جمال العربية
جمال العربية
إيليا أبو ماضي شاعر «التفاؤل» لتكن حياتك كلُّها أملاً جميلاً طيّبا هذا المقطع من قصيدة «المساء» التي أبدعها الشاعر المهجري إيليا أبو ماضي يلخص الجوهر المشعّ في كل شعر هذا الشاعر الكبير، الذي يلخصه عنوان هذا المقال في نزوعه الدائم إلى التفاؤل، وحث الإنسان - حيثما كان - على أن يكون موقفه من الحياة والوجود موقفاً إيجابياً متفائلاً، مهما صادفه من عقبات وصعاب. وقد أثّرت شاعرية الشاعر وإبداعاته في شعراء المهجر الأمريكي في شماله وجنوبه, الذين عدّوه رائدًا وقدوة وطليعة، بالرغم من تأثره برفاقه من كبار المبدعين: جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ونسيب عريضة، الذين سكبت كتاباتهم في روحه الظمأى المتعطشة محبة الجمال، في شتى صوره وأشكاله، والالتفات إلى الطبيعة الزاخرة بفنون هذا الجمال، والانشغال الفكري المتأمل بمعنى الوجود وغايته، ودور الإنسان فيه. من هنا كان حديث جبران عنه - في تقديمه للجزء الثاني من ديوانه -: «الشاعر طائر غريب يفلت من الحقول العلوية، ولكنه لا يبلغ الأرض حتى يحنّ إلى وطنه الأول، فيغرّد حتى في سكوته، ويسبح في فضاء لا حدّ له ولا مدى، مع أنه في قفص. وإيليا أبو ماضي شاعر، وفي ديوانه هذا سلالم بين المنظور وغير المنظور، وحبال تربط مظاهر الحياة بخفاياها، وكئوس مملوءة بتلك الخمر المقدسة التي إن لم ترشفها تظل ظمآن حتى يغمرنا الطوفان». ومن هنا أيضًا كان حديث ميخائيل نعيمة عنه في تقديمه لديوانه الثالث «الجداول»: «بين هذه «الجداول» ما تنساب معه روحي مترقرقة، مترنمة، مطمئنة جذلة بنور عينيها، وجمال جانبيها، مرحةً بحريةٍ لا أرصاد فيها ولا قيود، ومدى لا آفاق له ولا حدود. هكذا أقرأ قصيدة «الطين» فأسمع لها أصداء كثيرة في نفسي، ومثال «تعالي» و«ريح الشمال» و«في القفر» و«الماء» و«العميان» و«الزمان» وسواها: أقرؤها غير ناظر إلى قافية مقلقة أو كلمة شاردة، بل إلى جملة ما يتجلى لي فيها من الرسوم، وما تحدثه في نفسي من الرعشة، وتنبهه في وجداني من الشعور والخيالات، وقد أكتفي من القصيدة كلها ببيت واحد، إذا كان لذلك البيت وقع في روحي. ولا يندر أن أجد لذة حتى في قصيدة لا تأتلف مع أهوائي ومنازعي كقصيدة «برّدي يا سحب» لأني وإن كنت أنكر على نفسي أن تقول: كلّ نجمٍ لا اهتداء به لا أبالي لاح أو غربا لا أنكره على أبي ماضي، بل أعجب لقوة بيانه لمعتقده إذا كان ذلك ما يعتقد». ثم يقول نعيمة: «لا شك عندي في أن فريقاً من الذين نذروا حياتهم للذب عن حياض اللغة العربية، يصمّون آذانهم عن خرير هذه الجداول الشجيّ، ويفتحون أبصارهم علهم يجدون في حصبائها ما ينطبق على مقاييسهم ويوزن بموازينهم، ولعلهم يظفرون ولو ببعض ما يطلبون. أما أنا فأبارك هذه الجداول المنسابة إلى بحر شعرنا الواسع لأنها ستزيده اتساعاً وهيبةً وصفاء». إيليا أبو ماضي إذن هو شاعر الجمال وشاعر التغني بكل ما هو جميل والدعوة إلى عشق الحياة