إلى أن نلتقي

 إلى أن نلتقي

الممشوقة

شموخٌ بلا زيْف.. تحدّت جذوره
عوادي الليالي والغناء المُسَهّدا
ألا يا نخيل الله لا جَذّ جذعك
من الأرض بتار يدكّ المشيدا (1)

عاملان عظيمان من عوامل التحضّر، والحضارة، ولمعان الوعي. النخلة، والبحر.. فحيث وجدا، أو وجد أحدهما، كان لأبنائهما ما يعطيانه من تلك العوامل.

هنا.. يبحر بنا الحديث في موج النخلة.. إذ كيف يمكن لابن النخلة أن يكتب عنها وهو يتقمصها في دمه كل لحظة..؟

كيف، والكتابة عن هذه: الأم، والعمة، والأرض، والهوية، والكنز الوفير أخطبوطي الدخول؟

كيف يمكن التغني بهذه الممشوقة التي تُقاسمُنا مقومات الحياة..؟

بالطبع لن يكون الحديث عنها بعبارات جاهزة، مجانية، مقولبة، يعرفها الجميع، ويقولها الجميع. بل هو شيء من بعض الذكريات مع هذه المخلوقة الممشوقة لنرى كيف التصقنا بها، والتصقت به؟ في واحة الأحساء (بفتح الألف)، حيث غابات النخيل الشاسعة، والعدد المناهز للثلاثة ملايين نخلة، كنا، ولانزال نحتمي بها، هي التي تحمينا من كل التقلبات الطقسية، والمناخية والبشرية أيضاً بدلاً من أن نحميها نحن.. (وهو ما هو قائم أيضاً). أتذكر الآن قول جارنا الحاج حمدان بن عيسى، وهو يسمع جلساءه مثالاً (نخلاوياً) كان كثيراً ما يضرب به حين يتنهد بحسرة عن أحد الكسالى، والعاجزين الذين يقدمون الأعذار في كسلهم بقولهم (هذي النخلة الطويلة ما أقدر أصعدها، وهذه القصيرة فيها شوك.. ما أقدر أقرّب عندها)!! كان والدي يستقبل التمر من مريديه، فيكنزه في «الكندوج» (وهو مخزن التمر المعمول على شكل غرفة مرتفعة في داخل غرفة التمر) بالمنزل، فنتسلل بعد حين لنفتح «الخابية» (المكان المخصص في أسفل مخزن التمر ليتسرب إليه الدبس)، ونغمس أصابعنا فيها ثم نلعق الدبس أو نأخذ منه شيئاً في وعاء معدني لنبيعه (خلسة) إلى أترابنا وجيراننا بمبلغ زهيد، أو ثمين أحياناً، والدبس: هو عسل التمر، ولا أخال أحداً في الوطن العربي كله لا يعرف التمر وعسله. كانت النخلة - ولاتزال - مؤشر عافية، وثقافة، وتراث، وسمة، ومودة، ورحمة، وخير كثير. وقد يخلو بيتك من سائر أنواع الفاكهة، أو اللحم، أو الحليب ومشتقاته، أو الأرز، أو باقي المواد التموينية الأساسية المنزلية الأخرى، لكنه لن يخلو من التمر.

الله.. إذن هذا هو خير الدنيا كله..:

تمر - أي نوع منه - وماء صاف.. تتناولهما ثم تعقبهما بحمد الله وشكره، هذا هو كل المطلوب لا أكثر.. إشباعاً، وصحة. هذا هو كنز الدنيا..!

لقد حاول أحد الإخوة الباحثين في شئون النخلة أن يعثر على شيء منها لا يمكن الاستفادة منه، فلم يفلح، بل وجد أنه حتى للشوك فائدة..!

قد يبلغ الأمر عند بعض فلاحي أهل الأحساء (وأحسب كل الفلاحين كذلك) ممن يملك بعض النخيل أن يرهن بيته أو يبيعه عند حاجته للمال، لكنه.. لا يَسْخُ بنخلة (إلا في حالات شديدة الندرة جداً.. قد لا تتكرر)!.
--------------------------------
* شاعر وكاتب من السعودية.
(1) من قصيدة قديمة للكاتب عن النخلة.

 

 

 

محمد الجلواح