هل هناك أفلام تاريخية عربية؟

هل هناك أفلام تاريخية عربية؟

في الرحلة الطويلة للإنسان والفن والتاريخ عبر الزمان تنوعت أشكال الفن وأنماطه: شعرًا، وقصة، ورواية، ومسرحية... وتعددت قوالبه التشكيلية: رسمًا، ونحتًا، وزخرفة. وتكاثرت أشكاله التمثيلية: مسرحًا، وسينما، وإذاعة وتليفزيون. وفي الفن والتاريخ كان الإنسان - ولايزال - هو الموضوع المشترك، وهو الهدف المشترك: ماضيه، وحاضره، ومستقبله.

لأن السينما فن شامل، ولأن جمهورها لايزال هو الأكبر بين جماهير الأشكال الفنية جميعًا، فإن التاريخ قد اجتذبها بسحره وأغراها. ولأن للسينما تأثيرها الجماهيرى الهائل؛ فإن دورها فى إشاعة المعرفة التاريخية مهم للغاية. وقد نتج عن هذه الحقيقة عدة نتائج مهمة؛ أولها أن صناعة السينما العالمية قد اتجهت طوال تاريخها نحو إنتاج «الأفلام التاريخية» التى كانت من العلامات الفارقة فى تاريخ السينما من ناحية، والتى حفرت فى وعي المشاهدين معلومات مهمة وانطباعات باقية على مر السنين.

ماهو الفيلم التاريخي؟

وربما يكون من المناسب أن نتوقف قليلاً فى محاولة لتعريف «الفيلم التاريخى». وبداية ينبغى أن أشير إلى أن هذا التعريف لايستند إلى أي تعريفات «معلبة» أو «جاهزة»، وإنما هو اجتهاد شخصى بحت. فالفيلم التاريخى فى ظنى عمل فنى يتخذ من التاريخ موضوعًا له؛ وقد يكون الموضوع التاريخى الذى يدور حوله الفيلم حدثًا تاريخيًا مهمًا، أو شخصية تاريخية، أو ظاهرة تاريخية، وفى هذا العمل الفنى يتضافر الفن الدرامى مع الواقع التاريخى لإنتاج العمل الذى يحمل إبداع كاتب السيناريو، القائم على مادة تاريخية أعدها مؤرخون يعرفون موضوعهم معرفة جيدة، ومن خلال الرؤية الفنية للمخرج، ومهارات الممثلين، وإبداعات الموسيقى وتقنيات الصوت، وفنون التصوير... وما إلى ذلك يخرج الفيلم التاريخى. وإذا كان لكاتب السيناريو والمخرج وغيرهما أن يبتكروا ويبدعوا من خيالهم لتحقيق «الصدق الفنى» فى عملهم؛ فإنه لا يجوز لهما أو لغيرهما أن يعبثا «بالصدق التاريخى» بحجة الحفاظ على «الصدق الفنى». ويرجع هذا الموقف فى جوهره إلى حقيقة أن القائمين على الفيلم قد اختاروا التاريخ ميدانًا لعملهم؛ وما داموا قد اختاروا التاريخ فعليهم الالتزام بحقائقه. ولايعنى هذا أن يتحول الفيلم إلى محاضرة أكاديمية مملة، وإنما يجب استغلال دراما التاريخ نفسه فى العمل الفنى. ويمكن ابتكار شخصيات درامية غير تاريخية لخدمة الغرض الفنى للفيلم دون الإخلال بالصدق التاريخى، على نحو ما حدث فى فيلم «العدو على الأبواب»، الذى جعل من شخصية خيالية لقناص ألمانى الشخصية المركزية فى الفيلم الذى صور معركة ستالينجراد فى الحرب العالمية الثانية). لقد تحولت السينما صوب الماضى لاستعادة الذاكرة التاريخية وللبحث عن موضوعات لأفلامها بعيدًا عن المجالات الاجتماعية والغرامية والفكاهية من ناحية، ولاجتذاب المزيد من المشاهدين من ناحية أخرى. والمدهش فى هذه الأفلام التاريخية أن قيمتها لاتستند فقط إلى أنها من إعداد باحثين تاريخيين جادين، وإنما تستند أيضا إلى إعداد درامى ممتاز يعيد بناء الحدث التاريخى بعناية. وتشهد الأفلام التاريخية العالمية عالية الإنتاج على ولع السينما بالتاريخ، لأنه يحقق نسبة مشاهدة عالية كما يحقق نسبة أرباح هائلة، وهو ما تؤكده أيضا المسلسلات ذات الموضوعات التاريخية، والإنتاج الفخم فى التليفزيون.

