الليبرالية فكراً وممارسة

الليبرالية فكراً وممارسة

الليبرالية هي اقتناع فكري ومفهوم اجتماعي، تؤمن به النخب الواعية في أي مجتمع، لإعلاء شأن الناس ومقاومة الاستبداد.

ظلت الليبرالية كنزعة تحررية مجرد أفكار نادى بها العديد من المفكرين عبر التاريخ منذ فلاسفة الإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد، وحتى القرن الثامن عشر، ولم تتحول الليبرالية إلى تيار فكري وتوجه اجتماعي يتعلق بممارسة السلطة وتنظيم المجتمع إلا بفعل تطورات عرفتها أوربا منذ عصر النهضة، فاكتسبت الليبرالية مفهومها الإنساني ونزعتها الفردية مع الحركة الإنسانية في القرن السادس عشر، وحققت نزعتها النقدية ونظرتها التحررية مع حركة التنوير في القرن الثامن عشر، وفرضت تصورها الاجتماعي بفعل تحولات الثورة الصناعية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، لتصبح في النصف الثاني للقرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تياراً عالمياً تجاوز خصوصيته الأوربية ليكتسب طابعاً شاملاً بفعل الاندماج الكوني الذي كرسه الاستعمار وأكدته الحركات التحررية وساعد عليه تطور المواصلات وتبادل الأفكار.

فأصبحت الليبرالية تعبيراً عن اقتناعات فكرية ومفهوم اجتماعي وموقف، آمنت به وعملت على تطبيقه القوى الدافعة للمجتمع والمتمثلة في النخب الواعية بمتطلبات عصرها والمؤمنة بدورها في صياغة مشروع «تنظيم للمجتمع وبناء الدولة الحديثة» ينطلق من خصوصية الفرد كمواطن وينتهي بضمان إرادة الشعب صاحب السيادة الحقيقية، ويمس جوهر العلاقات الاجتماعية والنشاطات الاقتصادية والفكرية، بحيث أصبحت الليبرالية بمفهومها العالمي ونزعتها الإنسانية التحررية (Libéralisme) مناهضة للنزعة الاستبدادية (Autoritarisme)، سواء كانت هذه النزعة تعبيراً عن الميول الاشتراكية أو الأفكار المحافظة اليمينية منها والقومية، أو تكريساً لتقاليد الحكم الفردي بجميع أشكاله.

منهج الليبرالية

تمارس الليبرالية كمنهج عملي لمؤسسات الدولة ومحفز لقدرات الفرد ومفعل لطاقات المجتمع بالالتزام بمبادئ منظمة للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أهمها:

1 - الإيمان بالنزعة الفردانية القائمة على حرية الفكر والتسامح واحترام كرامة الإنسان وضمان حقه في الحياة، وهذا ما يشجع على رفض اليأس والحقد والتعصب ويدعو إلى التفاؤل والتفتح للمستقبل.

2 - تكريس المساواة واعتبارها أساساً للتعاون ومنطلقاً لاحترام الآخر، فتحقيق المساواة وضمان حرية الفرد هي أسس الديموقراطية الليبرالية التي ترفض إقرار الامتيازات الوراثية خارج التفاوت الاجماعي في المكانة والمركز، بحيث تضمن المساواة لكل واحد أن يصل إلى كل الوظائف وإلى كل المميزات حسب اقتناعات طوكفيل.

3 - الأخذ بالمنافسة الحرة واحترام حرية المبادرة، بحيث لايكون للدولة أي دور في العلاقات الاجتماعية أو النشاطات الاقتصادية إلا في حالة إلحاق الضرر والإخلال بمصالح الفرد أو المجتمع.

