جمال العربية

"قراءة في أوراق مجمعية"

المتتبع للنشاط المجمعي يلاحظ كيف اتسعت مجالاته وتعددت فصوله سنة بعد أخرى. من بينها القرارات العلمية التي تنصب على ظواهر اللغة كالقياس والتضمين والنحت والتوليد والتعريب وترجمة المصطلحات وما إليها، والبحوث التي يلقيها المجمعيون في مجلس المجمع أو في مؤتمره السنوي أو التي تعد للنشر في مجلة المجمع والمصطلحات العلمية والفنية وألفاظ الحضارة التي تقترحها لجانه، فضلا عن المشروعات المختلفة التي وجدت طريقها إلى التجربة والتنفيذ كتيسير النحو والصرف، وتيسير الكتابة العربية واختصار حروف الطباعة فيها، ووضع المعاجم المختلفة وإنشاء الجوائز اللغوية والأدبية وما إليها.

ومن يحاول الاقتراب من مجالات هذا النشاط، تستوقفه كثيرا بعض الأمور الطريفة التي شغل بها المجمعيون أنفسهم. من بينها موقف بعض الأعضاء من كلمة " الهروب " باعتبارها مصدرا غير صحيح، بالرغم من شيوعه على ألسنة كثير من الكتاب وأقلامهم، مستندين إلى أن اللغة لم تثبت للفعل "هرب" من المصادر إلا الهرب والمهرب والهربان وقد ناقشت لجنة الأصول - بالمجمع - هذا الموضوع، وراجعت ما أثبتته معجمات اللغة من مصادر هذا الفعل، فوجدت في المصباح نصا على الهروب في قول : هرب يهرب هربا وهروبا : فر.

ثم انتهت بعد المناقشة إلى القرار التالي:

يذهب بعض الدارسين إلى تخطئة استعمال " الهروب " مصدرا للفعل هرب على أساس أن هذا المصدر ليس من بين المصادر التي أثبتتها كتب اللغة لهذا الفعل. وترى اللجنة استنادا إلى النص على الهروب في أفعال ابن القطاع وإلى إثبات صاحب المصباح له أن استعمال الهروب مصدرا لهرب صحيح لا حرج فيه.

ومن أطرف المناقشات اللغوية التي دارت في مجمع اللغة العربية مناقشة أثارها بعض الأعضاء حول الفعل: "أنجب" الذي يخطئ البعض - في رأيه - فيستعملونه متعديا بمعنى ولد، وهذا- في رأيه- تأباه اللغة الصحيحة، لأن فيها غيره من الأفعال: ولده ونجله ونسله، ويرى أن أنجب في اللغة فعل لازم معناه ولد له أولاد نجباء.

وعرضت لجنة الأصول. لهذا الرأي وناقشته، وكان من رأى بعض أعضائها أن الفعل أنجب - بالمعنى الذي يستخدمه الناس- صحيح فصيح يؤيده السماع والقياس.

أما السماع فقد ورد في شعر من يحتج به. وأما القياس فلأن نجب ثلاثي لازم، وكل ثلاثي لازم يصح تعديته بالهمزة.

وانتهت لجنة الأصول إلى القرار التالي:

يخطئ بعض الباحثين استعمال أنجب متعديا بنفسه بمعنى ولد، في مثل قولهم: أنجب فلان ولدا.

وترى اللجنة جواز ذلك لما يأتي:

أولا: وروده في الشعر العربي في قول حفص الأموي:

أنجبه السوابق الكرام

من منجبات ما لهن ذام

وثانيا : ورد في اللغة نجب - بضم الجيم- أي اتصف بالكرم والحسب، فإذا قلنا: أنجب الرجل بإدخال الهمزة على هذا الفعل صار متعديا، وكان معناه: ولد ولدا حسيبا كريما.

ولا مانع بعد ذلك من أن يكون المراد: ولد ولدا مطلقا من باب تعميم الخاص.

فالفعل أنجب - إذن كما نستعمله نحن صحيح فصيح . ومن بين ما تحويه هذه الأوراق المجمعية بحث طريف ألقاه أحد أعضاء المجمع بعنوان "الكاف التمثيلية". عرض فيه لما شاع على ألسنة المعاصرين وفي كتاباتهم من نحو قولهم: فلان - كسفير - يمثل بلاده خير تمثيل.

وبعد أن استعرض أقوال النحاة في الكاف ومعانيها التي ترد عليها، انتهى إلى أن الكاف - وهي للتشبيه - قد يراد بها ما يراد بكلمة " مثل " أي الشخص ذاته والشخص نفسه.

فإذا قلنا: فلان كسفير، فالمراد فلان نفسه، وإنما عدلنا إلى هذا التعبير قصد الكناية التي هي أبلغ من التصريح.

أو أن تكون الكاف بمعنى " مثل " ، فقولنا: فلان كأديب له شهرة عالمية معناه: فلان مثل أديب بنصب كلمة " مثل " على الحال، ولعله أن يكون أبلغ من قولنا، فلان أديبا.

وقد درست لجنة الأصول بالمجمع هذا التعبير، وأيدت الباحث في أن مثل قولنا: فلان كسفير، أثر من آثار الترجمة، وبعد مناقشة مستفيضة انتهت إلى القرار التالي: تجري أقلام الكتاب المعاصرين بنحو قولهم: فلان كأديب، وهو كسفير، وأنا كعربي، إلخ.

وترى اللجنة أن مثل هذا تعبير فصيح يجري على الضوابط العامة، وأن الكاف فيه للتشبيه أو للتعليل أو زائدة.

