الموصل قبل العراق مثلها كالنحل يصنع خلايا خماسية الأضلاع*

الموصل قبل العراق مثلها كالنحل يصنع خلايا خماسية الأضلاع*

يقدم الكتاب نموذجاً لولاية الموصل في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وما حققته من إعجاب للأوربيين فيما بلغته في بناء منظومة اقتصادية نموذج في زمن القهر والظلام السائد إبان العهد العثماني.

تقول الكاتبة في مقدمتها: «لقد أثارت كشوفات الآثار عدداً كبيراً من البعثات والفرق الفرنسية والبريطانية والألمانية وغيرها، وعلى الرغم من ذلك لم ينتبه الأوربيون لسكان تلك المنطقة ولا تاريخها وتقول الكاتبة: لو عرف الأوربيون واطلعوا على تاريخ العصور الوسطى لعرفوا من الأجداد العظام أن الموصل ليست قرية صغيرة تقع على نهر دجلة بل إنها كانت عاصمة لعدة إمبراطوريات عالمية وإقليمية، إن ما كتبه ياقوت الحموي في القرن الثالث عشر يثبت ذلك حيث يقول: «كثيراً ما سمعت أن مدن العالم العظيمة ثلاث: نيسابور بوابة الشرق، ودمشق باب الغرب والموصل لأنها تقع في أقصر طريق بين الشرق والغرب ويندر من لم يمر بها».

لقد طبعت الموصل صوراً ساحرة وجميلة في فكر وذهن الرحالة الأوربيين في القرن التاسع عشر نظراً لما تصدره من غذاء، فقد كانت بحق عاصمة إقليمية وعاصمة إمبراطورية مزدهرة التجارة والصناعة، متفوقة في السياسة محصنة بأسوار مرتفعة، ومرتبطة بشبكة من الناس والمنتجات والأسواق؛ امتدت من البحر الأسود شمالاً إلى الخليج جنوباً، ومن إيران شرقاً إلى المتوسط غرباً، لقد ناقش الكتاب وفق منهج علمي وموضوعي اقتصاد وتجارة الموصل، وشبكة العلاقات التي استطاعت الموصل إدارتها وإدامتها في القرن الأخير من عمر الدولة العثمانية.

إن من الأمور التي تثير التساؤل؛ الاهتمام الكبير الذي توليه مؤسسات كثيرة ومتعددة بالموصل إبان القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين لكي يحمل الموضوع من قبل عدد كبير من الباحثين ومنهم الباحثة سارة شيلدز، وهنا يكتشف القارئ سر هذا الاهتمام في الصفحات الأخيرة من الكتاب في الاستنتاجات والخاتمة، وتضع الكاتبة استنتاجها المهم وقد تمثل بأن النفط والتنقيب عنه وتصفيته كان سبباً في تعطيل الإنتاج وتدمير الثروة.

الموصل: التحديات وآليات العمل في القرن التاسع عشر

تطرح الكاتبة نموذجها للموصل ضمن ثلاث دوائر: الأولى عالمية والثانية إقليمية والثالثة محلية، وقد اعتمدت منهجاً علمياً للبحث، ولهذا ظهر العمل منهجياً وموضوعياً وحيادياً ناقشت في مقدمته عدة نقاط رئيسية منها أنها فنّدت آراء عدد كبير من الباحثين حول تفسيرهم لظواهر القرن التاسع عشر والقرن العشرين في العراق، فيما ركزت على المركز بعيداً عن العلاقات إذ تقول: فقد توصلت إلى نتيجة مهمة تؤشر أن مدينة الموصل قد لفتت انتباه الباحثين الغربيين بفعل مآثرها القديمة وموقعها على مفترق الطرق التجارية، ولهذا رسم الكتاب صورة لاقتصاد أهملته النماذج السابقة، ولكن عند وضع هذا في بؤرة البحث يمكن الحصول على مشهد اقتصادي بطابع دولي.

إن دراسة جزئية المدينة من المشهد كاملاً لا تعطي الصورة الشاملة، إنما لا بد من دراسة الولاية بالكامل والإقليم ضمن تركيبة سكانية حضرية وريفية وبدوية يكون مركزها الموصل وأطرافها تمتد عبر دوائر بمختلف الاتجاهات، وتستطرد الكاتبة في سرد اللاعبين الرئيسيين وهم الحكومة العثمانية وحكومة الولاية والتجار والبدو والفلاحون وموظفو القنصليات الأجنبية البريطانية والفرنسية والألمانية، وتقول الكاتبة إن الموصل لم تكن مجرد مدينة مسقطة على خريطة تجارية بل هي مدينة التنوع السكاني والتنوع الإنتاجي والأيديولوجي وتنوع الأراضي فقامت صراعات معقدة حددت أين يجب أن تتجه المدينة وأين يجب أن تكون.

