دروس من الهند

دروس من الهند

كثيرون هم الذين زاروا الهند ويزورونها، ولكن ما يسترعي انتباه المبدعين يتجاوز تلك الأبعاد التي يتعاطى معها السائح العادي الذي تنقضي علاقته بتلك البلاد بانتهاء مدة الإقامة واستنفاد أغراضها.

إن الصورة الحقيقية للهند الحاضرة قد تجاوزت تلك الصورة النمطية التي رسمها المستشرقون وهي مشبعة بالفولكلوريات والطقوس والعادات الغريبة، فالهند أوسع وأعمق من ذلك بكثير، وها نحن أولاء نرى ونتابع كيف أنها أخذت تفرض على العالم صورة جديدة باتت تتحرك باتجاه المستقبل بقوة وتشرع أبوابا مختلفة على حقول عديدة من العلم والإبداع، ليست صناعة الفضاء والطيران وتكنولوجيا السلاح الذري وصناعة السيارات والطيارات والدواء والسينما وأخيرا البرمجيات إلا حزمة مافتئت تتوالد بكل ما هو جديد وباهر.

وهنا نتساءل حول العلاقة بين هذه النهضة الكبيرة وصيرورة القيم الهندية؟

وقبل أن نجيب عن هذا التساؤل لا بد من القول إنه ليس بالوسع التحدث عن الهند في هذه المقالة إلا بمقدار ما تسمح به المشاهد والانطباعات التي اختصرناها على شكل دروس مستقاة من واقع المعايشة للحياة اليومية.

كانت الهند بالنسبة لي حلما تحقق حين تلقيت دعوة من جامعة حيدر أباد «المعهد المركزي الحكومي للغة الإنجليزية، واللغات الأجنبية سابقا» للمشاركة بورقة في الندوة التي أقامتها الجامعة عن الأدب العربي في عمان في العام 2006م تزامنا مع احتفالات مسقط عاصمة للثقافة العربية.

وعودة إلى تساؤلنا المتقدم حول علاقة النهضة بالقيم فإنه لا شك أن ثمة قيما وسلوكيات كانت وراء ما تميزت به الهند وما حققته من نهضة معاصرة فما من نهضة في هذا العالم إلا وقد بنيت على قيم «فماكس فيبر» عزا النهضة الرأسمالية في الغرب إلى القيم الكونفوشيوسية في صميم حركة «الميجر» التي شكلت قاعدة الإقلاع الحضاري، وكذلك الحال بالنسبة إلى كوريا وغيرها من الدول البوذية التي استبطنت قيمها الدينية في عمليات النهوض.

ولا يمكننا أن نغفل العقيدة اليهودية التي شكلت جوهر الصهيونية في العالم، والمرتكز الأساس للدولة العبرية في فلسطين المحتلة.

وبناء على ذلك فإن أهم القيم التي تستخلص من الحياة الهندية هي:

حب العمل

حين كنت في الهند كان يعجبني منظر الهنود في الصباح الباكر وهو يذهبون إلى أعمالهم بهمة ونشاط وكان كل واحد منهم تراه عاشقا لعمله أو مهنته، الأمر الذي كان يعطي حافزا للتجويد والنمو وتطوير الإمكانات. وهذا يصدق على كل الأعمال ابتداء من العامل البسيط إلى أعقد تخصص أو مهنة. ولعل ما لاحظناه نحن أهل الخليج من ظواهر في سلوكيات العاملين الهنود لدينا، فلايمكن أن تجد مهندسا لا يحسن مهنته، ولا يمكن أن نجد عاملا غير جاد في عمله.

ولعل هذه القيمة هي التي ولدت قيمة أخرى هي الحفاظ على الوقت وعدم إهداره.

كما تعد قيمة الصبر في الشخصية الهندية أحد أهم المقومات لانبثاق قيمة حب العمل والتقدم والإتقان فيه.

قيمة العلم

لم تكن قيمة العلم عند الهنود قيمة جديدة، فقد عرف العالم القديم ما تميزوا به من علوم كعلم الفلك والرياضيات والطب والآداب والموسيقى وغيرها، واليوم يهتم الهنود بمختلف العلوم لا سيما الطبيعية والتكنولوجية والعلمية والطبية وعلوم الفضاء.

