اللغة حياة

اللغة حياة

النحت غير الاجتزاء بالأوّل وغير الإلصاق

في الفرنسيّة مصطلح ترميزيّ هو sigle ويعني في أصله اللاتينيّ: الرموز الاختصاريّة، ويعني في المصطلح الحديث: اختصار الاسم المستعمَل كثيراً بالحرف الأول منه أو بالأحرف الأولى من الكلمات الأساسيّة التي رُكّب منها، نحو: UN المأخوذ من: United Nations، ونحو: جج، المأخوذ في العربيّة من: جمع الجمع.

وقد ارتأينا ترجمة هذا المصطلح بـ «الاجتزاء بالأَوّل»، وذكرناه للتفريق بين معناه ومعنى النحت، ولرفع اللبس المحتمل من أذهان جمهور من مستعملي اللغة؛ فالنحت مزج بين الكلمات بعد حذف أجزاء منها لتستقيم في وزن لغويّ، وهو غير قياسيّ، كما يؤكد سيبويه، وقد اشترط مجمع اللغة له وجود ضرورة علميّة، وإن انتقدنا ذلك؛ على حين أنّ «الاجتزاء بالأوّل» قياسيّ يمكن تطبيقه بغير شروط على أي عَلَم أو مصطلح مركب يكثر استعماله.

لكنّ العرب ألبسوا معنى النحت بعضَ صيغ «الاجتزاء بالأوّل»، وإن لم يعرفه أكثرهم، أو يفكّروا فيه؛ ومن أقدم ذلك مصطلح الأبجديّة، الذي أُخذ من أوائل الأحرف العبريّة: آلِف، بيت، جَمَل، دالت، وحُرِّكت أحرفه فجُعلت معاً على وزن «أَفْعَل»، ثم أُلحقت به ياء النسبة لتكون الكلمة صفة للحروف، ثم صارت تلك الصفة من الكلمات العامّة الاستعمال في العربيّة، حتّى زعم بعضهم أنّ أَبْجَد من ملوك مَدْيَن. بيد أنّ «الألفباء»، بخلاف الأبجديّة، نحت صريح، مُزج فيه اسما أول حرفين من حروف الهجاء: الألف والباء، بكامل لفظهما، للدلالة على حروف الهجاء كلّها؛ والأرجح أنّ الكلمة مقتبسة من المنحوتة اليونانيّة الأصل alphabet.

وفي العصر الحديث نشأ، مثلاً، اسم «حركة التحرير الفلسطينيّة»، في الستينيّات من القرن الماضي، فاختصروها بالحاء والتاء والفاء، لكنّهم حرّكوا الحاء بالفتحة وأسكنوا التاء، فكان لهم: حَتْف، وكأنّهم أرادوا التذكير بمعنى الموت، وكانوا يتمنّونه للقتلة الصهاينة؛ ثم خطر لهم أن يستبدلوا من هذا المعنى، على ما يبدو، معنى تفاؤليّاً، فقلبوا الكلمة وجعلوها بلفظ «فَتْح»، وهو المستعمل اليوم؛ وأجروا ذلك الاسم مجرى الاسم المُعْرَب، الذي يُرفع وينصب ويجرّ بحسب موقعه من الجملة، ونسبوا إليه نسبة عاميّة هي فتحاويّ.

ونشأت في لبنان «أفواج المقاومة اللبنانيّة» فاجتزأوا اسمها بالألف والميم واللام، وحرّكوا تلك الأحرف بما يوحي فكرة الأمل، إذ جعلوا الكلمة على وزن «فَعَل» وأجروها مجرى المُعْرَب أيضاً. لكنّ اختصار اسم «حركة المقاومة الإسلاميّة» في فلسطين بكلمة «حماس» يبدو أدخل في النحت؛ لأنّهم لم يكتفوا بالأحرف الأولى من كلماته، بل أخذوا حرفاً من كلٍّ من الاسمين الأولين وحرفين من الاسم الثالث، فضلاً عن أنّهم حركوا المختصر بحيث صار بزنة «فَعال»، وصار له من ثَمّ معنى الاندفاع إلى العمل أو الحرارة في تأييد شخص حقيقيّ أو معنويّ أو فكرة أو قضيّة.

