علي أبو شادي وبندر عبد الحميد

علي أبو شادي وبندر عبد الحميد

البحث المتواصل عن ديمقراطية الثقافة

ارتبط اسم الكاتب والناقد السينمائي علي أبو شادي على مدى ربع قرن بالتحولات الثقافية البارزة في الثقافة والفنون في مصر، من خلال إنجازاته العملية الوظيفية والإبداعية معاً. وهو على علاقة وثيقة بأهم المفاصل المتحركة في هذه الثقافة، خاصة في مجال الفنون السمعية البصرية، والكتابة الرصينة المنحازة للإبداع والتأصيل، والمساهمة في صناعة القرارات الصعبة في توصيل الثقافة إلى طالبيها، لتعميم ديمقراطية الثقافة والفنون، في مسار الثقافة الجماهيرية، والتواصل مع التيارات الجديدة في الثقافة العربية والفنون في العالم. وكان من همومه اليومية الارتقاء بالسينما المصرية، ومتابعة الكتابة عن وقائعها، في قديمها وجديدها، بالأسود والأبيض، متجاوزاً المجاملة التي تفسد العلاقة بين الفن والجمهور.

وبرز تميز أبو شادي أيضا في إدارته لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، منذ عام 2002، واتسعت دائرة مهماته الصعبة بتسلمه منصب أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، خلفاً للدكتور جابر عصفور الذي تفرغ لإدارة المركز القومي للترجمة. درس علي أبو شادي الآداب والفنون، وشغل مناصب رفيعة في القطاعات والمؤسسات واللجان الثقافية والفنية، وشارك في لجان التحكيم في المهرجانات السينمائية المصرية والعربية والدولية، ونشر أكثر من عشرين كتاباً في السينما المصرية والعربية وأدبيات السينما العالمية، نذكر منها: السينما التسجيلية في السبعينيات، كلاسيكيات السينما المصرية (ثلاثة أجزاء)، أبيض وأسود، لغة السينما، السينما والسياسة، اتجاهات السينما المصرية، وقائع السينما المصرية في مائة عام، خمسون فيلماً من كلاسيكيات السينما المصرية، إضافة إلى حضوره المتواصل في الكتابة في الدوريات المصرية والعربية، وفي البرامج التلفزيونية.. ومن هنا فإن الحوار مع علي أبو شادي لا يمكن أن يقف عند موضوعات محددة في الثقافة والفنون. وقدم قام بهذا الحوار الكاتب والشاعر السوري بندر عبد الحميد الذي له اسهامات كثيرة في النقد السينمائي ويشغل منصب مدير النشر بدار المدى.

  • ما يجري في مصر من تحولات ثقافية ينعكس بدرجات متفاوتة في الأقطار العربية الأخرى، فإلى أين تتجه التحولات الثقافية الراهنة في مصر، وكيف نقرأ ملامحها؟

- اختلف المشهد الثقافي خلال العقود الأربعة الأخيرة، كان هذا المشهد غنياً جداً، في الستينيات والسبعينيات، في كل مجالاته، بما فيها الفنون، وهو يشير إلى نهضة ثقافية ساهمت فيها أكاديمية الفنون والمعاهد الفنية، حيث تخرجت فيها أجيال أغنت الحياة الثقافية المدعمة بالأمان الاجتماعي والاقتصادي. ما يحدث الآن مختلف، ربما بسبب الأزمات الاقتصادية وما يتبعها من أزمات اجتماعية، أفرزت تيارات محافظة في الشارع، كان لها تأثيرها على السلوك اليومي للناس العاديين، الذين انتقلوا من حالة استنارة وعقلانية إلى حالة انغلاق وتزمت، مما انعكس سلباً على المشهد الثقافي، وقلص مساحة الحرية المتاحة، وجعل المفكر والمبدع هدفاً لسهام الجماعات الظلامية. ونتيجة لهذا الاحتقان انطفأت فكرة الحوار بين الرأي والرأي الآخر، وحق الاختلاف، وبدا أن العنف يكاد يعلن أنه يملك الحقيقة كاملة، وأن الآخر إما خائن أو كافر..!

إن غياب ثقافة الديمقراطية، بمعناها الواسع، في المجال السياسي، أو الثقافي، أدى إلى ظهور تيارات فاشية، تسعى إلى قمع كل رأي مخالف، وترفض فكرة التعددية، بما يتبعها من ضرورة الحرية والتواصل.

