الليبرالية بين الحيوية والعجز حازم الببلاوي
انهيار نظام ما، هل يعني صعو نقيضه آليا، وبلا مراجعة؟ أم أن المراجعة صارت لازمة، لأن انهيار نظام، قد يشير إلى أزمة الآخر؟ سؤالان يتعقبهما هذا المقال.
أعلن فرانسيس فوكوياما - إير انهيار النظم الشيوعية في الاتحاد السوفييتي وشرق أوربا - "نهاية التاريخ"، والانتصار النهائي لليبرالية بشقيها الاقتصادي "السوق"، والسياسي "الديمقراطية".وهكذا انضم فوكوياما من حيث لا يقصد إلى ماركس- والذي قصد انتقاده ومعارضته- في أن كليهما يرى أن للتاريخ والتطور نهاية أو محطة وصول، فهو عند أحدهما الليبرالية وعند الآخر الشيوعية.لا يهم!
وإذا كان من الواضح أن الشيوعية قد أصيبت إصابة بالغة يصعب معها أن يكون لها مستقبل، على الأقل في الأفق المنظور، فإنه من المستبعد أن تختفي تماما الآمال والمثل العليا التي استند إليها الفكر الاشتراكي لمدد طويلة، وفي مقدمتها مثل العدالة والمساواة والتضامن والتكافل. ومع ذلك فإن هذه المثل يتنازعها أيضا الفكر الليبرالي، ويعتقد أنها في الأساس نتاج ليبرالي استحوذت عليه الأفكار والنظم الاشتراكية، وأدخلته في منظومات شمولية للحكم لم تلبث أن أصبحت. وبالا على هذه المثل نفسها من عدالة ومساواة.
الليبرالية والحرية
هناك ارتباط شديد بين الليبرالية وفكرة الحرية والديمقراطية، بل إن اسمها مشتق في الواقع من معنى الحرية. ومع ذلك فإن- الليبرالية بمفهومها المستقر تستند إلى مفهوم خاص للحرية اتضحت معالمه بوجه خاص ابتداء من القرن السابع عشر. فإذا كان الحديث عن الحرية والديمقراطية قديما، ويجد جذوره في الفكر اليوناني والممارسات الديمقراطية في المدن اليونانية ئم في عديد من المدن التجارية في إيطاليا في العصور الوسطى وعمر النهضة، فإن هذه الممارسات لا تمثل الفكر الليبرالي كما استقر معناه ومفهومه من خلال المساهمات الفكرية لآباء الفكر الليبرالي منذ القرن السابع عشر، وخاصة جون لوك. فالفكر الليبرالي ليس فقط دعوة إلى الحرية، ولكنه بالدرجة الأولى دعوة إلى الفردية، واحترام مجال خاص يتمتع الفرد فيه باستقلاله وحريته دون تدخل أو إزعاج. وإذا نظرنا إلى مفهوم الحرية كما ساد في الفكر السياسي والممارسات العملية، نجد أنه تراوح بين مفهومين أساسيين، الأول هو الحق في المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية، والثاني هو الاعتراف بمجال خاص للأفراد لا يجوز التعدي عليه أو التدخل فيه. وهذه هي التفرقة بين الحرية بالمعنى القديم وبين المفهوم الحديث للحرية. وقد أوضح بنجامين كونستانت في كتابه لا الحريات القديمة والحديثة" (1819) هذه التفرقة بشكل واضح، فالحرية بالمعنى الحديث هي الاعتراف للفرد بمجال خاص يتمتع فيه بالاستقلال ولا يخضع فيه لغير القانون، في حين أن الحرية بالمعنى القديم- السائد في المدن اليونانية ثم في المدن الإيطالية- تشير إلى الحق في المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية.
