مستقبل العالم ومكاننا فيه أحمد كمال أبوالمجد

تأملات في..

من معالم مرحلة التطور الفكري والثقافي التي يمر بها العالم في جيلنا هذا، أن المفكرين والمحللين السياسيين والاجتماعيين صاروا يتحدثون عن المستقبل أكثر مما يتحدثون عن الحاضر، وأن الخيال الثقافي، إذا صح هذا التعبير، قد صار أداة معترفا بها للبحث والاستشراف إلى جانب البيانات والمعلومات والأرقام. ولا يحتاج تفسير هذه الظاهرة بشقيها في تقديرنا إلى بحث طويل.

الاهتمام المتزايد بدراسات المستقبل يرجع إلى السرعة النسبية المتزايدة التي تتم بها التطورات السياسية والاجتماعية، وهي سرعة تتزايد معدلاتها عاما بعد عام بسبب الآثار المتراكمة للثورة الصناعية في ميدان الانتقال وميدان الاتصال بصفة خاصة، وفي سائر ميادين الثورة العلمية بصفة عامة، ذلك أن محصلة هذا التراكم أن الانتقال من حالة اجتماعية وسياسية إلى حالة أخرى، صار يتم ويتكون في فترات زمنية بالغة القصر إذا قيست بما كان عليه الحال منذ قرن أو قرنين من الزمان.

ومعنى هذا كله أن المستقبل قد صار يقتحم على الحاضر أبوابه، وأننا نعيش حالة يمكن أن نطلق عليها الوصف الذي أطلقه الحديث النبوي الشريف، وهو وصف "تقارب الزمان" في إشارة واضحة إلى سرعة تعاقب مراحل التطور وما تحمله كل مرحلة منها من ظواهر وأحداث.

الخيال العلمي وتطور البشرية

أما الاعتراف بدور الخيال في رسم صورة المستقبل، فمرجعه أن تحرك عناصر الواقع نحو المستقبل لا تحكمه معايير محددة يمكن رصدها على نحو دقيق أشبه بما يجري في عالم الطبيعة وعلومها، إذ يبقى السلوك الإنساني دائما ثغرة واسعة في جدار المنطق الصارم الذي يحكم الظواهر الطبيعية والقوانين التي تضبط حركتها وعلاقاتها. ولذلك يحتاج الباحث إلى تصورات ورؤى يجري بها تقدير حركة الظواهر الاجتماعية في امتدادها عبر الزمن نحو المستقبل القريب والبعيد. وإذا كان الخيال العلمي قد لعب دورا مقربا ومعروفا في تطور العلوم واكتشاف القوانين الطبيعية، فإن الخيال الثقافي يستطيع بدوره أن يلعب دورا نافغا في استشراف صور الحياة الاجتماعية والعلاقات السائدة فيها في المستقبل القريب والبعيد. وجدير بنا- نحن العرب- أن نستقبل هذا الاهتمام المتزايد بدراسات المستقبل، استقبال المرحب لا استقبال المتوجس المرتاب، فنحن أمة طال انكفاؤها على الماضي وانحصارها في تجاربه، واستغرافها في أجوائه، حتى حال بنا ذلك كله- في أحيان كثيرة- دون التجاوب مع متطلبات الحاضر أو الاستعداد لمواجهة تحديات المستقبل القريب.

ونقطة البدء في كل دراسات المستقبل، سواء اعتمدت تلك الدراسة على المنهج العقلي الصارم، أو اعتمدت على شيء من الخيال، هي رصد عناصر الواقع وفهمها وتحديد اتجاه حركتها.

وفرق هائل في منهج هذا الرصد بين عين المؤرخ وعين التاريخ، فمان عين المؤرخ تحصر فيها أحيائا في رؤية بعض الظواهر دون بعضها الآخر. كما أنهم بحكم الطبيعة الإنسانية لأشخاص المؤرخين عين منحازة تمنح بعض الظواهر والحوادث أحجاما وأوزانا وتأثيرات أكبر أو أصغر مما تستحق مما ينتقص من موضوعية الرصد والدقة، ويؤدي بالضرورة إلى درجات متفاوتة من أخطاء التقدير تترتب عليها أخطاء مماثلة في تحديد النتائج المتوقعة.

