، بواسطة «مكتبة مدبولي»، لقيت رواجاً مدهشاً لم تحظ به رواية لمبدع ينشر عمله الروائي الأول! ذلك أنه ليس ناشراً ناجحاً فحسب، بل إنه يجيد توزيع ماينشره وإشهاره وانتشاره! فحين أخبره أحد المستشارين الذين يستعين بهم لتقييم أي مصنّف إبداعي يأتيه مخطوطاً، أو منشوراً يستأهل طباعته ثانية، بأن «عمارة يعقوبيان» رواية جذابة مصوغة بتقنية سردية تستهوي عامة القرّاء، وربما خاصتهم، بادر على الفور بالتعاقد مع المؤلف على الطبعة الثانية من الرواية. وبحسه الفطري المردوف بخبرة السنين: طبع منها خمسة آلاف نسخة. وهو رقم سخي ينطوي على مغامرة ومقامرة في المجهول! ذلك أن روايات مولى «نوبل» بجلالة قدره، لا يجرؤ ناشره على أن يطبع منها أزيد من ثلاثة آلاف نسخة فقط لاغير. الشاهد أن هذا الإنسان «البلدي» الذي يظنه الرائي إليه أنه مجرد «فاعل» أو عامل، أو صاحب أي حرفة يدوية بسيطة يكسب منها قوته قد استطاع بزيّه البلدي الصعيدي أن يصبح علامة النجاح والعصامية، والمحافظة على النجاح والشهرة.

في مطلع عقد الستينيات، كنت أقطن قاهرة المعز للدراسة الجامعية. وكانت ومازالت «مكتبة مدبولي» تبعد عن مسكني قرابة نصف كيلومتر، الأمر الذي مكنني من الاختلاف إلى المكتبة الذائعة الصيت، والتعرف إلى صاحبها «الحاج محمد مدبولي» الذي أفضى بتواتر الزيارة، إلى صداقة حميمة، دامت قرابة أربعين سنة «بالصلاة على النبي!»، كما يقولها إخوتنا «المصاروة» درءاً للعين والحسد! ولست بدعاً في صداقتي «لأبي محمود - رحمه الله - ذلك أن جل الطلبة العرب «في النصف الثاني من القرن العشرين والمنعوتين بـ«دودة» الكتب، المريدين للكتاب والقراءة، يتسمون بعلاقة صداقة حميمة معه. أما علاقته بالمبدعين المصريين والعرب، فكانت هي الأخرى عضوية بالضرورة، موصولة بحبل صرة المودة والتقدير طوال سني حياته الزاخرة بنشر وتوزيع المصنفات الثقافية المصرية والعربية، في شتى مناحي المعرفة.

وأحسب جازماً بأن السيرة الذاتية للحاج «مدبولي» باتت معروفة للقاصي والداني، سيما أن وسائل الإعلام العربية كافة: كرّست صفحات تتحدث عن «مدبولي» الإنسان ابن البلد العصامي، الذي شارك والده في صباه، مهمة توزيع الصحف الأجنبية في أربعينيات القرن العشرين، حين كانت منطقة وسط البلد مكرّسة لسكنى الأجانب «الخواجات» كما ينعتهم المصريون!

من هنا فإن شهادتي ستتكئ على مقتطفات من ذكرياتي الشخصية معه - رحمه الله -.

في أواخر شهر أبريل 1991م إثر تحرير دولة الكويت من الاحتلال «الصدّامي» إياه، امتطيت الطائرة الميممة صوب القاهرة، وأنا أتأبط مخطوط التقارير الصحفية السرية التي أرسلتها من الكويت المحتلة إلى وكالة الأنباء الكويتية، عبر الفاكس السري، في العاصمة السعودية الرياض. كانت المخطوطة - في ظني - تشكّل مشروع كتاب أسميته «شاهد على زمن الاحتلال». كنت أتلظّى على «حديدة» العوز، ولم يكن بحوزتي سوى مبلغ متواضع يكفي - بالكاد - لعيشتي الحياتية اليومية، المعتمدة على الفول والطعمية، ولله الحمد! الشاهد أني حالما وصلت القاهرة: هتفت لأخي في الله، وفي الكتاب، فضلاً عن «الكوارع» ولحمة الرأس، و«الممبار والنيفة» وغيرها من أطايب الأطعمة الشعبية المصرية، أعني الصديق الأديب الروائي «محمد مستجاب» - رحمه الله - وأحد الكتّاب الأزليين في هذه المجلة، إذ سلمته المخطوطة ليتولى مهمة نشرها، وانشغلت بمرض سيدي الوالد - رحمه الله -. وفوجئت بعد مرور يوم واحد باتصال هاتفي من الحاج «محمد مدبولي» معاتباً إياي لكوني لم أتصل به مباشرة، مؤكداً بألا أفكر أبداً بمسألة تكلفة نشر الكتاب!