الفرد هو الأساس
وإذا كان الفكر الليبرالي يبدأ من ضرورة الاعتراف بالفرد وبمجال خاص له يستقل فيه وتظهر فيه قدراته الإبداعية، فإنما يرجع ذلك إلى موقف عام من الفرد والجماعة. فالفكر الليبرالي يرفض الأفكار الموروثة والتي ترى أن للمجتمعات غايات محتومة- غيبية أو غير غيبية- وأن الفرد مسخر لتحقيق هذه الغايات. وعلى العكس فمان الفكر الليبرالي يرى أن الفرد هو اللبنة- الأولى، وهو الأساس في المجتمعات، وأن هذا الفرد يسعى إلى تحقيق ذاته والسعي المستمر وراء غايات وأهداف خاصة متغيرة دوما مع تغير الظروف ومدى ما يحققه من إنجازات أو يصادفه من إخفاقات. فالفرد هو القوة الدافعة للمجتمع، وهو بفعله، وفعل أقرانه، يجر المجتمع من ورائه للتغيير. والأمر على العكس- في المذاهب الجماعية- حيث ترى أن للمجتمع غايات وأهدافا نهائية يستخدم فيها الفرد كوسيلة، فالمجتمع وليس الفرد هو الحقيقة الأولى والنهائية في هذه المذاهب الجماعية.
بين "لوك" و "روسو"
ورغم أن المشهور هو أن توماس هوبز قد دافع عن السلطة المطلقة- وبالتالي الاستبداد الملكي- فإنه من وجهة نظر معينة- كان من أوائل من أرسوا مبادئ المذهب الفردي. فالغرض من الجماعة- عنده- وأساس وجودها هو حماية حقوق الأفراد من حالة الوحشية والبربرية التي يتعرض فيها كل فرد للاعتداء من جانب الآخرين، "حرب الجميع ضد الجميع"، ومن هنا جاءت الحاجة إلى الجماعة السياسية، التي يتنازل فيها كل فرد- في شكل من أشكال العقد الاجتماعي- عن جز من حريته للحاكم أو السلطان حماية لحرياته وحقوق الباقية.. وبذلك فقد كانت نقطة البدء عند هوبز هي حقوق الأفراد وحرياتهم، وهي أيضا مبرر الجماعة والسلطة. ومع ذلك يظل جون لوك هو المؤسف الحقيقي للمذهب الليبرالي في دفاعه عن الملكية الدستورية بعد الثورة الإنجليزية. وقد بدأت- عند لوك- تظهر بشكل واضح فكرة الحقوق الطبيعية للأفراد والتي يستمدونها من القانون الطبيعي السابق على القوانين الوضعية. وهذا القانون الطبيعي يفرض نفسه على الجميع، فمنه يستمد الأفراد مباشرة حقوقهم الأساسية من ناحية، فضلا عن أنه يقيد المشرع بقيود دستورية لا يستطيع مجاوزتها من ناحية أخرى. ومن هنا فإن الديمقراطية عند لوك لا تتميز فقط بأنها استجابة لرأي ومشاركة الأفراد، ولكن أيضا بخضوعها لقيود لا يمكن المساس بها من حريات الأفراد وحقوقهم الأساسية ولو باسم الأغلبية. فالعقد الاجتماعي- عند لوك- ليس تنازلا من الأفراد عن السيادة للسلطان، بقدر ما هو اتفاق بين الجميع في إطار القانون الطبيعي. وهذه هي فكرة الديمقراطية الدستورية. وفي هذا يختلف موقف لوك من الديمقراطية عن جان جاك روسو مثلا الذي طرح فكرة "الإرادة العامة" للشعوب، والتي باسمها تفرض سائر الأحكام والقوانين دون أي قيد أو رادع. وهكذا يتضح أنه رغم اتفاق هوبز ولوك وروسو على فكرة العقد الاجتماعي، فإن نتائجهم من حيث مفهوم الحرية تختلف اختلافا جذريا، وهم في ذلك يتراوحون بين معاني الحرية القديمة والحديثة وفقا لتعريف بنجامين كونستانت. ولعل ما قد يدعو إلى الدهشة أن يكون روسو هو الأقرب إلى تفكير الأقدمين، فالحرية والديمقراطية عنده لا تجاوز حق المشاركة في الحكم وتكوين الإرادة العامة، ولكن باسمها يمكن أن تتحقق ديكتاتورية الأغلبية والإرهاب الثوري. فلا محل لحقوق الأفراد عند روسو. ويقع هوبز- للغرابة أيضا- في موقف مختلط فهو من ناحية لا يطالب بالديمقراطية بل ويدافع عن الاستبداد، وفي ذلك يمكن أن يقترب من الأفكار التقليدية وخاصة لدى أفلاطون وحديثه عن المدينة الفاضلة والمستبد العادل. ولكنه في الوقت نفسه يقترب من الأفكار الحديثة ويقطع صلته بالتراث التقليدي وفكر