رسالة إلى

الأستاذ والبلياتشو

"هذه مجموعة من الرسائل كتبتها ولم يقدر لها أن تصل إلى أصحابها والحمد لله"

سيدي.

ما أبعد الشقة بين الظاهر والباطن.

وما أبعد المسافة بين النظرة الأولى والنظرة الأخيرة.

وما أوسع الخلف بين ما يراه منك عامة الناس وما يعرفه عنك الذين خالطوك وعاشروك.

هل إلى هذا المدى يمكن أن يختلف ظاهر عن باطن؟

إنك أستاذ كبير وإنك في الوقت نفسه " بلياتشو " من طراز فريد. هل يمكن أن يخطر على قلب أحد أن يجتمع هذان الصنفان: الأستاذ والبلياتشو في شخص واحد؟ ولكنك أنت استطعت أن تجمع بينهما في واقع الحياة نفسها فلم يقتصر الأمر على مجرد خاطرة تخطر على الذهن أو على الفؤاد.

يا سبحان الله.. هل أنت هو أنت ذات الشخص الذي كنت أسمع اسمه منذ عدة سنوات خلت، فلا يوحي لي اسمه إلا بالعلم والشهامة والكرم إلى المدى الذي كنت فيه حريصا على أن أعرفك عن قرب - على عزوفي عن معرفة كثيرين من الناس - ظنا مني أن معرفتك عن قرب هي كسب كبير في سوق الرجال، ذلك السوق الذي لم يعد عامرا إلا بأشباه الرجال ولا رجال.

الكل باطل

والثقينا بعد ذلك كثير، والتقيت في بيتك ببعض من يسمونهم كبار القوم، والتقيت في بيتي بمثلهم، وجمعتنا لقاءات عمل كثيرة، ومضت عدة سنين واختلفت أمور وتغيرت ظروف عديدة، ورأيت نفسي أخيرا، أقف مع نفسي لأسألها: " وماذا كان الحصاد؟ ".

وإذا بي أقبض يدي ثم أفتحها على لا شيء. وأذكر تلك العبارة من عبارات الإنجيل التي تترجم ما نحن فيه - تلك العبارة التي تقول " الكل باطل وقبض الريح " أي أن كل شيء في هذه الدنيا لا معنى له ومثله مثل القابض على الريح. وقد لا أصل إلى هذا المدى في التشاؤم بالنسبة لأمور الدنيا كلها ففي الدنيا كثير من الخير، ولكن وبغير أن أتجنى عليك أسأل نفسي بعد هذا الزمن وهذه السنين: ماذا بقي منك أو ماذا يمكن أن يبقى منك؟ فلا أجد إلا جوابا واحدا هو: الكل باطل وقبض الريح.

أقصى ما قد تصلح له أن تدير مكتبا للعلاقات العامة يعتمد على " الفهلوة " أكثر من اعتماده على التنظيم. ولكنك استطعت عن طريق العلاقات العامة أن تصل إلى حيث وصلت من مركز علمي واجتماعي أكثر ضخامة من أي " بالونة من بالونات الهواء " ومازلت تواصل سعيك نحو الوصول إلى ما لم تستطع أن تحققه من " منصب " يبدو لك من بعيد كبيرا وما هو بالكبير، ويخيل إليك أنه عزيز وما هو بالعزيز. ولكنك لا تلوي على شيء ولا تسمع لأحد، فإن ما بلغت من علم وجاه ومال لا يرضي جوع نفسك وظمأها، ذلك الذي لا يهدأ ولا يستقر ولن يهدأ ولن يستقر حتى يقتض له أن يحقق ما تتلهف إليه نفسك ويصبو إليه فؤادك وتتطلع إليه جوارحك جميعا.

القرب من السلطان

لكم كنت أضحك وأنا أنظر في رسوم فنان الكاريكاتير مصطفى حسين عن " عبده مشتاق " الذي لم ييأس قط ولم يقنط أبدا من الإعلان عن نفسه وعن استعداده بكل وسيلة وكل سبيل. وما أكثر ما كنت أذكرك وأنا أتمتع برؤية ذلك " الكاريكاتير " الذي أكاد أثق ثقة لا حدود لها أنه يثير فيك الهم والحزن والشجون.

ما أنت فيه يا صاحبي يفتقده الآلاف المؤلفة من البشر الذين ينظرون إليك بإكبار وإعجاب كما كنت أنظر إليك منذ بضع سنين. ولكن هذا الذي أنت فيه لا يملأ نفسك ولا يرضي قلبك ولا يشبع غرورك ولا يجعلك تنام قرير العين.

