قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
----------------------------------------

«أيتها النائمة» لأحلام بشارات تحكي بصورة مواربة عن حدث الموت الصاعق الذي يقع على الأخت أو الصديقة المقربة. وتتخذ الكاتبة من تقنية الرسالة طريقة للتعبير عن شعورها العارم بالفقدان من خلال مخاطبة الميتة في رسالة تبعثها إلى السماء. تتميز القصة بقدرة على المزج بين الذكرى والوصف التفصيلي للحكايات اليومية التي جمعت الراوية والميتة. إنها قصة غاية في الرقة والعذوبة وتفتيق ثنيات الحزن المطوية بعناية داخل كل منا.

تتخذ قصة «إصرار» لصالح القاسم من قوة العزيمة مادة لها تنسج منها حكاية قصيرة مكثفة مختزلة. من خلال الوصف الدقيق لرحلة الرجل وحماره بحثا عن جذع شجرة يحتطبه الرجل. ويتميز أسلوب الكاتب بنوع من المتابعة السردية الحثيثة للجو العاصف وسقوط الثلج المتتابع والوهن الذي يصيب الرجل وحماره في رحلتهما الصعبة في عالم يكتسي بالبياض ويهدد بالموت. إنها قصة مكثفة تدرك معنى القصة القصيرة وكثافة عالمها وطاقتها الفياضة التي تنبع من تركيزها بؤرة عدستها على خيط دقيق من الأحداث، ليصل الكاتب في النهاية إلى لحظة التنوير النهائية.

تنتمي قصة «أمسية ثقافية» لتوفيق باميدا إلى أدب العبث، إلى نوع من الكتابة التي تذكر بتفاهة الوجود وعبث الشرط الإنساني، مقتربة من عوالم ألبير كامو وجان بول سارتر وصمويل بيكيت. وهي تستخدم أيضا رمز الذباب الذي يحيل على مسرحية «الذباب»، التي كتبها الفيلسوف والأديب الفرنسي جان بول سارتر، إنها قصة تحمل نقدا مواربا لفعل الكتابة، والعيش، والوجود الإنساني، كما تحمل سخرية مرة من غياب التواصل بين البشر.

قصة «حياة» لحنان عبد الغفار أيضا تحكي عن عبث الوجود، عن الوحدة التي تطحن البشر والعزلة التي تفرضها الحياة عليهم، كما يفرضونها هم على أنفسهم. وتلعب القاصة على التناظر الذي يقيمه في قلب قصته بين اسم الشخصية في القصة واسمها «حياة» والحياة بمعناها الواسع. واللافت في القصة أن الكاتبة نبدأ الحكاية من تفاصيل الحياة اليومية، إنها قصة تتمتع بالبساطة في الوصف والتأمل، ولكنها تتمتع بقدرة عميقة على الإيحاء والإشارة إلى معنى الحياة الذاهبة المنصرمة.

تسعى قصة «النقار» إلى التعبير بصورة مجازية عن ثنائية العيش والموت، وقوى الطبيعة الخيرة في مقابل قوى الشر والموت والاستبداد، من خلال حفار القبور الذي يرمز للموت والتجبر والاستبداد ويرغب في إبادة طائر النقار الذي ينظف الشجر والطبيعة من الديدان الضارة. الكاتب يعبر بصورة غير مباشرة عن التوازن القائم في قوانين الطبيعة بين الحياة والموت، وعن تدمير الطغاة لهذا التوازن المحسوب الذي يجعل الحياة ممكنة.. القصة تنتمي إلى الأدب المجازي الذي يحكي قصصاً على لسان الحيوان، ومن خلال حبكتها المجازية تنجح في إيصال رسالتها ضد الشر والقهر والاستبداد والحرب والرغبة في قتل الحياة.

--------------------------------------

أيتها النائمة
أحلام بشارات (فلسطين)

أريد أن أخبرك ببعض التفاصيل التي حدثت بعد أن نمت:

زارتنا جارتنا أم عمران، وثرثرت كالعادة، سردت قصة طريفة ستعجبك، أنا آمنت بها شخصيا لأني شهدتها كما ستعرفين لاحقاً، قالت إنها رأت، ذلك المساء، امرأة ممددة مرسومة بالقطن في الجهة الغربية من السماء، تتوسد ذراعها اليمنى، وتفرد جسمها مثل حورية بحر لكن بلا ذيل، وأكدت أم عمران وهي تقسم باسم الله، أنّ السماء أمطرت ذلك المساء حين قامت الحورية لتغتسل، فكت أزرار ثوبها فاجتمع الضباب ليخبئ صدرها، وظل شعرها الأسود فقط مطلّا والسماء صارت تنثر مطرها مثل أجنحة الفراشات.