وأهم ما أشارت إليه الكاتبة في مصادر معلوماتها اهتمامها بكل صغيرة وكبيرة ولم تترك جزئية إلا أخضعتها للبحث والدراسة، فقد شككت في السجلات والوثائق بوصفها مصادر حقيقية للمعلومات، في حين مثلت انعكاساً للصراعات والمنافسات والثروة والسلطة والنفوذ. وتخلص في مقدمتها الرائعة إلى أنه لا بد من تحري نتائج تقطيع أوصال الموصل، وأن النجاح الذي حققته الموصل لم يكن نتيجة قوى ميكانيكية بل إنها من صنع الشعب وابتكاراته وإبداعه، وأن ما تراكم من ثروة لم يكن إلا بفعل جهود وعمل أبناء الموصل وقدرتهم على استغلال الظروف ودعم المنافسة. وتقول الكاتبة: في سنة 1896 كتب أحد المندوبين الفرنسيين الذي عاش في المدينة تقريراً يصف اقتصاد الموصل ويركز على كفاح العمال وإبداعهم ووصفهم كخلية نحل تعمل في بناء بيوت خماسية الأضلاع وهذا يتطلب منهم أن يعيدوا ترتيب حاجاتهم وأن يكونوا قادرين على تغيير ظروفهم والتكيف معها، ذلك أن التحول نحو بيوت سداسية الأضلاع يستلزم مواجهة التحديات وإتقان الأساليب والآليات القائمة أساساً على الخبرة والبراعة للموصليين، ومن هنا تقول الكاتبة: «لقد استعرت هذه الفكرة لعنوان الكتاب احتراماً وإجلالاً وتقديراً للناس الذين كافحوا وأبدعوا في موصل القرن التاسع عشر».

الموصل والمؤسسة الرسمية ونخب المجتمع

لقد شكلت المؤسسة السياسية للموصل الولاية العثمانية التحدي الأكبر، وتمثلت في جملة الصراعات التي شهدتها الولاية ولاسيما عاصمتها الموصل، وقد لعبت النخب السكانية دوراً كبيراً في رسم معالم النموذج. وتستطرد الكاتبة في شرح التنظيمات العثمانية في القرن التاسع عشر وآثارها على الموصل من بيروقراطية وفساد.

مضامين فصول الكتاب

ناقشت الكاتبة في الفصل الأول التحديات التي واجهتها الموصل في القرن التاسع عشر، ووضحت اللاعبين الأساسيين فيها والمتمثلين بنخب متعددة تجارية ودينية وزعامات ريفية ومؤسسات حكومية وتنظيمات مركزية, وبينت جملة الصراعات على السلطة والمال، والتحدي الأهم والأخطر الذي واجهته الموصل يتمثل بالضرائب التي كانت تجمع عنوة إضافة لتعدد الطوائف والملل والنحل والبعثات المستمرة من قبل الكنيسة والصراعات داخل تلك الملل والأديان، وتحديات الطبيعة في الجفاف والجراد وطبيعة التمرد السياسي والشغب، وقد استنتجت الكاتبة أن سكان الموصل هم أبعد من يكون عن التعصب الطائفي أو العرقي أو غيره بل إن مجمل صراعاتهم ناتج عن حالة الفقر والظلم وشظف العيش.

لقد تناولت الكاتبة سكان الموصل بالبحث والدراسة، وركزت الباحثة على المساكن التي سكنها الموصليون فقالت: يعيش السكان في حارات أو محلات (جمع محلة) تقدم لهم الخدمات، وقد تطورت هذه المناطق عبر قرون وعقود من الزمن لتشكل شبكة من الطرقات الضيقة التي يسهل ضياع الفرد في ممراتها، وتشبّه الكاتبة نمو هذه الحارات والأسواق على شكل عناقيد تحيط بالمؤسسات الدينية، الكنائس والجوامع، وتتوزع فيها الحمامات والحوانيت إلا أن الأسواق اتخذت لها مناطق تجارية، وقد علق أحد الموظفين البريطانيين عام 1870 بالقول: على الرغم من أن الموصل أصغر من بغداد وأقل ثراءً إلا أن أبنيتها قوية ومتينة. وتسرد الكاتبة بالعدد العاملين في البناء وعدد الدور والخانات والطواحين والمدارس...