أفلام تاريخية باهرة

ويشهد سجل السينما الأمريكية على قدر كبير من الانبهار بالتاريخ، فقد أنتجت أفلامًا عن التاريخ المصرى القديم، ومن صفحات التاريخ الإغريقى والرومانى، وتاريخ العصور الوسطى مثل الحرب من أجل حرية اسكتلندا فى العصور الوسطى فى فيلم «قلب شجاع، والمصارع، وغزاة الشمال The Viking.. وغيرها». وهنا نلاحظ دقة تكاد تقترب من الحقيقة التاريخية فى رسم الشخصيات التاريخية، وطرز الملابس، وأنواع الأسلحة، وديكورات المدن والقصور والقلاع، وتقديم المثل والمفاهيم التى حكمت طبقة الفرسان الإقطاعيين فى العصور الوسطى، أو أنماط حياة الفلاحين وسكان المدن. ولكن هذا لايعنى أن الأفلام الأمريكية التاريخية كانت دائمًا دقيقة فى تصويرها للتاريخ؛ فالحقيقة أن هوليوود لم تول قدرًا كبيرًا من الاهتمام بالدقة التاريخية إذا ما تعارضت مع الرغبة فى الحصول على المزيد من الربح فى بعض أفلامها «التاريخية»، ولكنها دائمًا حافظت على الإطار التاريخى الصحيح. وهنا ينبغى أن نفرق تمامًا بين الأفلام التاريخية، والأفلام الخيالية التى تدور فى جو شبه تاريخى مثل الأفلام المأخوذة عن «ألف ليلة وليلة» مثلا. فالمشاهد الذى يرى فيلم «الفارس الثالث عشر» لن يختلف كثيرًا عن قارئ «رحلة ابن فضلان»؛ إذ إن الفيلم يشبه كتابًا مصورًا ومسموعًا بدلاً من كتاب ابن فضلان. كما أن مشاهد فيلم «مملكة السماء» يتساوى مع قارئ يقرأ بحثًا ممتازًا عن تحرير المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبى للقدس سنة 1187م من أيدى الصليبيين. ففى كل من هذين الفيلمين تجد التاريخ أمامك ماثلاً كما حكاه المؤرخون، وكما كتبته المخطوطات التاريخية وقد ساعدت الإمكانات الفنية المذهلة التى وفرها الكمبيوتر لمخرجى مثل هذه الأفلام التاريخية أن يرسموا مسرح الأفلام التاريخية بدرجة غير مسبوقة من الدقة. ويمكن أن نرى هذا المثال واضحًا فى فيلم «مملكة السماء». وعلى شاشة التليفزيون كان التاريخ فرس الرهان الأسود، واستطاعت أساليب الكمبيوتر الفنية أن تخلق البيئة التاريخية بدقة تقربها من الواقع الذى تتناوله أفلام التليفزيون؛ مما يجعل المشاهد يحس بتاريخية الفيلم الذي يراه، ويسندها بناء درامى جيد يعيد تشييد الحدث التاريخى؛ فعلى شاشة التليفزيون البريطانى اجتذب فيلم دافيد ستاركى «زوجات هنرى الثامن الست»، الذى عرض على شاشة القناة الرابعة فى التليفزيون البريطانى، أربعة ملايين مشاهد.

