اللغة حياة

اللغة حياة

ضرورة الاستقراء قبل الحكم اللغويّ

في كتب الأخطاء الشائعة تناولٌ لموضوع «بَيْن» المكرّرة، والغالب على تفكير المؤلِّفين أنّ تكرارها لا يجوز إلاّ إذا أضيفت إلى ضمير، نحو: بَيْنَنا وبينَ جيراننا وئام، ونحو: بيننا وبينك موعد. وأحد المتناولين للموضوع يعرض لرأي المجيزين تكرارَها في غير ذلك، واستنادهم إلى أبيات لعنترة وذي الرُّمة وعَدِيّ بن زَيْد وأعشى هَمْدان، فيزعم أنّ تكرار هؤلاء لها كان لضرورة شعريّة لم يلحظها المؤلّفون في الضرورات (كذا)، وأنّ ابن منظور لجأ، مرّة واحدة فقط، إلى تكرارها في عطف اسم ظاهر على آخر، وذلك في كلامه على «بَيْن»، وأنّ الزَبيديّ صحّح له ذلك التكرار، لكنّ صاحبنا لا يلبث أن يرجّح كون التكرار خطأ مطبعيّاً لشهرة ابن منظور بالدقّة، مصرّاً على إنكار هذه الصيغة مع علمه بإجازة ابن بريّ لها!

ومؤلّف آخر يُتحفنا بما يزعمه جُملاً مغلوطة وأخرى صائبة، في استعمال «بَيْن»، من غير أن يبيّن وجه الخطأ ووجه الصواب، موحياً، إن صحّ فهمنا، أنّ تكرار «بَيْن» بين اسمين ظاهرين يقضي أن يكون هذان مركَّبين تركيباً وصفيّاً أو عطفيّاً.

ويتبرّع أستاذ جامعيّ مجمعيّ جليل بملحوظة يلحقها بكتاب لغة لغير المتخصّصين، تمنع عليهم تكرار «بَيْن» بين اسمين ظاهرين.

والحقيقة أنّنا لم نسمع، ولا نعتقد، أنّ من ضرورات الشعر تكرار الألفاظ غير الجائز تكرارها، ولو نسبنا الشاهد الشعريّ إلى الضرورة، كلّما جافى رأينا، لعبثنا بكل الشواهد، وبأكثر القواعد العربيّة، ولاسيّما بـ «بَيْن» المكرّرة مضافةً إلى اسمين ظاهرين، والمستعملة في أبيات كثيرة سنعرض لبعضها، غير تلك التي ذكرها المؤلّف الأوّل.

أمّا ابن منظور، فلا يكفي أن ننظر إلى مادّة واحدة من معجمه لنحكم على استعماله لعبارةٍ ما، والحقيقة أنّه استعمل، في معجمه الضخم، «بَيْن» مكرّرة، مع إضافتها إلى أسماء ظاهرة، عشرات المرات (انظر مثلاً باب الهمزة، ومواد: أبر، أكم، أيا، آ، بأس، بين، بكا، تبع، ثأر، ثور، ثقل، جوح.. إلخ). ولم يصحّح له الزَبيديّ ذلك، ولم يكن في الأمر خطأ مطبعيّ.

أما ذاك التفريق بين البسيط والمركّب فلا نلتفت إليه لافتقاره إلى السند، وأمّا الأستاذ الجامعي فلعلّه متأثّر بالحريريّ في «درّة الغوّاص» الذي أخطأ، إذ خطّأ التكرار في غير الإضافة إلى الضمير.

ومعروف أنّ «بَيْن» ظرف يدلّ على ما يتوسّط شيئين أو موضعين أو زمنين، أو يكون مشتركاً بينهما، وقد تجيء «بَيْن» ظرفاً مجازيّاً يدلّ على علاقة اشتراك أو تضادّ.

فإذا كان التوسّط بين أشياء متماثلة أضيفت «بَيْن» إلى المثنى أو الجمع، نحو: بين القصرين، بين الأشجار. وقد يقال: بين آونة وآونة، وبين لحظة وأخرى، بعطف المتماثلين أو ما ينوب عنهما، لكنّه قليل.

أمّا إذا كان التوسّط بين أشياء متعدّدة مختلفة فإنّ «بَيْن» تضاف إلى مركّب عطفيّ، نحو: حَكَم القاضي بين المرأة وزوجها وأبيها، وكأنّ المنشئ يقول: حكم القاضي بين ثلاثة أشخاص: المرأة، إلخ. لكن حين يكون التوسّط بين شيئين مختلفين يدلّ عليهما اسمان ظاهران، فالأكثر إضافة «بَيْن» إلى مركّب عطفيّ، كالذي في الجمع، ومثاله قول الآية :«يخرج من بين الصُلب والترائب»، وكأنّ الأصل: بين موضعين هما الصلب والترائب. و«بَيْن» تُكرّر دائماً إذا أضيفت إلى ضمير، لامتناع العطف على الضمائر المجرورة أو عطْف الضمائر على مجرورات، وقد مثّلنا لذلك ابتداء. لكنّهم كرّروها أيضاً مضافةً إلى اسمين ظاهرين، وهنا القضيّة.