4 - العمل على تكريس سيادة الشعب عن طريق الاقتراع العام باعتباره تعبيراً عن إرادة الشعب ووسيلة فعالة لتخليص المجتمع من العراقيل والضغوط والفساد، وهذا ما عبّر عنه الزعيم الليبرالي الفرنسي ليون جومبيطه (L. Gambetta) سنة 1869 في مخاطبته للبرلمان بهذه العبارة: «أعتقد ألا سيادة لغير الشعب، وأن الاقتراع العام هو أداة هذه السيادة والذي لا يكون له قيمة إلا إذا كان حراً بأتم معنى الكلمة، وفي اعتقادي أن الديمقراطية القانونية والأمنية هي وحدها الكفيلة ببعث نظام سياسي يمكن من تحقيق التحول المعنوي والمادي لأكبر عدد من المواطنين وضمان العدالة الاجتماعية أمام القانون...».

5 - رفض ممارسة السيادة خارج المؤسسات، لكون تلك المؤسسات هي المعبر عن إرادة الشعب، ولهذا يتوجب فيها ألا تصنع حسب المقاس ولا تصاغ اعتماداً على مصالح خاصة، بل يحترم فيها مبدأ فصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، ولا تخضع للتعديل إلا من أجل ضمان الحريات الفردية والحد من الامتيازات الخاصة، وهي ما يجعل من الديمقراطية واقعاً يعيشه الشعب وتتوجب المحافظة عليه بإشراك أفراد الشعب في الحياة العامة، لأن المبالغة في الفردانية حسب طوكفيل تؤدي إلى الانعزال وترك الساحة فارغة لممارسة الاستبداد باسم المصلحة العامة والقضاء على المساواة بتركز السلطة في أفراد يحتكرونها، والفردانية حسب طوكفيل هي صدأ المجتمعات الذي يمهد الطريق إلى نظام الدولة (ETATISME).

نموذج لممارسة الحكم

إن الليبرالية بهذه القيم والممارسات هي استجابة لحاجات الأفراد ومجاراة لميول المجتمعات، ومحاولة لإيجاد توازن في حياة المجتمع انبثقت من تجربة تاريخية طويلة اعترتها انتكاسات وواجهتها مخاطر وهددتها الأفكار الطوبائية، والزعامات الفردية والشعارات الشعبوية، لتفرض نفسها كنموذج ناجح لممارسة الحكم وتنظيم المجتمع وحماية الفرد، وهذا ما يجعل منها اليوم بالنسبة للشعوب العربية خياراً مطروحاً، كما كانت بالنسبة للمجتمعات الأوربية في فترة سابقة خياراً صعباً وتحدياً قاسياً، وهذا ما عبر عنه أليكسيس دو طوكفيل في النصف الأول من القرن التاسع عشر بقوله: «ثورة ديمقراطية كبيرة نعيشها اليوم، الكل يراها، ولكن يختلف في كيفية الحكم عليها، وهي ليست خاصة بفرنسا وحدها، ففي أي جهة سرحنا نظرنا نجد الثورة نفسها تجتاح العالم المسيحي، وفي أي مكان نرى مختلف الأحداث تخدم هذه الديمقراطية، إن النمو المستمر للمساواة، يتصف بالشمول والدوام والخروج عن القدرة البشرية، مع أنها تستفيد من الزمن والأحداث ومجهودات الرجال، فهل يمكن لحركة اجتماعية بهذا العمق أن يحول دونها تضافر جهد جيل من الأجيال؟ وهل يمكن أن نفكر بعد أن دمر الإقطاع وقهر الملوك أن الديمقراطية سوف تتراجع أمام البورجوازيين الأغنياء؟ وهل تتوقف الآن بعد أن أصبحت بهذه القوة وأعداؤها بهذا الضعف?! إلى أين ذاهبون؟! لا أحد يستطيع القول.. إن ضخامة ما أنجز يمنعنا من توقع ما يمكن أن يحدث في المستقبل..». إن مرور أكثر من قرن ونصف القرن على هذه الرؤية يسمح لنا بالقول إن الغرب حقق قوته وضمن سيادته ونظم مجتمعاته بفعل الممارسة الليبرالية وتطبيقها عمليا في نسختها الديمقراطية، ومع ذلك يبقى السؤال مطروحاً على الشعوب العربية وكأن كلام طوكفيل موجه لها، فعسى أن تستفيق من غفلتها وتتعرف على واقعها وتحدد اختياراتها وترسم آفاق مستقبلها.

 

 

 

ناصر الدين سعيدوني