وتناقش الكاتبة قضيتي الماء والغذاء، وتشرح آليات العمل، وتدخل الكاتبة في صلب الحياة العملية في القرن التاسع عشر، وتركز على نقاط جوهرية وأساسية، ومنها النسج وإبداع المدينة في هذا القطاع من خلال ممارسة الناس هذه الحرفة، والتوسع فيها لتكون مركزاً مهماً للعمل وتذكر بالإحصائيات الدقيقة عدد الحياك والأنوال وتقنيات الغزل والنسج ومستلزمات هذه المهنة، من صبغ وتسويق، التي قادت إلى انتعاش التجارة، وتناولت الكاتبة قضايا ملحة منها الإصلاح وتوجه الناس والمجتمع نحو تحسين الأوضاع والمعيشة.

الاستنتاج الأهم الذي خرجت به الكاتبة من هذا الفصل يتمثل في حالة التفاعل والتبادل للمجتمع الموصلي مع محيطه المحلي، ومحيطيه الإقليمي، والعالمي من خلال التبادل التجاري المتمثل بالاستيراد والتصدير مكونة مراكز تجارية للعمل التجاري اليومي ضمن نسيج شبكي إقليمي وعالمي مثلته الكاتبة بدوائر التجارة المحلية والإقليمية والعالمية عبر تبادلات وتداخلات اقتصادية داخل هذه الفضاءات الواسعة بين مركز تجاري وأطراف تمتد متشابكة بنسيج يكون الأوسع لتعاملات الموصل.

أما الفصل الثالث الذي جاء بعنوان «التجار» فبموجب نموذج الموصل يكون التجار من أبناء المدينة ومهمتهم لا تنتهي بالتجارة بل هم يتدخلون في الإنتاج، ويهيئون المادة الأولية ويتفقون مع الصناع والحرفيين على البضاعة المنتجة وبالشكل الذي يحددونه ويتطلعون له عبر تلك الامتدادات الجغرافية، وقد وضعت الكاتبة نموذجاً للدوائر التجارية وأدواتها الأكلاك والجمال باتجاه الجنوب وصولاً للخليج العربي، والحمير والبغال تكون باتجاه الشمال وصولاً لتخوم البحر الأسود، وإلى الشرق باتجاه إيران، والجمال وعبر الامتدادات الغربية وصولاً للبحر المتوسط، ومن ثم الدائرة الأوسع تكون عبر السفن الشراعية والبخارية من الخليج والمتوسط والبحر الأسود.

وعرضت الكاتبة للائتمان والرسوم والضرائب ضمن المنظومات التجارية المحلية والإقليمية والعالمية، وتستنتج أن التجار كانوا هم العامل الأساس في رخاء البلد بوصفهم المسئولين عن النقل والتجهيز والتمويل، وترفع الكاتبة قلمها وتكتب بوضوح أن نمو التجارة الخارجية لم يدمر الصناعة المحلية، وأن الصناعة الأجنبية لم تنافس الإنتاج المحلي؛ بل بالعكس كرست التجارة الصناعة وعززت الأسواق ونشطت التجار نحو المزيد من العمل.

أما الفصل الرابع فقد تناولت فيه الكاتبة الفلاحين وطبيعة علاقتهم بالمدينة، واستعرضت الآليات والبذار والحصاد، والتحديات الخطيرة التي واجهها الفلاحون من ضرائب وجراد وكوارث طبيعية، وعرضت لمسألة التسليف والملكية والقوانين وارتباط الزراعة بتوفير الغذاء وشحته.

إلا أن المهم في الفصل تلك العلاقة التي نشأت بين التجار والفلاحين، فكانت علاقات اقتصادية متداخلة ومتبادلة أدامت الزراعة ولكن لم تستطع تحديثها وتطويرها.

إن ما ناقشته الكاتبة من تجارة وإنتاج صناعي وزراعة كان عبارة عن تهيئة لبناء النموذج الاقتصادي الأهم وهو القائم على البدو، وهم القبائل المحيطة بالموصل، وقد نجحت الموصل وسكانها في نمذجة صيغة تفوقت وانطلقت منها نحو العالمية، وتمثلت بالإنتاج الرعوي من أغنام وجمال وصوف ووبر وسمن وجلود ومنتجات أخرى نشّطت قطاعات أخرى وهي الزراعة والصناعة والحرف والتجارة.