اختفاء المجلات الثقافية

  • كانت المجلات الثقافية المصرية في الستينيات وأوائل السبعينيات تغطي كل وجوه الثقافة والإبداع، لكنها توقفت في أوقات متقاربة، في ما يشبه نهاية مرحلة ثقافية مزدهرة، وبداية مرحلة أخرى، مختلفة، فما هي البدائل التي طرحت عن تلك المنجزات الثقافية؟

مشكلة المجلات جزء من مشكلة الثقافة، في كل الأحوال، فعندما كان الواقع الثقافي غنياً كانت تلك المجلات ضرورة، تعبر الأقلام الحرة عن أفكارها، من خلالها، وكان هناك نوع من الصراع السلمي الفكري، واهتمام خاص من الدولة، حيث صدرت تلك المجلات عن مؤسسات حكومية، وربما غاب بعضها لأسباب بيروقراطية.

  • ولكن، ظهرت مجلات متعددة، بأسماء واتجاهات ومستويات أخرى؟

- لم تكن هذه المجلات بديلاً عن تلك التي اختفت، فهي تعبر عن مناخ ثقافي آخر، وهي في أغلبها ضعيفة، لا تستهوي القراء، ولا تجذب الكتاب الحقيقيين.

  • في مصر هناك أنشطة ثقافية متواصلة، من خلال مشروعات الثقافة الجماهيرية والتنمية الثقافية، والقراءة للجميع، والمهرجانات والمؤتمرات الثقافية، ونشاطات مكتبة الإسكندرية، هل هذه العناوين كافية للوصول إلى المواطن المصري البعيد عن المدن الكبرى، وتحقيق نوع من ديمقراطية الثقافة؟

- تسعى كل هذه الأنشطة إلى تدعيم فكرة ديمقراطية الثقافة، لكن الواقع لا يؤكد ذلك، فمعظم المهرجانات هي من احتكارات العاصمة، ومعظم روادها من أبناء القاهرة، وقد يقام مهرجان أو مؤتمر، هنا أو هناك، خارج العاصمة، لكن من الواضح أن بعض المؤسسات المعنية بتوصيل الثقافة إلى الجماهير البعيدة في المحافظات والمدن والقرى والنجوع لاتزال مقصرة في عملية التواصل المباشر بين المثقفين والمبدعين، وفي الحوار المباشر الذي لا يغني عنه الحوارات التلفزيونية المكبلة بالقيود.

  • يبدو أن هناك نوعاً من الخلل بين المرسل والمتلقي، ما هي طبيعة هذا الخلل؟

- تحتاج الفعاليات الثقافية، الفكرية والفنية، إلى مزيد من الدعم، والخروج من شرنقة العاصمة للتواصل مع جمهور متعطش للمعرفة، في فضاءات أوسع وأرحب، وقد يتصور أحدهم أن الحس الثقافي الحقيقي غائب لدى معظم القراء والمشاهدين والمستمعين، وهذه رؤية سطحية متعجلة للواقع الثقافي، وبحكم خبرتي في هذا المجال لسنوات طويلة، وعملي في الشارع الثقافي، وعملي العام، أجزم بأن هناك شرائح عريضة تتابع، بدأب وجدية، كل ما يحدث في المناخ الثقافي، بكل تجلياته ومجالاته، وأن اللقاءات التي أتيحت لي في مناطق خارج العاصمة تؤكد زعمي هذا.

تعدد جهات الرقابة

  • تقف الرقابة على الثقافة، في مصر والبلاد العربية، عائقاً أمام الأعمال الإبداعية الجديدة، خاصة حينما نكتشف جهات رقابية إضافية، غير مألوفة، تحشر نفسها في الشأن الثقافي، فما هو تفسيرك لتعدد الجهات الرقابية؟

- ليس في مصر رقابة على المطبوعات أو القنوات الفضائية، هناك رقابة على المصنفات الفنية، السمعية البصرية (السينما والمسرح والأغاني). وربما تبدو هذه الرقابة من مخلفات القرون الماضية، تضاف إليها الرقابة التي تمارسها أجهزة لا علاقة مباشرة لها بالثقافة والفنون، فهي أجهزة دينية وأمنية وعسكرية وبرلمانية، تلعب دور الرقيب، بحجة واهية، هي الحرص على أمن الدولة ومصالح الوطن، أو الخوف على الدين، وقد لا يتعدى الأمر استعراض القوة الذي يمارسه المتعصبون في مجلس الشعب.