وعلى الرغم من عدد السكان الكبير وتواضع مستويات المعيشة الهندية، فإنهم ينفقون الكثير على المدارس والجامعات ومؤسسات البحث العلمي والنشر والترجمة ونحو ذلك.

وهذا لا ينظر إليه بالمعايير النفعية فحسب وإنما بصفته قيمة عليا.

وما اختيار العالم النووي «أبو الكلام» رئيسا لجمهورية الهند الاتحادية إلا دليل على تكريم الهنود للعلماء. ولعله لم يسبق أن كرمت أمة في العصر الحديث عالما، وجعلته رئيسا للدولة باستثناء إسرائيل حين رشحت «أينشتين» صاحب النظرية النسبية رئيسًا لها.

وعندما حصل الروائي العربي نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الآداب زاره رئيس الوزراء الهندي «مانموهان سينج» عام 2004 حتى إنه التقى به في إحدى المقاهي على ضفاف النيل.

وفي هذا دلالة على أن العلم والمعرفة يمثلان قيمة عند الهنود ليس على مستوى المختصين فحسب بل على مستوى السياسيين أيضًا. وعند حضوري أحد المؤتمرات العلمية في ولاية حيدر أباد وجدت كم يجل الهنود أهل العلم.

وقد لمسنا ذلك من خلال الضيافة الاستثنائية التي منحونا إياها سواء في المسكن أو المأكل أو بقية الخدمات.

ويكفي أن نشير إلى أن زميلنا الباحث الكويتي الدكتور عبدالله القتم وتقديراً لجهوده في توطيد العلاقات الثقافية بين الهند والعالم العربي فقد أتاح له المجلس الهندي للعلاقات الثقافية فرصة التجوال والاطلاع على المشاهد والمنجزات الهندية على مستوى الهند، وبخدمة وضيافة مجانية على مدى شهر كامل رغم إمكاناتهم المتواضعة.

التزام صارم بالنظام

يتميز الهنود بالتزامهم بالنظام شانهم شأن اليابانيين والصينيين الذين يشتركون معهم في كثرة السكان، والتي لم تحل دون تمتعهم بهذه الخصيصة. ولا غرابة أن يكون حب النظام والالتزام به هو أحد عوامل التقدم في المجتمع الهندي المعاصر.

وأثناء زيارتي للهند أواخر عام 2006 لمست ذلك جليا في أكثر من موقع، بدءًا بالمرور حيث استغربت من ندرة حوادث المرور بل لم أر حادثا طيلة مدة إقامتي هناك على الرغم من قلة رجال المرور ومحدودية الإشارات الضوئية وتواضع الشوارع والازدحام الشديد فظننت أنها نظرة شخصية، ولكن صادف أن جلس بجواري في الطائرة وأنا في طريق العودة مواطن بحريني كان قد تزوج من حيدر أباد سألته عن أغرب الأمور التي لاحظها خلال تردده على الهند فرد قائلا: ياولدي إنّ من أشد الأمور غرابة هو أنني لم ألاحظ حوادث سير قط خلال السنوات التي كنت أتردد فيها على الهند، فاستحضرت تلك المآسي المرورية التي تحدث كل يوم في عالمنا العربي والتي يذهب ضحيتها الكثير من الأبرياء رغم اتساع الشوارع وحداثة السيارات وتوافر رجال المرور ووجود الإشارات الضوئية.

وأنت تجوب شوارع المدن الهندية قلما تسمع كلمة نابية تصدر من سائق لآخر أو تجاوزاً أو تهوراً أو مخالفة لقوانين المرور أو سرعة زائدة أو استهتارًا أثناء السياقة كما يحدث عندنا.

قدر لي مرة أن أزور أحد المستشفيات الخاصة الكبرى بصحبة أحد الزملاء في حيدر أباد، وكم استرعى انتباهي الصبر والنظام وانتظار الدور بكل أدب وأريحية على الرغم من الزحام وكثرة أعداد المرضى الذين ينتظرون دورهم لمقابلة الطبيب. ولم أسمع كلمة تذمر أو انزعاج أو استعجال أو تجاوزًا أو تعديًا على أدوار الآخرين وحقوقهم في أسبقية الدخول كما يحصل عادة في عالمنا العربي.