كنت البارحة في البيت أكنس أرضية المطبخ، واستطعت أن أرى أمك من الباب وهي تعقد ربطة شعرك بذيل القلب الأحمر الذي اشتريتِه أخيراً، كنت أراها تعتصر وتقاوم السقوط على الأرض، وصار الألم يبدأ حريقا في معدتي وينزل إلى الحوض، تفحصت البلاطات المورّدة، أعدت فرد الأوساخ التي جمعتها بعناية على الأرض لأنشغل بجمعها مجدداً حتى لا أضطر للوقوف أمام صورة أمّك، وهي تفك ربطة شعرك من جديد، وتعيد ربطها للمرة السابعة، وكي أهرب من نظراتها إن نظرت إليّ مجددا.

أمسكت الصحون، نظفت الأرزّ العالق، حبّات قليلة مغموسة بالبندورة وبقايا مقلي الباذنجان، فتحت حنفية الماء وتركته ينهمر، وحاولت أن أستعيد تلك اللحظة حين قبلتك يومها خلسة على خدك، ليس مهماً إن كان الأيسر أم الأيمن، كانت لحظة بريئة، بقيت تتذكرينها بجرأة على غير ما يحصل حين نصرّ على إخفاء عواطفنا الأكثر صدقاً، ستتأملين الكراسي المرتفعة التي جلسنا عليها في محل العصائر في جنين، شربنا عصير البرتقال، ونحن نجلس ونحرك أرجلنا التي صارت قصيرة فوق الكراسي الطويلة، ضحكنا، وضحكنا أكثر في الحافلة القديمة الصفراء وهي تهتز فنميل على بعض، ولم نكترث بتبرمات الرجل والمرأة اللذين كانا يجلسان في الكرسيّ الخلفي، ولا بشخير العجوز الجالس في الكرسيّ الأماميّ، كنا وحدنا من يثرثر.

كنتِ مستغرقة في النوم، كانت المرأة تتمتم، مددت يدي ومسحت عينيكِ، مددت يدي وسكبت الماء، هي قلبتك على كل الجهات، غسلتك جيدا كي لا يحاسبها الله، وقالت: حتى لا تخاصمني في النوم قلت لها إنني غير مستيقظة أيضاً، الحموضة اشتعلت، غلت الماء حتى تبخر، قالت لي: إنها مبتسمة، ترى سريرها، ترى لون الشرشف، ترى شكل الوسادة، ترى نافذة الغرفة، ترى ورود الحديقة.

كنتِ مبتسمة تماما، وإلى الآن أحاول أن أتأكد من حجم ابتسامتك تلك، إلى الآن، في الليل حين ينتشر الناموس في الغرفة، في النهار حين تندلع الشمس، في كل وقت لا يليق بتوقعات التذكر أعاين حجم ابتسامتك تلك، فأراك تمدين يدكِ لي، يدك اليمنى، تطلبين مني شيئاً، والآن، حين يتنسّم الجو فتمرّ قطع الهواء من النافذة الخلفية وتصير تلعب بالستارة القديمة، وحين أملأ إبريق الماء وأصير أرش وردات المخمل والصبار المرتّبة على جدار البرندة، أثور في وجه البراد والورد وأسأل:

«ماذا كنت تريدين من امرأة عليها أن تستمر غير نائمة؟»