البحث عن هوية

وربما تكون هناك أسباب كثيرة وراء جوع الجماهير الأوربية والأمريكية إلى التاريخ، منها تدنى تدريس التاريخ فى المدارس هناك، وربما يكون الازدهار الحالى للتاريخ فى السينما وفى وسائل الإعلام هناك معاكسًا لهذا الاتجاه التعليمى الهابط، ولكن هناك بالتأكيد أسبابًا أكثر عمقًا مثل البحث عن الهوية فى التاريخ بعدما تدهورت مصادر الهوية الأخرى. وهنا يطرح السؤال نفسه: ماذا عن السينما العربية؟ وهل هناك أفلام تاريخية فى تاريخ السينما المصرية؟ على الرغم من عراقة الفن السينمائى فى مصر، وعلى الرغم من إنجازات السينما المصرية طوال تاريخها المئوى، فإن مسألة «الفيلم التاريخى» فى تاريخ السينما المصرية تحتاج إلى وقفة للتأمل ولطرح الأسئلة ومحاولة العثور على الإجابات المناسبة. هل كانت هناك حاجة اجتماعية / ثقافية فى المجتمع المصرى طوال النصف الأول من القرن العشرين إلى «الأفلام التاريخية»؟ وهل كانت الظروف التاريخية الموضوعية آنذاك تسمح بأن تنتج السينما المصرية أفلاما تستحق أن نسميها الأفلام التاريخية؟ وهل توافرت أركان الفيلم التاريخى فى السينما المصرية قبل منتصف القرن العشرين- وهل كانت هناك جماعات من المؤرخين أو الباحثين الجادين فى التاريخ يتولون الإعداد التاريخى لمثل هذه الأفلام إن وجدت؟ وهل توافر كاتبو السيناريو والمخرجون والفنيون المختصون بالملابس والأسلحة والمناظر التاريخية اللازمة لصناعة الفيلم التاريخى المصرى؟ أخشى أن تكون الإجابة بالنفى. وقد ضربت عدة أمثلة من السينما الأمريكية والتليفزيون البريطانى فى الصفحات السابقة لتكون بمنزلة الإجابات المسبقة عن هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة التى قد تتفرع عنها بالضرورة. بيد أن نظرة على تاريخ الإنتاج السينمائى المصرى عموما سوف تكشف عن أن «الأفلام التاريخية» كانت قليلة إلى حد الندرة من جهة، وأن حظ هذه الأفلام من التاريخ كان محصورا فى أسمائها.