العصور الوسطى عندما يبدأ تحليله من نقطة الاعتراف بالفردية وحقوق الأفراد كأساس للمجتمع. ويظل لوك هو الممثل الحقيقي لليبرالية حين يجمع بين الديمقراطية وحقوق الأفراد. فالديمقراطية عنده وهي تتطلب المشاركة في الحكم، فإنها لا تطلق العنان للأغلبية، بل تقيدها بقيود دستورية من حقوق الأفراد في المشاركة في الحكم، ومن ثم في الدعوة إلى الديمقراطية، ولكنها وبالقوة نفسها تضع القيود والضوابط على حكم الأغلبية وكل السلطات، فهي ديمقراطية دستورية تحمي حقوق الأفراد الأساسية وحرياتهم. ويؤكد لوك على اعتبار- يصبح فيما بعد أحد أسس الليبرالية- وهو العلاقة بين الحرية الفردية والملكية الخاصة. فالاعتراف بمجال خاص يستقل الفرد به دون تدخل يتطلب أن تتوزع الملكية ولا تتركز في يد واحدة- ولو كانت يد الدولة- فالحرية تتطلب تنوع الملكيات، ومن هنا تصبح الملكية الخاصة شرطا لحرية الأفراد. وهكذا نجد لدى لوك مبدأين أساسيين من مبادئ الليبرالية واللذين استمرا معها إلى وقتنا المعاصر، ألا وهما فكرة دولة القانون من ناحية، وفكرة اقتصاد السوق القائم على الملكية الخاصة من ناحية أخرى.
وقد ساهم عصر التنوير بكتابه سواء في فرنسا أو إنجلترا في دفع الأفكار الليبرالية. وكانت أسماء مونتسكيو وكندرسيه وفولتير وهيوم مما ساهم بدرجات متفاوتة في تأكيد هذه التقاليد الليبرالية. ومع ذلك تظل المدرسة الاسكتلندية في التنوير هي الأساس في إعطاء الليبرالية شكلها المتكامل، وخاصة مع دافيد هيوم وآدم سميث.
للدولة دور، ولكن..
وإذا كانت الليبرالية قد وجدت جذورها الفكرية من خلال كتابات الفلاسفة والمفكرين وخاصة منذ القرن السابع عشر في إنجلترا وفرنسا- وإلى حد ما في الولايات المتحدة- فإنها وجدت أهم تطبيقاتها في إنجلترا خلال القرن التاسع عشر ويمكن بصفة تقريبية القول إن الفترة منذ نهاية الحروب النابليونية (1815) وحتى قيام الحرب العالمية الأولى (1914) هي أظهر فزات الحكم الليبرالي، وخاصة في إنجلترا. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أنه رغم سيادة هذه الأفكار الليبرالية، فقد عرف هذا العصر بداية تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي مما يؤكد أن ما يعرف باسم "دعه يعمل دعه يمر" Laissez passer, laissez faire لم يكن أبدا من خصائص النظم الليبرالية، التي اعترفت دوما بدور للدولة ولكن مع ضرورة الاحترام الكامل لحقوق الأفراد وحرياتهم. وهو أمر لا يتعارض مع مبدأ تدخل الدولة. ومع قيام الحرب العالمية الأولى بدأ تراجع الليبرالية المستمر وظهرت اتجاهات التدخل الحكومي وغير المقيد، ولم يعد للفردية وحقوق الأفراد وحرياتهم القدر نفسه من القدسية والاحترام. ومع تراجع الفردية بدأت تظهر اتجاهات أخرى تكتسب مزيذا من الأنصار والمؤيدين. فظهرت دعوات القومية، والاشتراكية، كما بدأت النظم الشمولية في فرض قانونها، واستمر تراجع الفردية والليبرالية حتى ساد الاعتقاد بأن أوانها قد زال إلى الأبد. ومع ذلك فقد بدأت بعد الحرب العالمية الثانية أصوات منفردة مازالت تدعو لليبرالية في مقدمتها هايك ثم لم تلبث أن بدأت تكتسب أنصارا جددا لليبرالية الجديدة وظهرت من ناحية أخرى أفكار مكملة الا فيما يسمى بنظريات "الاختيار العام" لجيمس بوشنان، والتي بدأت تضع الشكوك حول مدى تجرد قرارات السلطة العامة من المصالح الشخصية. وقد بدأت هذه الدعوات الجديدة لليبرالية كرد فعل لما أظهرته النظم الشمولية وخاصة الماركسية من إهدار للحريات وانعدام للكفاءة من ناحية، وما بدا من مظاهر الخلل الاقتصادي في العديد من الدول الغربية والتي بالغت في التدخل تحت تأثير الأفكار الكينزية من ناحية أخرى.