توسعين لي قطعة الخشب، أتمدد إلى جانبك، تعرّيني المرأة من ثيابي، تضغط على معدتي لتخرج السوائل، تضع قطعاً من القطن في فتحتيّ أنفي وفمي، تقلبني على جنبي، تفرك جسمي بالرغوة، تغلسني بالماء، تلبسني الثياب البيضاء، ونسافر معاً في الطريق من المدينة أتكيء على ركبتيّ إلى جانبك، أظل أقرأ قريبا منك، على غير ما يحدث عادة لا أشعر بالدوار، سريعا تنتهي الطريق التي مررنا بها أكثر من مرة، حين كنا نزور المدينة لنشتري الثياب التي ظلت تملأ خزانتك، أحمل فراشك في كيس بلاستيكيّ، أقفز من السيارة و أتركك، أسرع لأفتح لك الطريق كي تسيري فلا يتسخ ثوبك الأبيض، كي لا يقترب منك طفل يحمل قطعة شكولاته، أو حشرة تتعلق بشعرك الذي تساقط بفعل الأدوية ولم يبق منه سوى خصلات تشبه شعرات نابتة في رأس طفل، يداك اللتان ضاقت شرايينهما بفعل الحقن، ساقاك اللتان خانتاك حين وصل المرض إلى النخاع، عيناك الواسعتان اللتان سقطت رموشهما، حاجباك اللذان يرتسمان مثل ظل أشقر باهت ورأيتك حين نظرت جهة الغرب، كنت تحت العريشة تماماً، النساء يملأن ساحة البيت، يصفقّن بأيديهن، يضحكن، يغنين، جهة الغرب ارتسمت امرأة بالقطن، صرت أنظر وأنظر، وعميقاً كنت تنامين، النساء صرن ينظرن، لم يثرثرن كعادتهن في الأعراس، أم عمران في هذه اللحظة لم تكن قد سردت قصتها العجيبة بعد، وبالرغم من هذا لم تسأل النساء لماذا ترحل العروس إلى السماء مثلاً، فمن عادة العرائس أن يذهبن إلى بيوت الرجال في كامل زينتهن، هذا ما حفظه تاريخ الفرح منذ العهد القديم، لذا فإن كل ما حصل كان منطقياً غير قابل للتصديق، وأنا مازلت ذاهلة حتى ساعة الكتابة إليكِ.

إصرار
توفيق باميدا (المغرب)

يوم آخر شديد البرودة، على نقيض ما صرح به المذياع فإن الشمس لم تطل من تحت السحاب الكثيف لتبث ألسنتها الدافئة عبر الوجود، فالثلج لا يزال ساطعاً بعناد فوق الأرض التي تناسى الناس كيف كان شكلها قبل أن تبيض.

بدت خطواته أكثر تهالكا وظهره أكثر انحناء وهو يخط طريقه، متبوعاً بحماره ذي المركبين الخشبيين، يجره بقوة من لجامه بينما تقبض يده الأخرى على فأس متوسطة الطول. عبر خيشوميه وفمه تتسرب أنفاسه الساخنة التي ما تكاد تلامس النسائم الباردة حتى تصير بخاراً.

الأفق الأبيض أمامه يزداد امتداداً واتساعاً، حتى التلال البعيدة باتت كشريط أبيض يؤطر النظر داخل لون واحد زاه. للحظة، قد يفكر في التنازل عما انطلق من أجله، لكن صورة أجساد أبنائه وهي ترتعش تحت البطانيات الثقيلة وعيونهم المتراقصة تحت ضوء الشموع الكئيبة جعلت كل شيء يبدو هينا.

في بداية الشتاء كثر الحديث بين الناس عن الصبية الذين ماتوا من شدة البرد في الجبال المجاورة، أحس بالقلق يستوطن كيانه، ثم تضاعف حين أبان الشتاء عن أنيابه الحادة. ألسنة اللهب كانت كفيلة بأن تصد الهواء البارد بعيدا عن بيته، لكن حين أتت النار على كل ما خزن من الحطب، تحول الكوخ الفسيح إلى ثلاجة تجعل كل من فيها يرتجف وأسنانه تصطك.

قبيل الفجر جر حماره وبدأ رحلته لعله يصادف أغصاناً متناثرة على الأرض، ولكن الثلج كان كثيفاً بحيث لم يكن ممكناً تمييز الأشياء التي يغطيها، والإقدام على الحفر سيكون مضيعة للوقت. المسيرة تطول ولا شيء يلوح فوق الأرض، التعب يزيد قدميه تجمدا والحمار أبان عن استسلام غريب وهو يصعد إحدى الربوات. راح يفكر في الأشجار التي تتناثر في المنطقة لعله يلمح إحداها في مكان قريب، بيد أن الوجود بدا صفحة واحدة بيضاء.