ويعتقد بعضهم أنّ النحت ضرب من الإلصاق المعروف في لغات الغرب وغيرها، وهو الجمع بين كلمتين كاملتين، غالباً، أو أكثر من كلمتين، في كلمة واحدة؛ أو إدخال زوائد على الكلمة ذات أصل اسميّ أحياناً. والحقيقة أنّ العربيّة قلّما تقبل إدماج كلمتين أو أكثر بعضهما ببعض من غير حذف، لأنّ غاية ما تحتمل الكلمة العربيّة البسيطة، خمسة أحرف أصليّة، ولهذا قلّ التركيب المزجيّ فيها، وبدا أكثر هذا المزج عطفاً حذفت منه أداة العطف، كالمركّب العدديّ، نحو: خمسة عشر، وكبعض الظروف، نحو : ليلَ نهارَ (= ليلاً ونهاراً) وبعض الأحوال، نحو: بيتَ بيتَ، في قولنا: أنت جاري بيت بيت (= بيتاً فبيتاً)، وبعض عبارات الاتباع، نحو: حيصَ بيصَ؛ وكقليل من أسماء العَلَم، والمنحوت منها في أكثره، وربّما كلّه، معرَّب، فهو مركّب تركيباً مزجيّاً في لغته الأصليّة، وليس في العربيّة؛ مثل: بَعْلَبَكّ، وسِيبَوَيْه، وليس منها بيت لحم، خلافاً للرأي الشائع عند كثير من اللغويّين، ذلك أنّ هذا الاسم مركّب تركيباً إضافيّاً، فهو معرب ومصروف.

أمّا الزوائد الأجنبيّة فتكاد تقابل أحرف الزيادة في العربيّة، والفرق بينها وبين تلك الأحرف أنّها، ولاسيّما في الفرنسيّة والإنكليزيّة، كثيرة جداً وتؤخذ من اللغة نفسها أو من مصادر قريبة منها كاللاتينيّة واليونانيّة، وتتضمّن معاني ثابتة تُشربها الكلمةَ التي تُدخل عليها؛ وقد تكون أسماء أو أجزاء من أسماء، وأكثرها يزيد على الحرفين، وربّما استُعمل بعضها مستقلاً وليس زيادة ملصقة، مثل entre الفرنسيّة ومعناها «بَيْنَ» فقد تستعمل مستقلة في نحو: Tenir entre ses doigts (يمسك بين أصابعه) أو تلصق كزوائد في نحو: entrevue (مقابلة)، وقد يشتقّ من الزوائد صفات، مثل: super (في الأعلى) التي تشتقّ منها صفة: superieur (أعلى) ومصدر: superiorite (تفوّقٌ) وغير ذلك.

على حين أنّ الزوائد العربيّة عشرة حروف لا معنى لها إلاّ إذا دخلت في الكلمة، نحو: أسعده، حيث استعملت الهمزة للتعدية؛ والزيادة لا تكون، في العربيّة، إلاّ بحرف واحد، أو حرفين منفصلين (بادئة وحشو)، إلاّ في صيغة الاستفعال، حيث الزيادة ثلاثة أحرف متوالية، وحرف وسيط. ولا يمكن أن تستعمل الزوائد العربيّة مستقلّة، ولا أن يشتقّ منها صفات أو مصادر. فإذا أريد استعمال كلمات عربيّة ذات معان مستقلة بمثابة زوائد، على الطريقة الإلصاقيّة، خرج الأمر عن المقاييس العربيّة، وربما أدّى إلى تطويل لا تحتمله اللغة.

ولهذا ليس مقبولاً ما اقترحه بعضهم من استعمال: قبتاريخ، أو قبلتاريخ، لما قبل التاريخ؛ والفرق بين أن نقع في هذه العُجمة وبين أن نحافظ على عربيّة الكلام هو تحريك اللام في قبل، وإدخال أل التعريف على تاريخ، ليقال: قبل التاريخ. وليس هذا بشاقّ ولا يجافي الاقتصاد اللفظيّ، ولاسيّما إذا عرفنا أنّ التركيب المقابل في الفرنسيّة، مثلاً، وهو : prehistoire - وفيه إلصاق - يبلغ ثمانية أحرف ما بين صامت وصائت طويل؛ أي نفس عدد حروف التركيب الإضافيّ العربيّ. ومن عجائب ذلك ما ابتكره أحد أصدقائنا من علماء النفس، حين ألصق كلمة «قياس» بكلمة «مجتمعيّ» ليخرج بمصطلح قياسمجتمعي! وما ضرّه لو فصل الموصوف عن الصفة، وجعل المصطلح تركيباً وصفيّاً هو: قياس مجتمعيّ؟ إنّ اللغات الأوربيّة استخدمت في صياغة مصطلحاتها التركيب الإضافيّ والتركيب الوصفيّ، فلماذا تحاشي هذين التركيبين والإصرار على النحت والإلصاق؟

وأسوأ من ذلك إدخال الزاوئد الأجنبيّة على الكلمات العربيّة، بحيث يكون جزء من الكلمة أجنبيّاً وجزء آخر عربيّاً، وقد عرضنا لذلك في مقالة سابقة، وبينا أنّ هذا ليس عربيّاً، بل هو تهجين.

 

 

 

مصطفى الجوزو