جمال العربية

جمال العربية

الفيتوري واكتمال الدائرة الإفريقية
«عُريانًا يرقصُ في الشمس»

بصدور الديوان الجديد «عريانًا يرقصُ في الشمس» يكون الشاعر السوداني الليبي المصري محمد الفيتوري قد أكمل دائرته الشعرية، التي ابتدأت بصدور ديوانه الأول «أغاني إفريقيا» في منتصف خمسينيات القرن الماضي، فدواوينه المتتابعة: عاشق من إفريقيا، اذكريني يا إفريقيا، ومن بعدهما: سقوط دبشليم، البطل والثورة والمشنقة، ابتسمي حتى تمر الخيل، أقوال شاهد إثبات، معزوفة لدرويش متجول؛ وصولا إلى دواوينه: شرق الشمس غرب القمر، يأتي العاشقون إليك، قوس الليل قوس النهار، أغصان الليل عليك، في كل هذه الدواوين ظلت إفريقيا في القرار البعيد من أعماق رحلته الشعرية وانجذابًا دائمًا إلى مأساة الإنسان الأسود في مواجهة طغيان الإنسان الأبيض ونزعته الاستعمارية، وصورًا شعرية نازفة، تظهر وتختفي، تطفو على السطح وتغيب في البعيد، حتى كانت مجموعته الشعرية الجديدة: «عريانًا يرقص في الشمس»، فإذا به - عبر قصائدها يعود إلى انتمائه الأول والأصيل: مأساة قارته الإفريقية وإنسانها الأسود المضطهد والمستعبد، وكأنه يهدهد من جديد حلمه القديم، في عالم كان يتوق إلى الحرية والخير والعدل والجمال.

ها هو ذا يهدي ديوانه الجديد إلى: «فيلكس دارفور، هذا هو الاسم البديل، القناع المزوق، الذي نسجته الأقدار حول وجهه، والذي أخذ صورته ومعناه داخل دائرة التاريخ».

ثم يقول: «وليس عندي أدنى شك، بأن اسمه المجهول ذلك الذي أسقطته عنه سنوات العبودية، وعذابات المنافي البعيدة، إنما كان رمزًا حيًّا ومتفاعلاً مع أحداث عصره، نظرًا لما كان يرتكز عليه من إيقاع دامٍ، وإيحاءٍ غامض، وأبعاد اجتماعية وإنسانية لا يمكن تصوّرها.

هل كان اسمه الحقيقي ماكاي أو نمر أو عرمان ربما تام تام؟

أما دارفور فهي ذاتها، تلك الملايين من الغابات والأنهار والمدارات الإفريقية السودانية.

تلك القوى الغامضة، والحضارات المنسية، وأيضًا تلك الأصوات المعذبة، التي مافتئت تُدوّي داخل جمجمة رأسي وتجاويف عظامي».

ثم ها هو ذا صديقه منصور الرحباني يقول عنه في الفاتحة الضوئية للديوان: «هذا هو الفيتوري مجردًا من أية إضافات. إنه هو كما عرفناه، منذ ما قبل خمسين عامًا، منذ إطلالته في «أغاني إفريقيا» تلك التي أثارت ما أثارت من مواقف مضادّة، ومواقف متعاطفة، ومن آراء وأيضًا من اتهامات.

إنه هو ذاته الطالع من أساطير إفريقيا، تلك القارة التي مازالت تحيط بها ظلمات الجهل وآفاق الاستغراب، وأيضًا غابات غيومها وآفاقها ونماذجها الغريبة والشاذة في رؤيانا أحيانا، وأعني غاباتها الاستوائية».

ثم يقول: «كائن مستوحش يعيش في عوالمه الداخلية تلك العوالم اللامرئية والشديدة الغموض، والتي قد لا يدركها هو بنفسه رغم أنها تعيش فيه، وتنبع منه، وتشكل رؤياه في تصورات الكون من حوله، أعني أن لا شيء في هذا الفيتوري الذي نراه، ونتشارك معه، ونشاركه أيامنا وأحلامنا وأوهامنا.

بل لا شيء إلا الحزن والشعر. بلى، الحزن والشعر القاتل والمثير للأحزان والكآبة في الآخرين».