وحين لاح طيف اليأس قريبا منه، فراحت قواه تخور تدريجياً إلى حد أنه استأثر الموت فوق الجليد وحماره على الرجوع صفر اليدين إلى منزله، لاح في الأفق أمل جديد. كرة سوداء تقبع فوق تلة قريباً منه، حين بلغ القمة وجد كرته السوداء هي ضالته التي خرج ينشدها، جذع شجرة أو ما تبقى من الشجرة. بين الغبطة والنشوة وجد نفسه يهوي بكل قوته على الجذع، يضرب ويضرب ومع كل اصطدام بين هدفه والفأس كان جسمه يرتد بقوة إلى الخلف. ثم توقف ليكتشف أن فأسه لم تترك أثرا على الجذع، لقد كان متجمداً، متصلباً بفعل الصقيع والثلج.

لم يكن من حل أمامه سوى تسديد ضربات أكثر ضراوة، جمع أنفاسه وأحكم قبضته للفأس، رجع خطوة إلى الخلف وركز بصره على مكان محدد في الجذع. وقبل أن يهم بتسديد ضرباته أحس بنعومة وبرودة حبيبات الثلج المتساقطة على وجهه. ثم سرعان ما صارت الكتل البيضاء تتشكل فوق كتفيه ورأسه وظهر حماره، وفوق الأرض بأحجام أكبر. نظر صوب الأفق الذي بدأت معالمه تتبدل واستنتج أن الرجوع بعد دقائق سيكون صعبا.

حلق صوت فأسه وهي تهاجم الجذع عالياً مخترقاً مرة أخرى الصمت الأبيض، بضربات أقوى أدت أخيراً إلى إحداث شرخ صغير. توقف ليستجمع أنفاسه، أحس بسخونة في يديه، كانت تشققات رقيقة قد تقاطعت عبر راحتيه، ما لبثت أن احمرت وازدادت عمقاً واتساعاً، كان الألم يزداد حدة كلما زاد من شدة إحكام قبضته للفأس، بينما وجدت القطرات الحمراء مستقراً جديداً، قرب قدميه، مازجة بين حمرتها والبياض، مصرة على أن تلون الثلج بلون آخر.

لم يعد للألم وجود حين راحت صلابة الجذع تستسلم بخضوع للضربات العنيدة المتتالية، التي أرغمت الفأس على اختراق مركزه. هذه المرة لم يتوقف عن توجيه الضربات إلا حين رأى الجذع وهو يهوى صريعاً، صاح في غبطة بأعلى صوته ولكن الطريق التي جاء منه لم يعد لها وجود، تناثرت الكثبان الثلجية بأحجام يصعب اختراقها. شد الحمار من لجامه بعد أن ربط الجذع بحبل ثم مده ليلفه حول جسم الحيوان.

انغرست قدمه بعمق إثر أول خطوة، ثم تتالت الخطوات المصحوبة بآلام في اليدين المتشققتين، في الظهر وفي كل الجسم. هوى على ركبتيه، ثم نهض، ثم هوى من جديد، ثم هوى على وجهه. امتلك التعب كل جسده، خرت قواه عن آخرها. تمسك بعنق الحمار في محاولة للنهوض. تنفس بصعوبة، ثم واصل بصعوبة خطواته الثقيلة.

راحت صورة الأفق تتغير وباتت الأكواخ البعيدة تقترب وأبعادها تكبر. ثم وأخيراً..ومن وسط الصقيع المتخفي تحت الظلام الدامس، انبعثت نار صارخة تهب للمكان وأناسه دفئا ونورا.

أمسية ثقافية
صالح القاسم (الاردن)

يجلس المحاضر خلف الطاولة، يعـدِّل وضع الميكروفون، قبالة المحاضر بعض المدعوين، يُعدون على الأصابع، والذين تم تذكيرهم بموعد المحاضرة من اللجنة المنظمة، ومن المحاضر شخصيا أكثر من مرة.

جمهور المدعوين يبحلقون في المنصة، ينتظرون أن يبدأ المحاضر قراءة موضوعه الذي دعاهم إليه، وبعضهم راحت ذقونهم تسقط فوق صدورهم جرّاء غفوهم المفاجيء بين الفينة والأخرى، بسبب تسرب الملل فالتثاؤب فالنعاس، والشخير أحياناً، لقد أرهقهم طول الانتظار، أصبحت الساعة تشير الى الثامنة والنصف ولم تبدأ الأمسية بعد، كرر المحاضر على مسامعهم في كل مرة بأن حضورهم تشريف له، وأن المحاضرة سوف تكون شيئاً جديداً.