بداية الفيلم التاريخي

يرى بعض الباحثين أن السينما المصرية تبدأ بفيلم «فى بلاد توت عنخ آمون»، على حين يرى البعض الآخر أن هذا الفيلم لم يكن سوى فيلم أجنبى تم تصويره فى مصر وتمت الاستعانة ببعض السينمائيين المصريين، ويرى هذا الباحث أيضًا أن أول فيلم مصرى حقيقى هو فيلم «ليلى» الذى أنتجته «عزيزة أمير» سنة 1927م (محمود قاسم، تاريخ السينما المصرية، تحت الطبع). وعلى أي حال، فإن ذلك العام لم يشهد إنتاج أي فيلم يحمل عنوانًا تاريخيًا، وطوال الفترة التى تمتد إلى سنة 1935م لم تنتج السينما المصرية سوى أفلام غرامية أو فكاهية. وفى سنة 1935م ظهر أول فيلم يحمل اسما تاريخيا هو فيلم «شجرة الدر» عن رواية لجورجى زيدان تحمل الاسم نفسه، (والفيلم من إخراج أحمد جلال وتمثيله ومعه مارى كوينى وآسيا وعبد الرحمن رشدى وعطا الله ميخائيل ومختار حسين). وقد كتب السيناريو والحوار أيضا أحمد جلال. ولم أتمكن من مشاهدة الفيلم، ولكن الملخص الوارد عنه فى موسوعة الأفلام العربية (منى البندارى وآخرون، موسوعة الأفلام العربية، تقديم صلاح أبو سيف، بيت المعرفة 1994م) يقول: «شجرة الدر جارية تركية فى بلاط الملك الصالح، تصبح بفضل جمالها وذكائها زوجته. وعند نشوب حرب الصليبيين ترسم الخطط وتدبر المكائد حتى كتب لها النصر. يموت زوجها أثناء الحرب فتخفى خبر موته وتستمر تحكم البلاد وتقود الجيوش باسمه حتى جاء ابنه توران شاه وتولى الحكم، ويعلن العداء على شجرة الدر زوجة أبيه. يهوى عز الدين شجرة الدر وفى سبيل ذلك يقتل توران شاه ويتوجها ملكة على مصر، وتقبض على زمام الأمور بيد من حديد، يزداد خصومها حتى أن الخليفة يصدر أمرًا بعزلها. ولكنها تستعيد الأمور بحبها لعز الدين وتتزوجه، وتحكم البلاد من وراء ستار...». وعلى الرغم من أننا لا نعرف مدى دقة هذه السطور فى التعبير عن الفيلم الذى يحمل اسم «شجرة الدر» فإن هناك عدة مؤشرات واضحة على طبيعة هذا الفيلم ومدى قربه من التاريخ، أولها - أن الفيلم مأخوذ عن رواية لجورجى زيدان. وللرجل رأى مهم فى العلاقة بين الأدب والتاريخ سجلها بقلمه على صفحات مجلة الهلال، وطبقها فى رواياته «التاريخية» التى حملت عنوان «من تاريخ الإسلام»؛ ومن رأيه أن العامة لا يقبلون على التاريخ إلا إذا كان ممزوجًا بقدر من الخيال (قاسم عبده قاسم وأحمد الهوارى، الرواية التاريخية فى الأدب العربى الحديث، دار المعارف 1979م) وبناء على هذا ابتدع جورجى زيدان بعض القصص العاطفية داخل الإطار التاريخى لكل رواية من رواياته؛ ومنها رواية شجرة الدر بطبيعة الحال. وثانيها - أن الملخص يكشف عن خطأ فى اسم «شجرة الدر»، لأن اسمها الحقيقى «شجر الدر». وثالثها - أن الحوادث التاريخية بعيدة عن الحقيقة التاريخية التى تحمل من الدراما أكثر مما تحمله رواية جورجى زيدان. فقد كانت شجر الدر جارية تركية أو أرمنية وحين أنجبت ولدًا ذكرًا هو خليل، رفعها السلطان الصالح نجم الدين أيوب إلى مرتبة الزوجة والسلطانة. وحينما نزلت قوات الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع على دمياط ثم زحفت باتجاه المنصورة، ذهب السلطان الصالح على محفة المرض لإدارة الحرب من المنصورة ومعه زوجته، وعندما مات أخفت الخبر بمساعدة كبار قادة الجيش من أمراء المماليك حتى لا تضعف معنويات الجنود والأهالى. واستطاع الأمير بيبرس البندقدارى - الذى صار سلطانًا فيما بعد - أن ينزل هزيمة قاصمة بالجيش الصليبى وأسر قادته وعلى رأسهم لويس السابع بمساعدة الأهالى والمتطوعين. وعندما جاء توران شاه من العراق لتولى الحكم ساءت العلاقة بينه وبين زوجة أبيه التى اضطرت للهرب إلى القدس، وبين أمراء المماليك، الذين عرفوا أنه يدبر لقتلهم فقتلوه اغتيالا ومات «.... جريحًا حريقًا غريقًا» حسبما تقول المصادر التاريخية. ثم اختار أمراء المماليك «شجر الدر» لتكون أول سلاطين المماليك على مصر، لكن الرأى العام والمثقفين رفضوا ذلك وقامت المظاهرات والاحتجاجات، وأرسلت تطلب تفويضًا بالحكم من الخليفة العباسى فى بغداد، ولكن رده كان قاسيًا حينما رد برسالة تقول: «إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فاعلمونا حتى نُسيَّر إليكم رجلاً يحكمكم...». وبعد أن بقيت فى الحكم ثمانين يوما اضطرت إلى الاعتزال. وبحثت عن زوج مناسب بين أمراء المماليك، ولم تكن تريد أميرًا قويًا، ولم يكن أى من الأمراء الأقوياء ليسمح لواحد من منافسيه أن يتزوج السلطانة ويحكم البلاد. واستقر الرأى على عز الدين أيبك التركمانى، الذى كان يظهر الضعف والاستكانة. وقال الأمراء «إنه ليست له شوكة، ومتى أردنا صرفه صرفناه» ولكن السلطان الجديد دخل فى صراع على السلطة مع أمراء المماليك البحرية، ودبر مؤامرة مع شجر الدر بـمساعدة الأمير قطز (الذى صار سلطانًا فيما بعد) للتخلص من الأمير فارس الدين أقطاى والمماليك البحرية، ثم بدأ صراع السلطة مع زوجته شجر الدر وانتهى الأمر باغتياله، ثم قتلها بأيدى مماليكه (قاسم عبده قاسم، عصر سلاطين المماليك، دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية، 1998م).