وقال لي كلمته المعهودة التي طالما سمعتها منه: «الدفع حين ميسرة»، وأردف قائلاً: ازاي يبقى الأستاذ «مستجاب» وسيطاً بيننا، الذي لمّح لي «مدبولي» بعتابه لأن مستجاب كان في سبيله إلى أن ينشره ضمن سلسلة كتاب الهلال التي تصدر عن مجلة الهلال العريقة، أو في الهيئة العامة للكتاب. وختم كلامه قائلا: الكتاب صار عندي، وسلّمته إلى الأستاذ «إبراهيم عويس» مستشار الدار لإبداء الرأي، ومن ثم إلى المطبعة! وبعد أسبوع كان الكتاب في الأسواق! ونفدت الخمسة آلاف نسخة في أسبوعين! فبادر بحسّه الفطري، وخبرة السنين المتراكمة، بطباعة عشرين ألف نسخة..! وطلبت منه مثلها للكويت وأقطار الخليج العربي، وعلى الرغم من مضي ثمانية عشر عاماً على إصدار كتابي إياه، إلا أنه ما برح يتربع أحد رفوف المكتبة، ويرد عنوانه في سياق فهرس منشورات الدار. والكتاب أتاح لي معايشة طريقته في عملية نشر أي مصنف أدبي. بداية هو يتسم بحاسّة شم فطرية تجاه الكتاب الذي يحدس انتشاره وإقبال القرّاء على اقتنائه. فحين سلّمته إياه، ظننت أن ألفي نسخة تكفي وتفي بالغرض المنشود، لاعتقادي بأن عامة القرّاء يعزفون عن مطالعة كتاب يتمحور متنه حول الاحتلال وعربدته الإجرامية.. إلخ.

الشاهد أن الكتاب بلغت مبيعاته عشرات الألوف، منها عشرون ألف نسخة في ديار الخليج العربي.

وحين يؤرخ لحركة ومسار النشر، في البلاد العربية، فإن الباحث سيتوقف كثيراً أمام تجربة «مدبولي» - رحمه الله - في عمليتي النشر والتوزيع.

ولأن الكاتب مولّع بالسماع والطرب العربي الأصيل، غناء وموسيقى، فإن منزله المجاور لمكتبة «مدبولي» كان يحضن العديد من الأصدقاء المبدعين في الغناء والتأليف الموسيقي والعزف المتقن المطرب للآلات الموسيقية.

ففي عقد السبعينيات والذي يليه، كانت سهرتنا «صبّاحي» مع «الصهبجية».

و«عم مدبولي» كان حاضراً جل هذه السهرات المقامة أسبوعياً على أقل تقدير، لحضور الشيخ إمام عيسى، والشاعر أحمد فؤاد نجم، وبمعيتهما الفنان التشكيلي القطري «محمد علي» ضابط الإيقاع للإثنين معاً بالطبلة والدف حينا، أو أي وسيلة إيقاعية، كان «بو محمود» يصيخ السمع باحتشاد لافت، لكنه هادئ، يمج السيجارة تلو الأخرى، ويلعلع بعبارات الاستحسان كلما طرب لمعنى أو مغنى! وقد أفضت زياراته المتواترة إلى المنزل، حيث مولانا الشيخ إمام وعمنا «أبو النجوم» حاضران دوماً كل أسبوع، إلى علاقة حميمة بينه وبين الشاعر «نجم» طال عمره زمنيا وإبداعياً.