إنك يا صاحبي تريد " السلطان ". حاشا لله، بل إنك تريد أن تكون قريبا من السلطان وتريد أن تصبح واحدا من هؤلاء الذين لا تني تدعوهم إلى موائدك العامرة ماداموا قريبين من السلطان، ثم تتناساهم رويدا رويدا - في غير فجاءة أو قطيعة فأنت أذكى من ذلك بكثير- فإذا بهم يختفون من على موائدك ما داموا قد اختفوا من دائرة الأضواء.

وأنت لا تعتبر بكثرة من يقتربون ثم يبتعدون. والكثرة الغالبة منهم صغار في قربهم صغار في بعدهم. لا يساوي الواحد منهم إذا اقتربت من حقيقته شيئا يذكر. ولكن كل هذا لا يعنيك في كثير أو قليل. فأنت تريد أن تكون واحدا من هؤلاء وأنت تشعر - ومعك كل الحق - أنك لا تقل عن أي من هؤلاء بل قد تزيد. ويقيني أنك في بعض جوانبك ترجح كثير منهم، ذلك أن الكثرة منهم وزنها هواء.

المشكلة الكبرى أنك لا تدرك أن الجميع قد عرف ذلك عنك وأنك قد أصبحت مثار همساتهم ولمزاتهم وضحكاتهم. وأن وصولك إلى حيث تريد أن تصل سيفقدهم شيئا لا يخلو من مسلاة وملهاة. وما أحرص الناس جميعا على أي مصدر من مصادر التسلية واللهو في هذا الزمان الذي امتلأ بأسباب الهم والغم والإحباط.

ومع ذلك فلا أحد يدري، فقد اختلطت الأمور في عالمنا العربي اختلاطا شديدا، ولم يعد هناك معيار واحد ثابت يمكن أن يقاس عليه. إننا نعيش يا صاحبي مرحلة عجيبة، صدق من قال عنها: إنها مرحلة القامات القصيرة والأحجام الصغيرة. وهي مرحلة تمتاز بأنها لا تطيق كل صاحب رأي، أو كل حريص على موقف، أو كل من تعني له الكرامة شيئا ذا بال. كل هذه " العينات " من الناس لم تعد مرغوبة ولا مطلوبة، وأصبح الصغار " والهيافة "- واعذرني إذا لم أجد كلمة غيرها تعبر عن معناها، وما ذلك إلا لقصور مني في الإبحار في اللغة - هي التي تقدم أصحابها وترشحهم للسلطان وذوي السلطان.

الصاحب المغرور

وما زلت أذكر ذلك الحوار الطريف الذي جرى بينك وبين أحد الصحاب كان قد أبدى رأيا معينا لم يعجب ذوي السلطان، بل يبدو أنه لم يعجب السلطان نفسه - وهذه كبرى الكبائر - وقد كنت أنت في غاية الانزعاج من ذلك " الصاحب المغرور " وحاولت أن تحمله على الاعتذار أو العدول عما أبداه من رأى " غريب " وكنت تؤكد له أنه إذا اعتذر وعدل وتاب وأناب، فإنه واصل لا محالة إلى ما كان ينتظر أن يصل إليه، وحاورك صاحبك رافضا ثم لم يستطع أن يقنعك إلا بعد أن قال لك: هل تضمن " الوصول " بعد التوبة، أم أن الخسارة ستكون كاملة شاملة؟ خسارة الداخل وخسارة الخارج معا. وأعادك ذلك المنطق النفعي الرخيص إلى شيء من التفكير وشيء من الأناة. ومع ذلك فاذكر أنك قلت لصاحبك ذلك يومها: ولم لا إذا كان في توبتك رضى السلطان حتى وإن لم تنل منه شيئا.

يا لله. إلى هذا المدى وصل بنا الحال. لقد أصبح النفاق مطلوبا لذاته وأصبح الرأي مكروها لذاته. وأصبح كل شيء صغارا، في صغار.

واختفى ذلك الصاحب من على موائدك الحافلة، اختفى لأنه أراد ذلك ولأنك أيضا أردته.

وما أكثر من سيرد وردك من صحاب. وما أكثر من سيذهبون ويأتي غيرهم ممن يرضى عنهم من - يعنيك رضاهم. وما أكثر ما ستزداد نفسك فراغا، ويزداد خاطرك قلقا، إلى أن يشاء السلطان أو يشاء الله.

ولا حول ولا قوة إلا بالله.