وإذا كنا قد عرضنا للخطوط العامة لسيرة السلطانة «شجر الدر»، فإن الهدف من ذلك هو توضيح مدى التنافر بينها وبين قصة الفيلم الذى يحمل اسمها. ويعنى هذا أن الشرط الأول من شروط «الفيلم التاريخى»، وهو الالتزام بخيوط الحقيقة التاريخية فى بناء درامى محكم لم يكن متوفرًا فى هذا الفيلم. وليست هناك معلومات عن الإخراج، والمناظر والملابس والبيئة التاريخية التى يصورها الفيلم.

صلاح الدين على الشاشة

فى سنة 1937م عرض فيلم «ليلى بنت الصحراء»، الذى عرض مرة أخرى سنة 1944م باسم «ليلى البدوية» بعد تعديل شخصياته بسبب المصاهرة بين ملكى مصر وإيران ويزعم الفيلم أنه مأخوذ عن قصة من التراث العربى (محمود قاسم، المرجع السابق) ولكن الملخص الذى أورده الكاتب عن الفيلم يشير إلى أنه فيلم عادى وضعه أصحابه فى جو من «الوهم بالتاريخ» ولا علاقة له بالتاريخ فعلا. وهو من بطولة وإخراج بهيجة حافظ وفى سنة 1939م ظهر فيلم «قيس وليلى» الذى يمكن أن ينطبق عليه الكلام السابق عن فيلم «ليلى البدوية». ولا يمكن اعتباره فيلما تاريخيا بأى حال من الأحوال. وفى سنة 1941م ظهر فيلم يحمل اسم «صلاح الدين الأيوبى» من إخراج إبراهيم لاما، وهو يهودى من أمريكا الجنوبية اسمه الأصلى إبراهام لاماس، جاء مع شقيقه بدرو إلى مصر، وغيرا اسميهما إلى إبراهيم وبدر واشتغلا بالسينما.

وقد كتب سيناريو الفيلم المخرج إبراهيم لاما، وجمع له أكبر حشد من الممثلين والنجوم المعروفين، وقد حرص على أن يكون حوار الفيلم باللغة العربية الفصحى. والفيلم يخلط بين الفروسية والحب. وعلى الرغم من أن الفيلم حظى بوصف بعض الباحثين بأنه «فيلم تاريخى حقيقى»، فإن «التاريخ» الذى تناوله الفيلم لم يكن له وجود سوى فى خيال المخرج الذى كتب السيناريو بنفسه، وربما ظن أن اللغة العربية الفصحى وحدها تكفى لإضفاء صفة «التاريخية» على الفيلم. فالقصة بأسمائها لا وجود لها فى صفحات التاريخ جملة وتفصيلا. وعلى الرغم من اسم الفيلم فإن الفيلم ليس عن صلاح الدين الأيوبى الذى نعرفه تاريخيا، والذى صوره فيلم «مملكة السماء»، الذى سبقت الإشارة إليه، فى صورة تاريخية وفى سياق تاريخى، وفى بيئة تاريخية حقيقية، ومن ثم، فإن فيلم «صلاح الدين الأيوبى» أيضا لا يمكن اعتباره من بين «الأفلام التاريخية». هناك فيلم آخر يحمل اسما تاريخيا هو فيلم «كليوباترة» الذى أخرجه إبراهيم لاما فى سنة 1943م، ومن غير المعلوم مصدر المادة التاريخية التى اعتمد عليها كاتبا السيناريو (ابراهيم لاما والسيد زيادة). وقد وقف الفيلم عند حدود قصة الحب التى جمعت بين كليوباترة السابعة التى قامت بدورها السيدة أمينة رزق آخر ملوك البطالمة فى مصر والقائد الرومانى ماركوس أنطونيوس. ويقول المخرج عن فيلمه: «... مفهوم أن الأفلام التاريخية تتطلب مجهودًا ونفقات أكثر... والفيلم يتناول عصرًا من عصور مصر وفيه لونان من ألوان الشعوب؛ أحدهما مصرى فرعونى والآخر رومانى....». وحسب ملخص الفيلم فإنه تناول المؤامرات التى دبرت ضد كليوباترة، ثم قصة الحب مع انطونيوس ونهايتها المأساوية بالانتحار. وهو ما يكشف عن أن الفيلم من النوع الرومانسى الذى يحاول مخرجه أن يضفى عليه ثوب التاريخ. وهو أيضا ما يشى بأن الفيلم لم يستعن بأى متخصص فى التاريخ لضمان الصدق التاريخى إلى جانب الصدق الفنى. وفى سنة 1945م تم إنتاج فيلم بعنوان «عنتر وعبلة» وفيلم «أبو الفوارس» وهما فيلمان ينتسبان إلى التراث العربى بالاسم فقط؛ فلا الأحداث ولا البيئة التاريخية، ولا الملابس، ولا لغة الفيلمين يمكن نسبتها إلى التاريخ. ويصدق هذا أيضا على الفيلم الذى أنتجه ومثله حسين صدقى وأخرجه فؤاد الجزايرلى سنة 1946م، بعنوان «شهرزاد» وقامت ببطولته (إلهام حسين، وسامية جمال) والفيلم الأخير مأخوذ عن حكايات ألف ليلة وليلة.