ودون دخول في تفاصيل عديدة تتعلق برصد الظواهر الكبرى التي شهدها ويشهدها هذا العقد من الزمان، فإننا نسجل الظواهر التالية:

1- سقوط عدد من الأنظمة السياسية والاقتصادية في الاتحاد السوفييتي وشرق أوربا، وتحول دول عديدة في تلك المنطقة من الشمولية السياسية إلى التعددية والديمقراطية بصورها الغربية. وتحول الدول ذاتها من النظام الاقتصادي القائم على التخطيط المركزي الصارم وعلى هيمنة الدولة على الإنتاج والنشاط الاقتصادي إلى نظام الحرية الاقتصادية القائم على آليات السوق.

2- انتهاء الحرب الباردة بين الدولتين الكبريين، وانتهاء الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي والعسكري الذي ساد العالم خلال نصف القرن الماضي بين معسكر اشتراكي يقوده الاتحاد السوفييتي ومعسكر رأسمالي تقوده الولايات المتحدة، مما بدا معه أن العالم يتجه إلى صورة من صور الواحدية في النظام الدولي، وبدا معه لآخرين أن العالم- فوق ذلك- يتجه إلى صورة من صور الواحدية في النظام السياسي والاقتصادي الداخلي للدول المختلفة، هي صورة الحرية السياسية والاقتصادية المطبقة في الغرب، وفي هذا الإطار جرى حديث البعض عما سموه "نهاية التاريخ".

3- بداية تشكيل نظام عالمي جديد، تجمعت فيه أوربا كوحدة اقتصادية مترابطة في مقابل الكتلة الاقتصادية المكونة من الولايات المتحدة وكندا، والكتلة الآسيوية التي تمثلها اليابان، وعدد من الدول الآسيوية الأخرى مثل تايوان وكوريا وسنغافورة.

حول دور العرب في النظام العالمى الجديد

وكان طبيعيا أن نتساءل- نحن العرب والمسلمين- عن مكاننا في هذا العالم الجديد، خصوصا وقد صاحبت عملية الزلزال العالمي ظواهر عديدة تتصل بنا. وبدا واضحا أننا بفكرنا وثقافتنا وشعوبنا وكل ما نمثله قد صرنا جزءا أساسيا من أجزاء الصورة التي يعدها أقطاب النظام الدولي الجديد للمستقبل القريب للعالم. لهذا لم يعد جائزا ولا مقبولا أن نواصل مسيرة الإنكفاء على الماضي، وأن نترك مآلنا في المستقبل القريب والبعيد بين يدي الغير، يقررون أمره ويخططون له. ونبدأ عرض تصورنا لدور العرب والمسلمين في النظام العالمي في مستقبله القريب برصد الظواهر وتقرير الحقائق التالية:

1 - أن هناك موجة تدين عام تجتاح العالمين العربي والإسلامي، تتمثل في الحرص على مزيد من الاستقلال الثقافي والسياسي، وفي إقامة أنظمة اجتماعية واقتصادية مستمدة من عقيدة الإسلام وثقافة الإسلام ومن شريعته. وهذه الموجة تمر حاليا بمرحلة مخاض طويل وصعب، يجري خلالها فرز الظواهر وتحديدها تمييزا بين ظواهر التطرف والراديكالية الناتجة عن الإحباط والرغبة في الثأر من هزائم حضارية قديمة وحديثة، وظواهر التألق الروحي والثقافي التي تعبر عن رغبة واعية في تثبيت قيم الثقافة الذاتية الخاصة. وفي أداء دور عالمي نابع من تلك القيم متواصل على نحو صحي وإيجابي مع سائر الأمم والشعوب.