مشروع الترجمة

  • ترتبط عملية التواصل مع الثقافات الأخرى، بما فيها من آداب وفنون وعلوم، بحركة الترجمة، كماً ونوعاً، وفي هذا المجال تأسس أخيراً في مصر المركز القومي للترجمة، هل يستطيع هذا المركز أن يردم شيئاً من الفجوة الواسعة بين الثقافة العربية والثقافات الأخرى؟

- يشكل المركز القومي للترجمة مشروعاً عربياً طموحاً، وهو من إنتاج عقل د. جابر عصفور وفكره وجهده، وهو الذي أنجز بدأبه وإصراره وعلمه أكثر من ألف ومئة كتاب مترجم، وهي كتب مأخوذة عن لغاتها الأصلية في معظمها، صدرت عن المجلس الأعلى للثقافة، ولم يكن من الممكن توصيل هذه الإبداعات العالمية إلا من خلال الجهود التي بذلها د. جابر عصفور، لردم ما يمكن ردمه من الهوّة الواسعة بيننا وبين ثقافات العالم. هذا المشروع الطموح انتقل من المجلس الأعلى للثقافة إلى المركز القومي للترجمة ليستكمل إنجازاته بفاعلية أكبر، وتركيز أشمل، تحت إدارة د. جابر عصفور أيضاً.

  • ثمة متغيرات غير عادية في المشهد السينمائي العربي، حدثت في العقود الثلاثة، أو الأربعة الأخيرة، حيث اختفت المؤسسات المنتجة، وانحسرت، كلياً أو جزئياً، صالات العرض، في أقطار متعددة، فكيف نفسر هذه المتغيرات؟

- ربما لأن للسينما المصرية تاريخاً واضحاً، متواصلاً، حيث أتيحت لها فرص لبناء القاعدة الأساسية، في وقت مبكر، حين أدرك طلعت حرب أهميتها في ثلاثينيات القرن العشرين، وربطها بمشروعاته الاقتصادية العملاقة، (بنك مصر، ومصانع الغزل والنسيج...) وأسس الفرقة القومية للتمثيل والسينما، بينما اعتمدت السينمات العربية الأخرى على المبادرات الفردية، فلم تنجح في الاستمرار. في الستينيات والسبعينيات درس عدد كبير من السينمائيين العرب في الاتحاد السوفييتي السابق، وحينما عادوا قدم بعضهم أفلاماً جيدة، تعبر عن الواقع العربي، وتنافس الأفلام الأجنبية، ولكنهم لم يستطيعوا تأسيس بنية تحتية لصناعة سينمائية متواصلة، وهناك مثال أكثر وضوحاً، من الكويت، حيث لمع اسم المخرج خالد الصديق في السبعينيات والثمانينيات، وقدم أفلاماً قليلة لافتة، ثم توقف، ومنذ ذلك الحين يتساءل كل الذين شاهدوا أفلامه: لماذا توقف خالد الصديق؟

غياب التقاليد السينمائية

  • درجت السينما المصرية منذ بداياتها على تقاليد خاصة، منها صناعة النجوم في السينما، ومنهم نجوم وافدون من المسرح والغناء والرقص.. فهل تسمح المتغيرات المستجدة في صناعة السينما باستمرار هذه التقاليد بشكل أو بآخر؟

- غابت التقاليد الراسخة في السينما المصرية الراهنة، فهي ليست مشغولة بصناعة النجم أو ترسيخ اتجاه فني وحمايته، أو البحث عن أساليب جديدة في التعبير، وإنما هي مشغولة بمنتجيها وفكرة التربّح، وإذا كان الربح هو أحد أعمدة النمو الاقتصادي فإن التربّح يأتي عن طريق تسويق بضاعة فاسدة، تملأ المعدة، ولا تفيد الجسم. وفي غياب التقاليد غابت السينما الجيدة، وغاب صانعوها، أو غيّبوا، وأصبحت الساحة نهباً لكل مغامر، يملك بعض المال، لاستثماره في صناعة البضائع الكاسدة، وغاب بذلك الكاتب الجيد والمخرج الجيد، وكل عناصر العملية الفنية، وتم إفساد الكثير من السينمائيين الشبان الذين كنا نأمل منهم عطاءات مميزة ترفد الثقافة الوطنية، وتعبر عن الواقع المصري المعاصر، وتكشف عن مواقع الخلل في هذا الواقع.