حكم القانون
وتمثل مساهمة هايك إضافة جديدة لليبرالية في تحديده لمعنى الفردية وسنده، حيث يرى أن مجالات المعرفة بطبيعتها واسعة ولا تسمح لأي فرد أو مؤسسة أو جهاز بالإحاطة بها كاملة. ومن ثم فإن هناك حاجة إلى نظام لا مركزي- على نحو فردي- يسمح لكل فرد بالاستقلال في اتخاذ قراراته في المجال الذي يعرفه بدرجة تزيد على غيره. وبالتالي فإن الفردية أساس للكفاءة الاقتصادية. كذلك فقد ساهمت أعمال هايك في تحديد فكرة حكم القانون وضرورة الانصياع لقواعد عامة معروفة سابقا، وبالتالي توفير الاستقرار في تحديد المراكز القانونية والاقتصادية للأفراد. وأما مساهمة بوشنان ومدرسته في "الاختيار العام"، فقد أوضحت إلى أي مدى لا يختلف سلوك الأفراد في محاولتهم تحقيق مصالحهم المباشرة، بوضعهم على قمة السلطة أو بتمثيلهم لمصالحهم الخاصة. فالحديث عن "المصلحة العامة" كثير ما كان وهما لا يعدو أن يكون غطاء لتحقيق مصالح فئوية أو خاصة، وبذلك هدم أحد أسس المذاهب الاجتماعية التي تستند إلى اتخاذ القرارات في ضوء المصلحة العامة وحدها.
الليبرالية بين الهجوم، والأمل
وقد عرفت الليبرالية هجوما وانتقادا من جانبين: من اليسار ومن اليمين. فالمذاهب الاشتراكية والأفكار التدخلية- والتي، تفتقد الثقة في الفرد وقدرته على تحقيق مصالحه البعيدة أو تخشى من أنانيته ا-لمفرطة- تهاجم الليبرالية في استنادها إلى الفرد وحقوقه، وترى- على العكس- أن المصلحة العامة وفكرة المجتمع تسبق بالضرورة أية نظرة فردية. وهكذا تتعرض الليبرالية لاتهامات اليسار بأنها في فرديتها تنسى المجموع. وعلى الناحية الأخرى، فإننا نجد أن اليمين المحافظ يأخذ على الليبرالية تجاهلها للأوضاع والمزايا التاريخية المستقرة، وبأنها بتشجيعها للمبادرات الفردية تهدد من أساس استقرار الجماعة وتقاليدها. وهكذا لا تنجو الليبرالية من هجوم وانتقاد اليمين كما كانت محلا لانتقادات اليسار. ولعل هذا الموقف الفريد والدقيق لليبرالية هو ما يعبر عن حيويتها من ناحية، وعجزها من ناحية أخرى. فحيوية الليبرالية ترجع إلى احترامها للقيم الفردية في الحرية والمساواة أمام القانون من ناحية، وفي دعوتها إلى الديمقراطية والمشاركة الشعبية مع وضع الضوابط أمام غلوائها أو تطرفها من ناحية أخرى. أما عجزها فيرجع إلى اعتدالها وتوازنها وبالتالي عدم استجابتها للعواطف الجياشة في اتجاه أو في آخر.
والآن، هل تنجح الليبرالية الجديدة في استعادة الأرض التي فقدتها كما يأمل فوكوياما، وهل يصبح القرن الحادي والعشرون قرن الليبرالية كما كان القرن التاسع عشر؟ وهل تغلب عناصر الحيوية في الليبرالية على مواجهة التحديات الجديدة والظروف المتغيرة، أم تسقط من جديد وتبرز عناصر العجز فيها لتختفي مرة أخرى تحت الدعوات الشمولية والعواطف الجياشة للدهماء والأفكار المثيرة لمنظري ذلك الفكر؟ تلك أسئلة سيجيب عنها المستقبل، ولن تكفي فيها تأملات فوكو لاما أو آماله. والله أعلم.