وقد شهدت سنة 1948م إنتاج عدد من هذه النوعية من الأفلام منها فيلم «الزناتى خليفة» الذى يستند إلى السيرة الهلالية التى تنتمى إلى الأدب الشعبى أكثر مما تنتمى إلى التاريخ؛ وفيلم «ورد شاه» الذى يستند إلى أجواء ألف ليلة، وفيلم «ليلى العامرية» الذى يحكى قصة «قيس وليلى» من التراث العربى بكل ما تحمله من خيال، «والتاريخ » بمعناه الصحيح غائب عن هذه الأفلام تمامًا على الرغم من وجود الإيحاء بالإطار التاريخى. وهذا «الإطار التاريخى» لاعلاقة له بالواقع التاريخى، وليس له وجود إلا فى خيال الذين صنعوا تلك الأفلام.

أفلام دينية

وقد شهد عام 1951م إنتاج فيلمين يحمل كل منهما عنوان موضوع تاريخى دينى، فقد تم إنتاج فيلم «ظهور الاسلام» الذى بنيت قصته على كتاب «الوعد الحق» للدكتور طه حسين وحشد مخرجه «إبراهيم عز الدين» عددًا كبيرا من نجوم تلك الفترة. وقد ابتعد سيناريو الفيلم عن مضمون الكتاب لأسباب كثيرة منها حرية الكتاب فى الحديث عن النبى - صلى الله عليه وسلم - والصحابة فى مقابل عدم قدرة الفيلم على تصويرهم أو تصوير المشاهد التى تتضمنهم والاكتفاء بصور رمزية، أو بصوت الراوى. وعلى الرغم من أن الفيلم قد لقى نجاحًا كبيرًا فإنه فشل فى تقديم «صورة تاريخية». لقد كان نجاح الفيلم جماهيريًا بسبب موضوعه الذى تناولته السينما المصرية للمرة الأولى، إذ كانت قصة البدايات الأولى لانتشار الإسلام، ومعاناة المسلمين الأوائل - ولاتزال - ذات سحر وجاذبية بالنسبة لجميع المسلمين. وفيما عدا ذلك فإن الفيلم الذى نجح فى تقديم «الحكاية الدينية» فشل فى تقديم «الحكاية التاريخية». فقد كانت الخلفية التاريخية التى صورها الفيلم بعيدة تمامًا عن الواقع التاريخى الذى عاشته مكة والحجاز بشكل عام قبل الإسلام، وفى هذا الفيلم برزت أخطاء «الفيلم» المصرى الذى يتناول موضوعًا تاريخيا بشكل واضح وأهمها عدم الاعتماد على دراسات المتخصصين لإعداد بيئة الفيلم، وهى أخطاء صاحبت - ودائمًا - «الفيلم التاريخى المصرى، إذا كان هناك فيلم تاريخى مصرى». فغالبًا ما يعتمد الفيلم على «تخيل» أو «توهم» المسئولين عن المناظر والديكور، والمسئولين عن الملابس والأسلحة. وقد تجلى هذا الفشل واضحًا فى تصوير حياة القرشيين قبل الإسلام وديكورات بيوتهم، وحاناتهم، وتصوير الكعبة والأصنام، والملابس والأسلحة... وما إلى ذلك، وإذا ما قارنا هذا بما جاء فى فيلم «الرسالة» اتضح لنا الفرق تمامًا. قصة الفيلم ناجحة بسبب رغبة المسلمين الدائمة فى روايتها منذ كتب ابن هشام السيرة النبوية حتى كتب الدكتور طه حسين «الوعد الحق » وحتى الآن. والمدهش أن نجاح فيلم ظهور الإسلام جماهيريا دفع أحمد الطوخى إلى إخراج فيلم آخر عن الموضوع نفسه فى العام نفسه؛ وهو فيلم «انتصار الإسلام» الذى يمكن اعتباره فيلمًا رومانسيا يتشح بثوب قصة دينية، ويتسم بكل خصائص الأفلام الصحراوية ويبقى السؤال مطروحًا بعد