2 - أن هناك حملة حقيقية وإسعة النطاق ومدبرة بإحكام واضح جوهرها تشويه صورة الإسلام والمسلمين في نظر العالم، وتحريض الحكومات العربية والإسلامية على مطاردة كل الحركات الثقافية والسياسية التي تتطلع إلى بناء نهضة الشعوب العربية والإسلامية على أساس من الإسلام ومبادئه وشرائعه. وقد حققت هذه الحملة جانتا كبيرًا من أهدافها حتى أستقر في أذهان مئات المتخصصين في الدراسات السياسية والاجتماعية أن الإسلام دين يحارب التقدم والنهضة، ويحجر على حقوق الأفراد والشعوب، ولا يهتم بحرياتهم، ويرفض كل صور المشاركة الشعبية في الحكم. وأنه فوق ذلك يقف موقفا عدائيا صارما من أبناء الأديان والعقائد الأخرى. كل استقر في وجدان الملايين أن الشعوب المسلمة غريبة على مسار التطور الإنساني المعاصر، وعلى القيم المشتركة بين الشعوب المعاصرة، وفي مقدمتها قيمة الإيمان بحتمية التعددية الثقافية والسياسية، والتوجه نحو الاعتماد المتبادل بدلا من نفي الآخرين والسعي إلى القضاء عليهم. كما توصلت هذه الحملة إلى ربط كثير من الناس- بحسن نية- بين الإسلام كعقيدة ونظام حياة، وبين التعصب والإرهاب واستخدام العنف تجاه الآخرين. وتوصلت في النهاية إلى اقتناع عدد كبير من أنظمة الحكم القائمة في العالمين العربي والإسلامي بأن التيار الإسلامي بكل روافده يمثل خطرا حقيقيا عليها كأنظمة، كما يمثل خطرا داهما على الأمن والاستقرار وعلى فرص التقدم الحقيقي في الميادين العلمية والاجتماعية والاقتصادية.

والحضارة الغربية أيضا في مهب الريح

ولقد ساهم في تشويه صورة العرب والمسلمين لدى الشعوب المعاصرة أن سلوك عدد غير قليل من أنظمة الحكم في الدول العربية والإسلامية، قد أعطى الحريصين على تشويه تلك الصورة فرصة ثمينة للتدليل على مطاعنهم واتهاماتهم. فإلى جانب الفردية والمزاجية المطلقة في اتخاذ القرارات ورسم السياسات، هناك العديد من التصرفات الملتوية التي يتعذر معها التفاهم والتعامل مع تلك الأنظمة. وهناك الفجوة الهائلة بين الكلمة والفعل، وبين الشعارات المعلنة والسلوك اليومي في الأمور الداخلية والخارجية على السواء. وهناك التذبذب الهائل في المواقف والقفز من النقيض إلى النقيض. كل ذلك ساهم في تثبيت الصورة التي أريد رسمها للعربي والمسلم، وهي صورة سهلت لكثير من الدول الأوربية اتخاذ مواقف عملية ضد العرب والمسلمين، كما ساعدت على نمو موجة كراهة العرب والمسلمين، والرغبة في التخلص من أكبر عدد منهم وإجلائهم عن الاراضي الأوربية، وحرمانهم من كثير من الحقوق. غير أن المستقبل لا تصنعه الأمور العارضة، والتاريخ لا تتحكم فيه أهواء الأفراد والجماعات، فإلى جوار ما تقدم جميعه تظهر حقيقة كبرى لا يجوز الغفلة عنها، وهي أن الحضارة الغربية التي يتصور البعض أنها ورثت الدنيا وانفردت بقيادتها تواجه- من داخلها- أزمات كبيرة- وفي تقديرنا أن انهيار النظم السياسية والاقتصادية لدول أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي لا يعني بالضرورة انتصار الحضارة الغربية ونظمها السياسية والاقتصادية. ولا نريد هنا أن نطيل الحديث في تقييم مسيرة الحضارة الغربية، أو أن نكرر المقولات التي قدمها منذ أكثر من نصف قرن المؤرخ والفيلسوف الألماني "أزوالد شبنجلر" عن انحلال الغرب، وإنما نسجل ظاهرة مركزية معاصرة متعلقة بهذه الحضارة، وهي أنها نتيجة الأسس لفلسفة النظام الاقتصادي الذي تقوم عليه قد تحولت تدريجيا إلى حضارة شيئية استهلاكية يتحكم من خلالها المنتجون في حياة الناس من خلال تحويلهم شيئا فشيئا إلى مجرد مستهلكين للسلع والمنتجات، وقد كان من بين ذلك أمور ثلاثة:

1 - استمرار تعاظم الفجوة بين الأغنياء والفقراء على مستوى العالم كله.