إن قراءة ما تناولته الكاتبة عن البدو بوصفهم التحدي الأكبر أمام الحكومة العثمانية المركزية والحكومة المحلية للموصل، والتحدي الأخطر كان أمام التجار ومسالك تجارتهم عبر امتدادات الموصل التي تذبذب في السيطرة عليها ما بين الحكومة تارة والبدو تارة أخرى اللذين امتهن بعضهم السلب والنهب تبعاً لسنوات الوفر الغذائي أو القحط والجدب، من هنا استطاعت الموصل توظيف البدو ضمن العلاقة المتداخلة والمتبادلة بين التجار والبدو بوصفهم المتميزين في الرعي والإنتاج الرعوي فنجح نموذج الموصل في تفعيل تلك العلاقة وتحقيق الوفر والنمو في الصادرات من الأغنام وتوجيهها باتجاه الطلب المتزايد من سورية ومصر والجمال باتجاه الجزيرة العربية والصوف باتجاه بريطانيا وفرنسا وألمانيا والمنتجات نصف المصنعة من الجلود باتجاه فرنسا وبريطانيا.

إن المنتجات الرعوية كانت الأساس لنمو اقتصاد الموصل الذي من خلاله تحدّت به النماذج الأخرى في القرن التاسع عشر، واستطاعت الموصل أن تندمج بالسوق العالمي عبر التصدير والاستيراد، وضمن العلاقات النموذجية للتداخل بين البدو بوصفهم المنتجين والتجار بوصفهم المصدرين، وهكذا قدّم التجار مزيدا من الأموال للبدو، وبالمقابل استطاع البدو زيادة إنتاجهم والاستمرار في العملية، ولم يكن هذا إلا نتيجة تفكير محلي وتخطيط وتكييف لحقيقة عالمية جديدة عبر علاقات وروابط متداخلة بين مختلف الفئات من أبناء المجتمع الواحد.

التاريخ الاقتصادي لولاية الموصل

إن قراءة لهذا الكتاب تظهر أن الموضوع في إطار التاريخ الاقتصادي العثماني وأن الكاتبة قد تناولته من منظور إستراتيجي، فاعتمدت منهجية علمية رصينة لمصادر بياناتية ومعلوماتية دقيقة وتفصيلية، وأنها قد استطاعت تحليل كل العلاقات وتفكيكها والوقوف على طبيعة المجتمع برؤية موضوعية وحيادية جعلها تقول: لقد عمل شعب الموصل على إدخال طريقة جديدة ومنتجات جديدة، وفق عملية تفاعلية جديدة ضمن شبكة انشأها وأدامها بمهارة فائقة وإبداع في التجارة والامتدادات الجغرافية لمساحات شاسعة شكلت تداخلات مناطقية وأنشأت أسواقاً متداخلة، واستطاعت بناء منظومات أشبه ما تكون بالدوائر، فكانت هناك دوائر محلية وأخرى إقليمية وثالثة عالمية.

تفكك النموذج

وتستنتج الكاتبة أن الحدود التي رسمها الأوربيون في بداية القرن العشرين ساهمت بتدمير ولاية الموصل وأسواقها ومواردها، وأن المنطقة التي عمل التجار والفلاحون والبدو ونخب المجتمع بأنشطتهم المتعددة اليومية والتشغيلية على بنائها قد فككتها الدول الكبرى بعد الحرب العالمية الأولى، وبعد تأسيس العراق تحول الاقتصاد باتجاه النفط والتنقيب عنه واستخراجه وتصفيته، وكان هذا كافياً لتعطيل الزراعة والرعي والحرف والصناعة وبعد هذا تجد أن الموصليين لم يمسكوا ثروتهم بأيديهم بل جاءت الشركات الأجنبية فأخذت الثروة والربح وقطعت أوصال الموصل وتوقف الإنتاج، وينتهي الكتاب بسؤال تطرحه الكاتبة عن خيار المدينة في بداية تأسيس الحكم الوطني في العراق بعد تدمير اقتصاد المدينة وتخريب منظومتها التي أدامتها عقود وتقول: هل تتوقع الموصل أن تحتل مكاناً في نماذج التحديث في الأنظمة العالمية؟.
-----------------------------------------
* arah D Shield Mosul before Iraq: Like Bees Making Five Sided Cells, 1999.
** أستاذ، كلية الإدارة والاقتصاد، جامعة الموصل / العراق.

 

 

سارة شيلدز