تسلل بعض الحضور تاركاً الأمسية دون اعتذار وصدر من بعضهم احتجاجات على هذا التأخير، بالرغم من أن اللجنة المنظمة ادّعت بأن الانتظار القليل كفيل بحضور جمهور أكثر:

(معلش) يا إخوان، هناك زملاء آخرون قد يحضرون.

لكن هذا القليل تجاوز الساعة، وجعل فتاة تتدخل - وهي بالمناسبة كانت الوحيدة بين الحضور: (يا أستاذ تأخرنا، أنا معزومة على حفلة عرس صارت الساعة تسعة مش معقول، خلصونا يلله بلشوا).

بعد هذه الفوضى، تناول عريف الأمسية الميكرفون وراح يرحب ويكيل المديح للمحاضر والحضور، مدة ربع ساعة تقريباً، وكرر كلمات الاعتذار عن التأخير أكثر من مرة، ثم انتقل الى المحاضرة ليأخذ نحو نصف ساعة أخرى، وهو يمجّد، ويمدح المحاضر الذي راح يعدل من جلسته كلما ذكر اسمه: إنه مؤلف معروف على مستوى الوطن العربي، وعلى مستوى العالم، وله العديد من الكتب المنشورة، والعديد من الدواوين المطبوعة، وشارك في أمسيات ثقافية لا تعد ولا تحصى، إلى غير ذلك مما لم يسبق لأحد أن سمع به، لدرجة أن الجميع قال : اففف ف ف ف ف ف.. طويلة جداً.

ما إن بدأ المحاضر بقراءة السطور الأولى من الورق الذي أمامه حتى فاجأته ذبابة، شغلته وشغلت الحضور، وهي تحوم بطريقة وكأنها تريد الانقضاض على المحاضر، حاول أن يتجاهلها، لكنها لم تسمح له، وراح يهشها، ويتنحنح، حتى صار تنحنحه يزداد، وترتفع وتيرته مع كل خبطة تلاحق الذبابة، نسـي الجمهور ما جاءوا لأجله، وراحوا يتابعون بتشوق ما يجـري أمامهم: ما مصير الذبابــة؟ وما مصير المحاضر؟

كانت الذبابة تطير ثم تهبـط، تهبـط مرة على أرنبة الأنف، ومرة على الخد الأيمن، ومرة على الخــد الأيســر الى غير ذلك من الأماكن، وفي كل مرة كان المحاضر يلاحقها بضرباتــه. بدا المحاضر مثل بهلوان يرقص في سيرك من كثرة الخبط، والكش والهش، والقيام المفاجيء، ثم الجلوس، ثم خلع القميص، وهكذا راح يلاحق الذبابة وهو يلوح بالقميص كأنه في رقصة دبكة.

ظل الجمهور في مكانه يراقب دون اعتراض أو مساعدة، ولولا إعلان عريف الأمسية انتهاء الوقت، لظلوا في مقاعدهم وكأنهم في فيلم سينمائي عن كش الذباب، ينتظرون ماذا سيفعل البطل؟.

حياة
حنان عبد الغفار (مصر)

«يا مسافر وحدك..يا مسافر وحدك.. وفايتني..»

دائماً ما ينطلق صوت المذياع من الشقة المجاورة لشقتي في ساعات مبكرة من الصباح..كأن جارتي السيدة حياة تريد بكل هذا الصخب أن تقتل وحدتها.. فمنذ عدت من الخارج وهى لا تكف عن تشغيل كل آلات المنزل الصاخبة وفي كل الأوقات حتى أنني لا أدري متى تنام..

«ليه تبعد عني..ليه تبعد عني..»

ولكن اليوم إجازة.. ولابد أن أحصل على حقي في الراحة.. فأمامي ستة أيام أخرى من العمل الشاق حتى تأتي العطلة القادمة.. قررت أن أذهب إليها وأطلب منها خفض الصوت قليلا ولكني ترددت .. فهي امرأة عصبية متقلبة المزاج وأنا لا أطيق جو الشجار والمشاحنات..