2 - وجود أزمة حادة في العلاقات الإنسانية داخل الأسرة وعلى مستوى العلاقات الثنائية والجماعية سادت النرجسية وعبادة الذات وفترت جميع الروابط التي تنشى علاقات عاطفية بين الأفراد مما أدى إلى انتشار الجريمة والعنف والزيادة الهائلة في تنظيم العلاقات عن طريق الخصومات القضائية.

3- التهديد غير المسبوق للبيئة نتيجة اندفاع الناس إلى إقامة المصانع وتبديد الثروات الطبيعية، وقلة الاحتفال بالمحافظة على البيئة رعاية للأجيال المقبلة.

ووسط هذا الجو الخانق المشبع بالحيرة والقلق والخوف من المستقبل المجهول، تحتاج البشرية وهي على أعتاب عصر جديد ونظام جديد للعلاقات بين الشعوب، إلى بنية تحتية من القيم والمبادئ يقوم على أساسها هذا النظام. وهنا يبرز الإسلام أساسا صالحا ونبعا فياضا لهذه القيم والمبادئ التي تقيم للعلاقات الإنسانية منهجا قائما على تكريم الإنسان وتقديس حرمة دمه وعرضه وماله، وقائما كذلك على مبدأ المساواة المطلقة بين الناس والشعوب، وقائما في النهاية على إشاعة الود والرحمة والتكافل والسلام، تحيط بذلك كله نظرة إنسانية شاملة تضع العناصر المادية في حياة الإنسان موضعها الصحيح إلى جوار حاجاته المعنوية والروحية، كما تضع قضية العدل الاجتماعي موضعها الرفيع داخل إطارا تصور شامل لأساسيات العلاقات الإنسانية داخل الجماعة، وأساسيات العلاقات بين الدول والشعوب.

ضمانات النجاح للدور الحضاري

ويبقى أن أداء المسلمين والعرب لهذا الدور الحضاري الذي تشتد الحاجة إليه عند هذا المنعطف التاريخي من حياة البشرية مرهون بأمرين، يحتاجان إلى رعاية وإلى عمل دءوب: - تأملات و.. مستقبل العالم، ومكاننا فيه

الأمر الأول: العمل بكل سبيل على وقف موجة المعاداة للإسلام والمسلمين، وهو عمل ينبغي أن يبدأ بتوقف الأنظمة الحاكمة في الدول العربية والإسلامية عن مسايرة هذه الحملة الظالمة، ومراجعة المحرضين عليها والمطالبين بها. كما يبدأ بحملة مضادة واعية مبصرة يقودها أصحاب الرأي الرشيد والكلمة المسموعة من المثقفين ورجال السياسة، تدعو إلى نوع من الوفاق الثقافي، وإلى قبول التعددية الثقافية، ووقف حملات الإبادة والتصفية الموجهة للثقافة العربية والإسلامية، ولأصحاب تلك الثقافة.

الأمر الثاني: محاربة العزلة التي يعيش فيها كثيرون من أهل الفكر ومن الدعاة في عالمنا العربي والإسلامي، وهي عزلة تيسر سبيل تشويه صورة العرب والمسلمين، كما تحول دون أدائهم لدورهم الحضاري الذي يتطلعون إلى أدائه، وتخلق ألوانا من القطيعة وسوء الفهم وسوء الظن المتبادل، وتحرم المسلمين والعرب من أن يكون لهم مكان كريم في ساحة العمل لإقامة نظام عالمي جديد.

إن العرب والمسلمين مطالبون بيقظة عاجلة يتوقفون فيها عن اجترار المشاكل القديمة الموروثة، كما يتوقفون فيها عن الاكتفاء بقذف الآخرين بسهام النقد والاتهام والإدانة، ويبدأون مسيرة تواصل ومودة مع الدنيا كلها، يكسبون بها أنصاره وأعوانا داخل بلادهم أولأ، وعلى امتداد ساحة الفكر والثقافة العالمية ثانيا، ويفتحون بها أبواب العقول والقلوب لتستمع إليهم وتطمئن إلى مودتهم، ولتتعرف من جديد إلى ما يمكن أن يقدمه المسلمون من خير للدنيا المعاصرة، وهي تتطلع إلى مسيرة نهضوية جديدة، تحقق للإنسان قدر، أكبر من السلام مع نفسه، ومع بيئته ومع الدنيا كلها.