أما حين تكون السهرة الليلية مع الموسيقي وعازف الكمان الفذ: عبده داغر وفرقته الموسيقية، فإنه يكون أول الحاضرين لكونه مغرماً بموسيقى وعزف الأستاذ «داغر» فضلاً عن مجاورة منزلي لمكتبته، كما نوّهت بذلك آنفاً.

وإذا شرع الأستاذ «عبده» في العزف المنفرد المتفرّد المدهش: استجاب له صاحبنا - رحمه الله - بالإصغاء التام، علّ ذلك يريحه من عناء الشغل، من التاسعة صباحاً حتى التاسعة ليلاً!

ويتواتر حضور «بومحمود» للسهرات المموسقة إلى حين مرضه الأخير الذي أفضى إلى وفاته - رحمه الله -.

وقد اشتهر الحاج «مدبولي» بين الطلبة الذين تعاقبوا على القاهرة والإسكندرية للدراسة في معاهدها العالية وجامعاتها، بقدرته على جلب أي كتاب مصادر وممنوع! حسب الطالب المريد للقراءة أن يذكر له اسم المؤلف، وعنوان المصنف المطلوب ليكون بين يديه خلال مدة، قد تطول أو تقصر.

وحين تحضر الكتب المطلوبة الممنوعة يتم تسليمها جهاراً نهاراً حيناً، وتحت «الترابيزة»، أحيناً أخرى.

ولعل هذه «الشهرة» الرائجة بين الطلبة «الشرقيين» وغيرها وسيلة خفية وإعلان غير منشور للترويج للمكتبة بين أوساط عامة القراء الذين لا يقرأون سوى الكتب الممنوعة فعلاً، وتلك التي يزعم مولاها ومؤلفها بأنها كذلك. الشاهد أن أخانا «مدبولي» جابه طوال سني حياته في مجال النشر والتوزيع تحديات رقابية وإدارية «بيروقراطية» استجاب لها بإرادة صلبة صعيدية لا تلين، متكئاً على مؤازرة المثقفين بمصر، ووقوفهم في صفه بداهة.

ولعله من نافل القول التنويه بأن هذه المؤسسة الثقافية الشعبية الذائعة الصيت باتت من معالم القاهرة الحضارية، التي يحرص عامة القراء وخاصتهم على الاختلاف إليها في كل مرة يزورون فيها العاصمة المصرية. ذلك أن الزيارة تعد ناقصة ومثلومة إذا خلت من الإطلالة على المكتبة!

فالزائر يشاهد «أبو الهول والأهرامات» وغيرهما من الآثار والمعالم السياحية مرة واحدة، لكن زيارته لمكتبة مدبولي متواترة ودائمة!

والحق أن المكتبة ليست مجرد فضاء يحضن وينشر المصنفات، بتجلياتها الإبداعية كافة فحسب، بل إنها جامعة للعرب المريدين «لخير جليس».

فكثيراً ما التقيت فيها ساسة وأكاديميين ومفكرين من المشرق والمغرب العربيين على حد سواء. والأعلام العرب في السياسة والإدارة.. إلخ كانوا يخبرونه منذ أن كانوا طلاباً في النصف الثاني من القرن العشرين.

والمؤسف أن عام 2008 يعتبر بحق عام الحداد والحزن الثقافي العربي، كما نعته الأستاذ «عيد عبدالحليم» في مجلة «أدب ونقد» لشهر سبتمبر 2008. حسبنا تأكيداً إلى ما ذهبنا إليه: استدعاء رحيل الكوكبة من المبدعين المصريين والعرب الذين غيّبهم الموت في هذا العام: الأديب الناقد الأستاذ رجاء النقاش، الأستاذ حامد العويضي الفنان التشكيلي والخطاط، والمؤرخ اليساري الدكتور رءوف عباس، والمفكر الأكاديمي الدكتور عبدالوهاب المسيري، والمخرج يوسف شاهين، والشاعر محمود درويش ومن ثم الحاج مدبولي الذي اكتملت برحيله الفجيعة القومية.

 






 





ميدان طلعت حرب في القاهرة حيث تتوسطه مكتبة مدبولي