كما دارت مناقشات في بعض جلسات المجمع حول الفعل صمد ومعانيه ومصادره، واتجه معظمها إلى رفض استعماله بالمعنى الشائع، واستبدال ألفاظ أخرى به كالثبات. وخلاصة الرأي في هذا أن الثبات بعيد عن معناه وأن الصمود ليس من مصادره، وإنما معناه يدور بين أصلين، القصد والصلابة، ومصدره " الصمد " وحده، أما " الصمود " فلا تعرفه كتب اللغة، ولعله تحريف " السمود ".

وقد درست لجنة الأصول هذا الكلام، واستمعت إلى ما نقله بعض أعضاء المجمع عن القاموس والمقاييس وعن ابن الأثير، فرأت أن معنى الثبات غير بعيد عن الصلابة التي هي أحد أصلي الصمد، أما الصمود فليس من الخطأ جعله مصدرا لصمد، لأن الفعول مصدر قياسي للفعل اللازم المفتوح العين في بعض دلالاته.

وانتهت اللجنة إلى القرار التالي:

يخطئ بعض الباحثين استعمال الصمود بمعنى الثبات مصدر، لصمد بمعنى ثبت بناء على أن صمد مصدره الصمد ومعناه القصد أو الصلابة.

وقد درست اللجنة ذلك، وراجعت ما في القاموس والمقاييس، وأيضا ما ذكره ابن الأثير، فوقفت على أن معنى الثبات غير بعيد. عن الصلابة التي هي أحد أصلي الصمد، كما أن الصمود ليس من الخطأ جعله مصدرا لصمد، لأن الفعول مصدر قياسي للفعل اللازم المفتوح العين في بعض دلالاته.

"لامية العجم"
للطغرائي

يعرف تاريخ الشعر العربي لاميتين مشهورتين، توقف أمامهما الدارسون والمتذوقون بالنظر والتأمل، أولاهما لامية العرب المنسوبة للشاعر الصعلوك الشنفرى، والتي تعد صورة دقيقة كاملة لحياة الصعاليك - الخارجين على أعراف المجتمع والقبيلة - في العصر الجاهلي والتي يقول فيها:

أديم مطال الجوع حتى أميته

وأضرب عنه الذكر صفحا فأذهل

وأستف ترب الأرض كي لا يرى له

علي من الطول امرؤ متطول

علي من الطول امرؤ متطول

يعاش به إلا لدي ومأكل

أما الثانية فهي لامية العجم، وقائلها هو الحسين بن علي بن عبد الصمد المشهور بالطغرائي - نسبة إلى من يكتب الطغراء وهي الطرة التي تكتب في أعلى الكتب فوق البسملة متضمنة نعوت الملك وألقابه - والطغرائي الذي ولد في محلة من أعمال " أصبهان " في بلاد فارس عاش في ظل الدولة السلجوقية، تقول عنه كتب التاريخ إنه اشتغل في ديوان الإنشاء وتقلب في مناصب الكتابة حتى تولى رئاسة الديوان ثم عزل عنه، وكان لهذا العزل أثره الشديد في نفسه - وهو الطموح إلى أعلى المناصب - فنظم لاميته هذه معبرا عن آلامه من العزل وعطله من العمل، وسميت بلامية العجم إشارة إلى أصل صاحبها الفارسي، وتمييزا لها عن لامية العرب للشنفرى.

أصالة الرأي صانتني عن الخطل

وحلية الفضل زانتني لدى العطل

مجدي أخيرا ومجدي أولا شرع

والشمس، رأد الضحى، كالشمس في الطفل

فيم الإقامة بالزوراء، لا سكن

بها، ولا ناقتي فيها ولا جملي

ناء عن الأهل، صفر الكف منفرد

كالسيف، عري متناه من الخلل

طال اغترابي حتى حن راحلتي

ورحلها، وقرى العسالة الذبل

وضج من لغب نضوى، وعج لما

يلقى ركابي، ولج الركب في عذلي

أريد بسطة كف أستعين بها

على قضاء حقوق للعلا قبلي

والدهر يعكس آمالي ويقنعني

من الغنيمة بعد الكد بالقفل

***

حب السلامة يثني عزم صاحبه

عن المعالي ويغري المرء بالكسل

فإن جنحت إليه فاتخذ نفقا

في الأرض أو سلما في الجو فاعتزل

ودع غمار العلا للمقدمين على

ركوبها، واقتنع منهن بالبلل

يرضى الذليل بخفض العيش مسكنة

والعز عند رسيم الأينق الذلل

إن العلا حدثتني - وهي صادقة

فيما تحدث - إن العز في النقل

لو أن في شرف المأوى بلوغ منى

لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل

أعلل النفس بالآمال أرقبها

ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

لم أرتض العيش والأيام مقبلة

فكيف أرضى وقد ولت على عجل

غالى بنفسي عرفاني بقيمتها

فصنتها عن رخيص القدر مبتذل

وعادة التصل أن يزهى بجوهره

وليس يعمل إلا في يدي بطل

ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني

حتى أرى دولة الأوغاد والسفل

تقدمتني أناس كان شوطهمو

وراء خطوي، لو أمشي على مهل

***

أعدى عدوك أدنى من وثقت به

فحاذر الناس واصحبهم على دخل

وإنما رجل الدنيا وواحدها

من لا يعول في الدنيا على رجل

وحسن ظنك بالأيام معجزة

فظن شرا، وكن منها على وجل

غاض الوفاء، وفاض الغدر، وانفرجت

مسافة الخلف بين القول والعمل