هل تصلح كلمات منصور الرحباني مدخلاً يفضي بنا إلى دهاليز هذه القصيدة؟:

ذات يومٍ تعود الطيور مغرّدة في سماواتها
وتعود النجوم تراقصُ في الليل أطيافها
ويظلّون هم حيث هم، قببٌ رثّة تتبّخرُ في ذاتها
وهياكل في نفقٍ حجريٍّ مُجلّلةٌ بالتراب
فابتسمْ..
إنها الشمسُ تغرق في طبقات السّحاب

***

ابتسم للحضور، ابتسم للغيابْ
ابتسم للبكاءِ، ابتسم للعذابْ
ابتسم للجنون، ابتسم للخرابْ
ابتسم للغزاة، وهم يُقبلون
للعبيد الطغاة وهم يزحفون
للطغاة العبيد وهم يبطشون
ابتسم غضبًا
ابتسم لهبًا
إنّ حزنك أكبر منكَ
وأعمق مما يرى الميّتون
وتعود تسائلُ نَفْسكَ
عنك، وعنهم
وكيف تراهم هنا وهناك
وكيف يرونك فيهم
وأيُّ الشبيهيْنِ:
حَجَّ إلى الموبقاتِ ذليلا
وداس قبول النبييْن جيلاً فجيلا؟

***

تُراه العتيق الأنيق المكفّنُ بالثلج والعاج
أو حامل الخنجر الخشبيّ اللصيق على صدره
أو تُراه المقنّعُ بالدم والنار في ساحة القدْس
أو وارث الشعب والعرس والتاج؟
لا، لا تقل، ربّما كان أو لم يكنْ
لا تقل ربّما هان أو لم يهنْ

***

وتظلُّ تسائلُ نَفْسَك
أيهما خان أُمته قبل صاحبه؟
وكأنّ الخيانةَ غير الخيانة
وكأنّ الإهانة غير الإهانة
وكأن الذي جاء من بعد
غير الذي قيل من قبل
والبحر في الرمل كالرمل في البحر
والصخر في العشب كالعشب في الصخر
والبعد في القرب كالقرب في البعد
والشيء سيّان
والحقّ في شِرْعة الظلم حقّانِ
والعدل في لغة القهر عدلان
والموتُ كالموت سيّان

وهي قصيدة من بكائيات الفيتوري العميقة ومخزون أحزانه الضارية، تتصل بسبب وثيق بمقطوعة أخرى في ديوانه عنوانها «لماذا»، وفي القصيدتين لغة الفيتوري المحكمة، وأفقه الشعري الباذخ وفضاؤه الممتد الشاسع، وقدرته الفذة على التصوير والتجسيد. يقول الفيتوري:

لا تقل ليتني أبدًا لم أكنْ
ربما كنت أو ربّما لم تكنْ
أنت هذا الذي اختزن الصّرخات العميقة في رُوحه
والكآبةَ والصمت والضحكات
ربّما لم تكن أنت هذا الذي
يشهق الآن في شفتيْك
ويرقصُ كالنار في شجر الكلماتْ
هل تُراك عرفْتَ إذن من تكون؟
وكيف استحالت معانيك في ظلمة الكائنات
والديانات ضائعة الخطوات
والعدالة مطفأة الشرفات
والطواغيت مسعورة الشهوات
ولماذا بربِّك
يا ضائع العمرِ
تستبقُ الذكريات!

ثم نمضي مع الفيتوري وقصائد ديوانه الجديد: «عُريانًا يرقصُ في الشمس»،نعيش في ظل هذه الشاعرية اللافحة، التي تتوهج بعُرام الروح الإفريقية الساكنة في أعماقه، والمشتعلة في قلبه ووجدانه، والقصيدة بوصفها عنوانًا للديوان هي مفتاحه وسرُّ أسراره، وهي المُفْضية إلى طبقاتٍ عميقة وكثيفة في تكوينات الشاعر الأولى، وعودته إلى زمن الصبا والطقوس القديمة، والتعاويذ المعلقة في الرقاب، والطحلب الميت النابت فوق السقوف، وجنون المغنين في سنوات البكاء، وانكسار جرّة المجد في الشرق. يقول الفيتوري:

لم تجئْ مثلما حلمت بك دنياك
قبل انطفاء عيون الدمى، واشتعال جلود القرابينِ
جئْتَ سماءً من الشفق القرمزيّ، وبرق المحيطات
عريان كالشمس في رقصة الشمس
مختبئًا في معانيك..
خلف زجاج العيون، ومنحنيات المرايا
مثل روح بدائية، لبست شكلها الميّت الحيَّ
ثم مضت تتحسّسُ غُربتها في وجوه الضحايا
مثلما انحرفت في عظامك أطياف ماضيك
مثل طيور الدجى الاستوائيِّ
مصطفة كلماتك، فوق مقاعدها الحجرية
شاخصة فيكَ
فاتحةً صدْرَها للمنايا!