وفي الهند يسير الناس رجالاً ونساءً في أي وقت من أوقات الليل أو النهار بكل يسر وأمان دون مضايقة من أحد في التزام بالنظام الاجتماعي العام.

روح التسامح

من المعروف أن الهند التي يقترب تعدادها من المليار إنسان روح تضم الآلاف من اللغات والقوميات والأديان والأعراق، وكلهم ينضوون تحت لواء دولة واحدة، والجميع يعمل في سياق النهضة الهندية.

ولم يتعارض ذلك التعدد والتنوع مع وحدة شبه القارة الهندية التي تجمعها روح الهند فهل هذا هو السر؟

إنها القيمة الجامعة قيمة التسامح التي ترجمت تربويا وسياسيا واجتماعيا.

ومن الطريف أن نجد السينما الهندية قد لعبت دورا في ترسيخ هذه القيمة وإشاعتها من خلال المئات من الأفلام التي عبرت عن روح الهند الجامعة بين المسلم والهندوسي والبوذي والسيخي والمسيحي.

تلك هي القيمة الاجتماعية العليا التي نفتقدها نحن العرب حتى في تعاملنا مع بعضنا البعض على الرغم من أن ما يجمعنا تاريخيا ولغويا ودينيا هو أكثر مما يفرقنا.

ولعل الهند بإعلائها تلك القيمة وحرصها على ترسيخها في الوجود الهندي المعاصر قد وفرت على نفسها تجنب الوقوع في مأزق العصبية والتخلف والصراع الذي كثيرا ما يشكل أحد أهم معوقات التنمية والنهضة ؛ بل إن هذه القيمة قد تجسدت على الصعيد السياسي حيث وكما أشرنا إلى تنصيب مواطن مسلم على رأس الدولة الهندية.

التواضع سلوك عام

يمثل التواضع أحد أهم سمات الشخصية الهندية بل يمثل قيمة لها أثرها الفاعل في الممارسة النهوضية ؛ فما لاحظته هو أن رئيس الجامعة وعددا من الأساتذة الكبار القادمين من جامعات هندية لا تختلف ملابسهم عن الآخرين فهي بسيطة ولا تميزهم بشيء.

وهنا استحضرت الزي البسيط المتواضع الذي اشتهر به المهاتما غاندي والذي يظهر في صوره المعلقة في شوارع المدينة ومما شد انتباهي منذ أن وطأت قدماي أرض المطار ذلكم التواضع اللافت الذي جسده من استقبلني وكان في انتظاري في زحام المنتظرين وهو يرفع لافتة كتب عليها اسمي فسألته: من حضرتك؟ فأجابني: أنا البروفيسور محمد إقبال حسين. فاستغربت أن رئيس مركز اللغة العربية الذي وجه خطاب الدعوة رسميا هو شخصيا في استقبالي.

فهل يقبل أن يفعلها معيد في عالمنا العربي؟

هذا التواضع لا يمثل قيمة أخلاقية فحسب بل ينطوي على نظرة عملية، فأنت لا تجد في الهند مديرا علميا أو رئيسا لشركة أو مسئولا في قطاع من القطاعات إلا ويباشر عمله ميدانيا ولا يستحي من أن يعمل إذا اضطر بيده على خلاف النظرة السلبية التي عرفناها في مجتمعاتنا إزاء الحرف والأعمال اليدوية، حتى إن بعض الدول اليوم في عالمنا العربي تعتمد كلياً في هذه الحقول على غير مواطنيها.

أصالة باقية

الهنود من الشعوب القديمة والعريقة التي تتميز بروح خاصة وتقاليد وأنماط سلوكية وأزياء وألوان من الأطعمة وطقوس دينية واجتماعية وفلوكلوريات وموسيقى ظلت حية ومتواصلة عبر القرون.