استعراض الأفلام التى تحمل عناوين موضوعات تاريخية فى النصف الأول من القرن العشرين: هل شهدت هذه الفترة أفلامًا تاريخية حقًا؟! أخشى أن تكون الإجابة السريعة المباشرة عن هذا السؤال بالنفى. وهناك الكثير من الأسباب التى تبرر هذه الإجابة السلبية: أولا - أن ملخصات السيناريوهات التى قرأناها عن بعض هذه الأفلام فى كتابات بعض المهتمين بتاريخ السينما من ناحية، وأسماء الذين كتبوا السيناريو فى بعض هذه الأفلام من ناحية أخرى، تكشف عن غياب الأرضية التاريخية العلمية التى يقوم بناء الفيلم عليها، وأن من كتبوا السناريو كانوا «يؤلفون» تاريخًا مخصوصًا من وحى أوهامهم ولايقرأون التاريخ. ثانيا - أن هذه الأفلام حملت «توليفة» غريبة من النظرة الاستشراقية الغرائبية إلى المنطقة العربية، وإلى الشرق بصفة عامة، وبعض التوابل الفنية التى صاحبت معظم هذه الأفلام بصورة ممجوجة مثل حفلات الرقص والغناء فى قصور الخلفاء والأمراء والسلاطين التى تصحبها المنادمات وشرب الخمر على طريقة الكباريهات الرخيصة (قارن بين أحد هذه المشاهد فى فيلم تاريخى، ومشهد فى كباريه أو خمارة فى فيلم عادى ولن تجد فرقًا كبيراً إلا فى الديكور». ثالثا - أن المناظر والديكورات، والملابس والأسلحة، والأدوات المستخدمة فى هذه الأفلام من اختراع الفنيين الذين كان معظمهم من الأجانب، ولاعلاقة لها بالواقع التاريخى الذى يمكن أن نجده شاخصًا فى صفحات المصادر التاريخية، وفى قاعات المتاحف فى جميع أنحاء الدنيا، وفى بقايا البيوت والقصور والمدن التاريخية التى لاتزال قائمة حتى اليوم. رابعًا - إن فقر الإنتاج الواضح فى هذه الأفلام يصاحبه ويوازيه فقر فى الفكر التاريخى الذى يتم بناء الفيلم على أساسه.

إن «الفيلم التاريخى» الحقيقى يستحق اهتمامًا حقيقيًا؛ إذ إن التاريخ مهم جدًا فى بناء الهوية الوطنية. وإقبال الجماهير على معرفة التاريخ من خلال السينما أو من خلال التليفزيون يفوق إقبالهم عليه من خلال أى وسيط آخر. وربما يكون الجوع إلى التاريخ بين جماهير الناس الذين يقرأون الكتب، ويشاهدون التلفزيون، ويذهبون إلى السينما، انعكاسًا لحقيقة نقص ما يتعرفون عليه من الموضوعات التاريخية, بسبب تدنى تدريس التاريخ فى المدارس, سواء من حيث الكم أو من حيث كيفية التدريس. إن الحوار والجدل الذى أثاره مسلسل «الملك فاروق»، مثلاً، يشير إلى هذا الجوع إلى التاريخ. وفى تصورى أن الفيلم التاريخى الحقيقى هو وحده الذى يمكن أن يتحمل مسئولية بناء الهوية الوطنية فى زمن توارت فيه مصادر الهوية الأخرى بسبب دعاوى العولمة، وضبابية الأوضاع الداخلية، وتآكل مقومات الانتماء الوطنى ووشائجه، وتنامى مشاعر الإحباط الفردى والجماعى. والسينما، وحدها، لاتزال الأقدر على القيام بدورها فى مجال الفيلم التاريخى الذى يجب أن يقوم على ثلاثية العلم التاريخى، والفن السينمائى، والحبكة الدرامية.

 

 

قاسم عبده قاسم