والوجود والترنّم بنغمة التفاؤل مهما كانت جهامة الأشياء. يقول في قصيدته «عش للجمال»: عشْ للجمال تراه العين مؤتلقا وفي سياق هذه الروح المتفائلة وهذه الدعوة المتصلة عبر دواوينه الخمسة: «تذكار الماضي»، و«ديوان إيليا أبي ماضي» و«الجداول والخمائل» و«تبر وتراب»، إلى تأمل مظاهر الجمال والافتتان بتجلياته في الطبيعة والإنسان والوجود، تجيء دعوته إلى «الابتسام» باعتباره علاجاً وحلاًّ وأسلوبًا في مواجهة تجهّم الحياة وخيانة العهود وعلوّ صوت الأعداء والليالي المترعة بالعلقم قبل أن يفاجئنا الموت ويدهمنا الرحيل، ولا تكون هناك فرصة بعْدُ للتبسم. يقول في قصيدته «ابتسم»: قال: «السماء كئيبة» وتجهّما وفي دواوين إيليا أبي ماضي مواجهة دائمة من الشاعر لكل من يواجهون الحياة بالشكوى والغضب، في الوقت الذي تمتلئ الحياة من حولهم بما يجعلهم - لو تأملوه وعرفوا قدره وقيمته - سعداء، ويكفي أن يفتح الإنسان عينيه ليرى جمالا يُنسيه القبح، وفضائل تشغله عن الرذائل، وخيراً يفوق مساحة الشرّ، وغنًى في عناصر المحبة وصور التعاطف والأخوة والإنسانية وسعي الإنسان الدائب إلى الحرية والعدل والمساواة يفوق بكثير ما يعانيه البعض من خواء الروح وجدب الفكر ونضوب المحبة وانعدام التآخي والتضامن. يقول في قصيدة عنوانها: «كم تشتكي»: كم تشتكي وتقول إنك معدمٌ وفي ختام قصيدته البديعة يقول إيليا أبو ماضي: أحبابنا ما أجمل الدنيا بكمْ أبو ماضي واحد من مبدعي اللغة الشعرية العصرية التي ابتعدت تمامًا عن التأثر بلغة التراث الشعري العربي، لغة لها تفردها وجرأتها وانفتاحها على روح العصر وطبيعة مجتمعات المهجر المغايرة لطبيعة المجتمعات العربية التي كانت في زمانه راقدة في سلفيتها وتخلفها وانكفائها على ماضيها تستعيده وتجترُّه، من غير قدرة على التجاوز أو الإضافة. واحد من الذين أغنوا القصيدة العربية - في النصف الأول من القرن العشرين - بالفكر والتأمل وعمق النظرة إلى الحياة والوجود كما يتجلى في قصيدته الطويلة «الطلاسم». واحد من الذين صنعوا للقصيدة الحديثة صيغة متطورة غنية بالموسيقى والإيقاع، متخففة من أسر القصيدة العمودية ونموذجها الثابت الراسخ. واحد من المبدعين الكبار الذين أفسحوا للشعر الإنساني وقضايا الإنسان المعاصر، ولشعر الطبيعة، مجالا رحبا في دواوينهم وقصائدهم، فهو بهذا المعنى شاعر الحرية والعدل والإخاء، وشاعر الإشادة الدائمة بالوطن الأول والحنين إليه والدعوة إلى يقظته ونهوضه واستقلاله وحريته، في نموذج شعري لافت يستوعب جماليات الشعر المهجري وانطلاقاته ومغامرته الفذة من أجل قصيدة لها مذاقها الحضاري والثقافي والفني المغاير. يقول في قصيدته «فلسفة الحياة»: أيهذا الشاكي وما بك داءٌ في ختام قصيدته العامرة بالدعوة إلى التفاؤل والانتصار بهذا التفاؤل على كل ما نواجهه في الحياة من تحديات وصعوبات يقول: كن غديراً يسير في الأرض رقراقاً وصولاً إلى لحن الختام: أيهذا الشاكي وما بك داءٌ
|