الحقيقة أنّ هذا الظرف لم يكرَّر في القرآن الكريم إلاّ وقد أضيف أحدُ المكرّرين أو كلاهما إلى ضمير، على ما سبق، لكنّ في الأحاديث النبويّة تكراراً متعدّداً لـ«بَيْن» مضافة إلى اسمين ظاهرين، سواء كان المضاف إليه بسيطاً أو مركّباً. ولعلّ أشهر الأحاديث، في هذا الشأن، هو:«بَيْن العَبْدِ وبَيْن الكُفْرِ تَرْكُ الصَلاةِ» برواياته المتعدّدة، ومنه في الأثر أنّ الرسول كان:«يَسْكُتُ بينَ التكبيرِ وبينَ القراءةِ إسْكاتةً».

ومن الشعراء الذين استخدموا هذا الضرب من التكرار امرؤ القَيْس وكَعْب بن مالِك وأبو دواد واللَعِين المِنْقَريّ والسيّد الحِمْيَريّ ومُليْح الهُذَليّ والمتنبي، وغيرهم كثيرون، فضلاً عن الأربعة الذين أومأ إليهم المؤلّف المارّ ذكره ابتداء، ونكتفي بامرئ القيس والمتنبي شاهدين. يقول الأوّل في معلّقته المشهورة:

قَعَدْتُ لَهُ وصُحْبَتي بَيْنَ حامِرٍ
وبينَ إكامٍ، بُعْدَ ما متأمَّلِ

وقال الثاني أبياتاً على هذا النسق، ومنها:

وبَيْنَ أَعْلاهُ وبينَ الأَسْفَلِ
شَبِيهُ وَسْمِيِّ الحِضارِ بالوَلي

وقد نسب الجاحِظ إلى ابن المقفَّع نصّاً يقول فيه: «وفرْقٌ بين صَدْر خِطبة النكاح وبين صدر خُطبة العيد». واستخدم سيبويه هذا الضرب من التكرار نحو ستّين مرّة في كتابه، وكان استعماله له بعد أفعال فرّق وفصَل وأشرك وأشباهها، ومن ذلك قوله: «لأنّك قد فصَلتَ بين المبتدأ وبين الفعل». واستخدمه الجاحِظ سبع مرّات في الجزء الأوّل وحده من كتاب «البيان والتبيين»، في إحداها قول ابن المقفع السابق ذكره، وفي أخرى خُطبة للنبيّ، وفي ثالثة قولٌ لأبي عُبيدة الراوية، فضلاً عن أقوال للجاحِظ نفسه، ومنها:«وما الفرْق بين أشعارهم وبين الكلام». واستعمل الواحديّ هذا الضرب بكثرة في شرحه لديوان المتنبي، وبدا مفضّلاً له على الضرب الآخر، كقوله مثلاً: «يقول: سيوفه فرّقت بين رءوس القوم وبين أبدانهم»، كما أكثر ياقوت الحمويّ من استعماله في «معجم البلدان»، كقوله متكلّماً على أَلْيَل: «موضعٌ بين وادي يَنْبُع وبين العُذَيْبة».

وفي النتيجة، فإنّ الأكثر عدم عطف «بَيْن» المضافة إلى اسم ظاهر، على «بَيْن» أخرى مضافة إلى اسم ظاهر أيضاً، علماً أنّ التكرار هو الأصل، خلافاً لرأي الحريريّ، وإن كان استعماله أقلّ، لميل الناس إلى الإيجاز، فاستعماله ضرب من تكرار الجارّ بعد العطف، وعدمه ضرب من حذف الجارّ إذا أُمن اللبس، وذلك شبيه بقولنا: عند جميلٍ وعند سعيدٍ خبرٌ سارّ، أو عند جميلٍ وسعيدٍ خبرٌ سارّ. والحذف لاحقٌ لا أصلٌ. ويُستحسن التكرار إذا خيف اللبس، أو استدعت التكرارَ ضرورة أسلوبيّة.

ومن الخطل الحكم على الأمر من غير استقراء الشواهد الممكنة، كالاكتفاء بمادّة واحدة من معجم، أو كإهمال النصوص الحيّة الموثوقة. والأخطر من ذلك أن تُبنى استنتاجات على الاجتزاء، كأن يُزعم، من غير أي بيّنة، أنّ لغويّاً متأخِّراً صحّح لِلغويّ وسيط، ثم أن يُنقَض ذلك الزعم ويرجَّح الخطأ المطبعيّ، كأنّ الخطأ عمل الطابع لا عمل اللغويّ.

إنّه أسلوب التحكّم والتسرّع، مع توهّم الصواب، وهو أسلوب ينبغي تجنّبه، وتجنيب المستعمِلين أخطاره.

 

 

مصطفى الجوزو