لم تكن السيدة حياة هكذا فيما مضى.. كانت رقيقة وجميلة ويغلب عليها الهدوء.. اعتدنا في طفولتنا أن نلعب سويا في الشارع - وقت أن كانت الشوارع آمنة - وعندما كبرنا وتخرجنا في الجامعة سافرت للعمل في الخارج.. كانت لدى أحلام وطموحات لا تنتهي.. ولم أسمح لنفسي بمجرد التفكير في الحب والزواج..استغرقت في رحلتى لتحقيق أحلامي خمسة وعشرين عاماً، وعدت.. وقد نجحت في تكوين ثروة علمية ومادية لا بأس بها بينما فشلت فشلا ذريعا في جمع أى ثروة اجتماعية..عدت لأجد حياة وحيدة.. حزينة.. غامضة.. ليس لدي أي فكرة عن التجارب التى خاضتها طوال السنين الماضية والتي غيرت من طباعها وملامحها..

ولكن صخب المذياع يصر على اختراق طبلة أذني ويوشك على ثقبها.. ومخزونى من الصبر والتحمل قارب على النفاد.. اتجهت لشقتها وضربت الجرس بشكل عنيف حتى تعلم أني غاضب، و لكنها ما إن فتحت الباب ورأيت نظرتها التي تحتوي على هدوء منذر بعاصفة سرعان ما بدأ غضبي يتهاوى.. وابتسمت ابتسامة متوجسة و عجز لساني عن الكلام، كنت أنتظر أن تبدأ هي بسؤالى عن سبب قدومي، ولكنها لم تفعل فما كان مني إلا أن تململت محرجاً ووسعت ابتسامتي قليلاً وقلت:

- هل.. هل من الممكن أن أطلب من حضرتك طلبا..؟

فلم تنبس ببنت شفة..فأكملت سؤالي قائلا:

- هل يمكنك خفض صوت المذياع قليلاً..؟

فاكتفت بهز رأسها إيجاباً في ملل وابتسمت ابتسامة ضجرة،وأغلقت الباب بسرعة قبل أن أهم بالرحيل..

وعندما عدت إلى شقتي لم يتغير صوت المذياع ولم ينخفض، قررت الخروج للتمشي قليلاً ولكني فوجئت بصوت المذياع يختفى ثم بطرق على بابي وفتحت لأجدها أمامي، وقد زال ما كان بها من غضب وملل وذكرتني ملامحها هذه المرة بما كانت عليه منذ زمن..

- آسفة على المعاملة الجافة التي عاملتك بها، ولكني أصبحت عصبية أخيراً.

ما كان مني وقد بدأت كلامها بهذه العبارة، إلا أن دعوتها للدخول فقبلت بعد تردد، ولكنها طلبت مني إبقاء باب الشقة مفتوحا.. وقالت:

- أعلم أنى اقتربت من الخمسين، ولكني اعتدت الخوف منذ صغري.. أخاف أن يتكلم عني الناس بالسوء.. أظن أن الوحدة توشك أن تصيبني بالجنون.. عنما تنقطع الكهرباء وأجد نفسى عاجزة تماماً عن فعل أي شيء أفقد صوابي.. لست أدري لماذا أقول لك هذا الكلام فأنت رجل ولن تشعر أبدا بما أعانيه..

كنت أستمع إلى كلامها وأنا أتخيل لنفسي حياة أخرى غير التى عشتها..بيت وأسرة.. دخل بسيط.. خلافات حول مصروف المنزل.. أطفال تتقافز هنا وهناك، عالم من الصخب والحيوية. كانت حياة هى أنسب من يقاسمني تلك الأحلام، وأنا لست غبياً كي لا ألاحظ نظرات الحب في عينيها، والتي أراها الآن كما اعتدت أن أراها قبل ثلاثين عاماً واعتدت أيضاً تجاهلها.. أحست حياة أنني فقدت التركيز فى كلامها وأن بالي منشغل بأمر آخر فنهضت بسرعة في حرج وقالت:

- إذا أردت مني أي شئ فلا تتردد في طلبه، فنحن إخوة.. أليس كذلك..؟

فأومأت بالإيجاب وأغلقت الباب خلفها وأنا مسترسل فى أحلامي، وشعرت لأول مرة أني وحيد..!.

النقار
زهير الخراز (لمغرب)

رفع «حفار القبور» فأسه عالياً في السماء وهوى به على الأرض ففلقها إلى فلقتين ثم قال: عجزت نساء العالم عن أن يلدن حفاراً مثلي!