وإنّ أية محاولة لتغريب المجتمع الهندي ليست مجرد محاولة شاذة وإنما مصيرها الفشل، فالاستعمار الإنجليزي الذي مكث طويلا في الهند وإن كان قد أثر لغويا وترك بعض الآثار المادية إلا أن ذلك لم يؤثر في جوهر الهند وروحها ويكفي أن نشير إلى أن الزي الهندي بقي صامدا أمام عولمة الموضة الغربية بل إن الهندية التي تعيش في أوربا وأمريكا تظل محتفظة بهذا الزي.

بل إن طائفة السيخ من الهنود الذين يعملون في جهاز الشرطة البريطاني ظلوا متمسكين بالعمة (العمامة السيخية) أثناء مزاولتهم عملهم الرسمي حتى إن ملكة بريطانيا وهي تستقبل المتميزين من الشرطة في قصرها، وكان الأمر يقتضي منهم لبس الزي الرسمي للشرطة الذي يقتضي بالضرورة خلع (العمامة السيخية) فاعتذروا عن خلعها الأمر الذي اضطر الملكة إلى أن تجري لهم استقبالا تكريميا خاصا في مكان آخر.

ومن الجدير بالذكر أن الموسيقى والغناء الهندي قد اكتسبا عالميتهما من خلال خصوصيتهما.

ويمكنك أن تميز النغم الهندي من بين مختلف الأنغام العالمية. كما أن المطعم الهندي أخذ يشار إليه بالبنان لما يتميز به من نكهة ومذاق وخلطات خاصة لا تراها في مطعم آخر.

والحقيقة أن هذا الالتزام بالأصالة وإن كان يشمل مختلف الحقول إلا أن ذلك لم يجعل الشعب الهندي يعيش حالة الانغلاق والانكفاء نحو الذات بل إن الهنود فتحوا شبابيكهم على كل الآفاق.

وكما قال غاندي: « سأسمح لكل الرياح بأن تمر في بلادي ولكن لن أسمح لها بأن تقتلعني من جذوري». ولكن الهنود قد استفادوا من الغرب والشرق على كثير من الصعد العلمية والتقنية المعاصرة، إلا أن أصالتهم جعلتهم يهتمون بإنتاجية خاصة بهم، حتى إنه يمكن القول بأن هناك علومًا هندية وتكنولوجيا هندية.

ومما يتصل بأصالة الهندي روحانيته، فالهندي مهما تغرب أو تعلم إلا أنه يظل مسكونا بقيمه الروحية إن لم نقل مشدودا إلى عقائده الدينية بصرف النظر عن مضمون تلك العقائد؛ فالهندي قد يكون عالما في الذرة أو طبيبا عالميا أو مهندسا مشهورا إلا أنه يتمسك بتلك العقائد التي يعتبرها جزءا من شخصيته القومية.

ولذلك فالهنود أينما يكونوا يحرصون على أداء طقوسهم وممارسة تقاليدهم والالتزام بعاداتهم حتى وهم في المهجر.

وبعد؛ هل كانت عنصرية منا أن ننظر إلى الهندي نظرة دونية لدرجة أن العربي حين يريد أن يرد الغفلة عن نفسه يصيح قائلا: «هل أنا هندي»؟

أغلب الظن أنه الجهل بحقيقة الهند والشخصية الهندية التي أصبحت تمثل في عالم اليوم نموذجا جديرا بالاقتداء على أكثر من صعيد، حتى إن عالما عربيا كبيرا كفاروق الباز كان ضحية هذا الوهم فقال: «حين كبرت وعرفت حقيقة الهند تمنيت أن أكون هنديا».

-----------------------------------

لعلّه يقْظةُ الأحرارِ أرسلُهـا
أذانُ بعثٍ به قد واعدَ القَدَرُ
لعله الصيحةُ الكبرى تدقُّ على
بابِ الجهادِ ليومٍ أمرُه عَسِرُ
تلقى به عصبةَ الشذاذِ آخِـرةً
على مُداها ذئابُ الغربِ تنتحرُ
وتمَّحي قصة صهيون لفّقهـا،
وكم لبهتانها من زيفه صُوَرُ
لعله الهولُ والرحمنُ أرسلُهُ
لتسترد به أمجادَها مُضَـرُ
لعله عزةٌ جاءت مجلجِلـةً
لكي يُصيخ إليها النائم الخَدِرُ

محمود حسن إسماعيل

 

 


سعيد العيسائي