  • ينفرد مهرجان الإسماعيلية السينمائي باكتشاف الأسماء والمواهب الجديدة، محلياً وعربياً وعالمياً، ما هي الخصوصية التي تميز هذا المهرجان، إذا قلنا بأن الأفلام التسجيلية والقصيرة هي المدرسة التي يتخرج فيها كبار السينمائيين في العالم؟

- مهرجان الإسماعيلية نافذة مهمة وفريدة لعشاق السينما في مصر، فهو في انتظامه ومتابعته لكل مستجدات الفن السينمائي في مجال الأفلام التسجيلية والروائية القصيرة والتجريبية وأفلام التحريك، يشكل ميداناً للتواصل الثقافي الفني بين مصر والبلاد العربية ودول العالم كله. وعلى مدى سنوات اكتسب المهرجان احترام آلاف المبدعين، وهذه ليست مبالغة، بسبب المصداقية والجدية والحميمية، مما دفع مبدعي هذه النوعية من الأفلام إلى الرغبة في المشاركة في فعالياته، ومنهم كبار المبدعين إلى جانب الموهوبين من الأجيال الجديدة.

ومن هنا أعطى المهرجان لعشرات المخرجين الشبان بطاقات مرور إلى الآفاق الواسعة لعالم السينما، من خلال الجوائز التي حصدوها في المسابقات الخمس للمهرجان، والجوائز الموازية الأخرى. إن غزارة الأفلام التي ترد إلى المهرجان تشكل امتحاناً صعباً للجنة الاختيار وإدارة المهرجان، لعدم قدرتهما على عرض كل الأفلام التي تستحق العرض.

الحوار مع العالم

  • علاقاتنا الراهنة بالشعوب والثقافات الأخرى تشبه حبلاً مشدوداً، يتنازعه فريقان، يشد كل منهما الحبل في اتجاه معاكس، أحدهما يريد العزلة والمحافظة على التقاليد، والعودة إلى الماضي، ويبيح العنف والقتل دفاعاً عن تلك التقاليد التي أضاف إليها شعائر جديدة، والآخر لا يرى خلاصاً من التخلف إلا بالانفتاح على العالم كله بشروط بسيطة، أو دون شروط. أين يمكن أن نقف، وفي أي اتجاه، في هذا الصراع الضاري؟

- لايزال هذا الحبل المتوتر المشدود يتحكم بعلاقاتنا مع الثقافات الأخرى، خاصة بعد عودة التيارات السلفية والمحافظة، التي ترى أن الماضي هو الأصح والأمثل، وأن أي ثقافة وافدة تعني غزواً فكرياً، يشكل خطراً على تراثنا وأصالتنا وأخلاقنا، حسب "نظرية المؤامرة"، وكأن العالم متفرغ لنا، لا يفكر ولا يكتب ولا ينشر إلا لتدمير ثقافتنا، وهذا أمر مضحك. فالآخرون ليسوا معنيين بنا إلى هذه الدرجة، لكننا نحن معنيون بهم إلى درجة المبالغة، بحيث نحاول أن نغزوهم فكرياً، مستخدمين الأسلحة القديمة والجديدة في هذا الغزو الأعمى الذي يمارس التدمير العشوائي والإرهاب المجاني، وكأننا نعيد فظائع محاكم التفتيش في القرون الوسطى. لماذا الخوف من الآخر، ما دمنا قادرين على الفهم والاستيعاب والحوار؟ إن الخوف مرتبط بلغة العجز، ونحن لسنا عاجزين، على الرغم من كل الإحباطات التي تحاصرنا، فلانزال نملك القدرة على التواصل مع العالم دون خوف أو فزع، وإذا كان هناك خوف يهددنا فإنه يبدأ داخلنا، إن مناخ الحرية والديمقراطية كفيل وحده بإزاحة هذا الخوف، وعلينا أن نتحلى بفضيلة شجاعة الحوار والمواجهة، وكما يقول كاتبنا الكبير نجيب محفوظ: فإن عواقب الخوف أكبر بكثير من عواقب الشجاعة.

---------------------------------------

ليسَ في الأرضِ من طريقٍ يُؤدي سالكيه
أو بعضَهمْ للسعاده
فلها اسمٌ بينَ الأنامِ شهيدٌ
ومُسمَّاهُ مُستَحيلُ الشَّهادَه
ما رأينا إلا شَقاءً عتيدًا
لبني الأرضِ كُلِّهِمْ أو عَتَادَه
وعلى العلمِ بالشَّقَاء ترانَا
نتمنَّى منَ البنينِ الزِّياده
أمُحِبٌّ أولادَه الوالدُ المسـ
ـكينُ أَمْ كانَ مُبغِضًا أولادَه
إنْ يكُنْ والدُ البنينَ مُحبًّا
فلماذا قد فكَّ بابَ الولادَه
وهو بابٌ مُذْ مرَّ منهُ إلى الدُّنـ
ـيا تمنَّى في وجهه إيصادَه

صقر الشبيب





 





 





 





 





علي أبو شادي مع د. جابر عصفور خلال مشاركتهما في إحدى الفعاليات الثقافية