قالوا وأعينهم تتوجس منه خيفه:

- وماذا استفادت الحياة من حفرك ؟!

أسند فأسه إلى كتفه وأردف مزهواً:

- لولاي لفسدت جثثكم وعم الطاعون والبلاء بين الناس.. انظروا إلى قبوري وهي ترفل تحت باقات الرياحين والزهور! فمن شق الطريق لبراعمها الصغيرة سواي.

قالوا: لم نر قط مغروراً مثلك، الطائر النقار بالرغم من صغر حجمه أفيد منك..

وعلقت كلماتهم الأخيرة في أذنيه ليلة كاملة ولم تبرحها حتى جاء الصباح. وفي الصباح باغت ابنته الوحيدة وهي طفلة نجيبة قائلا:

- من يكون الطائر النقار هذا؟!

قالت: هو طائر صغير.. جميل للغاية.. عملي ومفيد.. فهو مبيد طبيعي لكل الحشرات والديدان وحتى القوارض التي تضر بالزرع والمرعى والشجر...

فقر قراره على غزو موطن «النقار»، على بعد ميل واحد من الغاب التقطت أذنا الحفار صوت أزيز ونقر وحفر فحدث نفسه «أظنهم عمال المناجم» ولما تقدم قليلاً ساد الصمت كل أرجاء الغاب فضحك إلى نفسه طويلا وهو يستند إلى فأسه وقال : «محال أن يكون هذا الضجيج المنتظم صادراً عن ذاك الطائر التافه، أظنهم حطابين أجانب..»، وحينما استظل بظل شجرة عاد الحفر والنقر والأزيز يستفز مسامع حفار القبور من جديد.

تجسس على طائر النقار من قريب ومن بعيد.. من فوق الشجر ومن تحت الشجر.. تفحص موطن الطير بدقة متناهية فأرعبته كثرته وركبه شيطان اسمه « إبادة الطيور النقارة وحز في نفسه أن توجد في هذه البراري المتوحشة كائنات صغيرة تافهة تجيد حرفته بحنكة عالية.. وأكثر ما حز في نفسه معزوفة الحياة تلك التي يبدعها الطائر النقار هناك في تجاويف الشجر، مقابل طقوسه الحفرية والجنائزية التي يمارسها هو كل يوم على مرأى الأموات الصامتة في أرض صامتة!

ضم إليه فأسه، تودد إليه، ربت عليه بحنان، داعب حده بسبابته المشوهة، فقال له الفأس: «سأنهي هذه القصة في الحال.. سيصبح الطائر النقار في خبر كان».

وبدأ الحفر والنهب في أرجاء الغاب.. حفر الفأس حفرا ًكثيرة.. ونهب الحفار أعشاشاً كثيرة، وضع في كل حفرة فرخين وثلاث بويضات ثم واراها التراب.. وكانت تلك حصيلة عمل يوم وليلة.. وعندما ساد الصمت أرجاء البراري صرخ الحفار صرخة النصر.. لكن سرعان ما خاب أمله حينما عاد الحفر والنقر والأزير يصدع مسامعه بشكل أكثر حدة، وأرعبه أكثر منظر الأفرخ الجديدة وهي تطل بأعناقها العارية من داخل الأعشاش المنهوبة، قذف بفأسه بعيداً وقد تملكه غيظ شديد.. ارتطم الفأس بشجرة عمرها خمسمائة عام.. وخر الحفار على وجهه ثم بدأ يحشو أذنيه بالتراب.

خاطب الحفار شهود المقابر قائلا:

- أصدقوني القول، ألست بسيدكم؟ ألست بمخلصكم؟ أولست؟!

وابتلعت كلامه أودية سحيقة.. وارتد رجع صوته ضعيفاً يدغدغ أذنيه ثم ساد الصمت المكان كله.. إلا من زقزقة فراخ النقار الصغيرة التي مافتئت تشرئب بأعناقها العارية لتنقر نقراتها الأولى على جذوع الشجر..

قال الطائر النقار لأنثاه:

- انتظريني هنا، سوف أنقض على ذاك الحنش اللعين قبل أن يتسلل داخل بستان العجوز الطيب..

ضحكت أنثاه وحدثت نفسها متأملة: «سبحان الذي أودع سره في أضعف مخلوقاته!».

 

 

 

فخري صالح