***

هو ذا الطحلبُ الميت، يُنبتُ فوق السّقوف
ويُزهر في الشرفات
وها هي ذي صخرة المنحنى
ترقبُ الموجَ فيك
وتغرق مثلك في لُجة الذكريات
لم تعد غير أذرعة الغارقين
وأشرعة السّفن الجانحات
تُلوّح نائيةً،
والفضاءات مغلقةٌ
والعواصف تقتلعُ الصخر والبحْرَ
والصلوات التي فقدت طهرها
فقدت في السماء طهارتها
واستحالت حناجر مسكونةً بالدماء
وإغماءة الراقصين على الطرقات
وأغلالهم حول أعناقهم
وجنون المغنين في سنوات البكاء
ربما لم تكن
ربما كنت غيركَ
في حيثما انكسرت جرّة المجد في الشرق
وانمسخت آية الله في الغرب
واندثرت بذرة الضوء في فجوات الزّوال

***

بعض شعرك ما لم تُعلّقهُ تعويذةً في الرقاب
ليصحوَ في صوتك الميّتون
وما لم تُنقّطه في قطرات السحاب
لينهمر النهر والسّابحون
وما هو معنى حضورك عند الغياب
ومعناك في الغيب عند حضور السؤال

***

بعض حُبّك ما هو مخضوضرٌ
مثل وشم السّنين على كتفيْك
وما اختزنتهُ عصورُ الكآبة في شفتيْك
وما هو سرُّك في الآخرين
ليصبح سرُّك وقْفًا عليك
وتصبح آلهة القبح فيك وعندك
آلهة للهوى والجمال

***

بعض حزنك
أنّ الطقوس القديمة، ما فتئت هي
ذات الطقوس القديمة
أضرحةً من رخام
وبضْع عظام
تُسيّجها صلوات العبيد
وتعنو لها كبرياء الرجال
وأشباح آلهةٍ تتصاعد نيرانُها
في رءوس الجبال

***

بعض سرِّك ما لم يزل كامنًا فيك
يُطلقُ شهْقتهُ في الأغاني
ويحبس نظرته في الجموع
وقد يتحدّر في مُقلتيْك
ويركضُ في خطواتك
أو يستحيل جنونًا إذا غالبتْك الدموعْ!

***

بعض عُمركَ ما لم تعشْهُ
وما لم تمتْهُ
وما لم تقُلْهُ
وما لا يُقال
وبعض حقائق عصرك
أنك عصرٌ من الكلمات
وأنك مستغرق في الخيال!

الفيتوري في ديوانه الجديد: «عُريانًا يرقص في الشمس» يُطلق بكائية هائلة، ويذرف ما تبقى له من دموع، ويشعل نيرانه الأخيرة، المتبقية من حرائق المرحلة الأولى من شعره، متجها بالخطاب الشعري إلى معشوقته «إفريقيا» وهو يقول:

إنّي هنالك حيث تَكونين أنتِ هنالك
ليلُ اغترابكِ فجرُ اغترابي
عار اغتصابكِ نار اغتصابي
تُزيحين أقنعة الصمت عني
أزيحُ براقع قهريَ عنكِ
تضيئين في ظلماتي أضيء
تغنّين في كلماتي أُغنّي
وأعلم أيتها الأمُّ
أنَّ غيابي فيك .. اكتمالُ حضوري
وأنَّ حضورَكِ فيَّ اكتمالُ غيابي!.

-------------------------------------------

لو كان قلبي معي ما اخترتُ غيركمُ
ولا رضيتُ سِوَاكُمْ في الهَوى بدَلا
لكنهُ راغبٌ في منْ يعذّبه
فليسَ يقبل لا لوماً ولا عذلا

عنترة بن شداد

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات