محمود حسن إسماعيل.. الشاعر الضخم!

محمود حسن إسماعيل.. الشاعر الضخم!

في لقاء صحفي كنت قد أجريته مع العلاّمة الراحل محمود شاكر قبل عقدين من الزمان تقريباً، ونشرته في أحد أعداد مجلة العربي أخيراً، قال لي الشيخ الجليل من ضمن ما قاله: «إنني لم أترك الشعر إلا من أجل محمود حسن إسماعيل.. تركت الشعر ليقول هو الشعر، وليقوم بمهمة الشعر، فمحمود حسن إسماعيل شاعر ضخم..».

ولعل هذه المقولة خير ما يمكن أن نعرف من خلالها جانباً من جوانب الشعرية لدى محمود حسن إسماعيل.. إنه شاعر ضخم. والضخامة التي أشار إليها صديق الشاعر الأثير، العارف بأحوال شعرية صديقه وقبل ذلك بأحوال الشعر والشعراء، تحيلنا إلى قصيدة مميزة وخاصة جداً أنتجها الشاعر منذ البداية، وتراكمت خصائصها سنة بعد سنة، حتى انتهت لأن تكون تلك القصيدة المنفردة شكلاً وموضوعاً في سياقها التاريخي على الأقل.

إنها قصيدة محمود حسن إسماعيل المضمخة بأطياب شرقية دون أن تخضع لاشتراطات تقليدية موروثة، والتي حملت بين تضاعيفها إرهاصات حداثية مندغمة في نسيجها الرصين. فقد نجح شاعرها في تخليصها من كل ما يمكن أن يعكر صفوها الخاص، وما يمكن أن يساعد على طيها في ملفات الشعر، التي تراكم فوقها غبار السنين والنظريات والمدارس الشعرية القديمة والحديثة في الوقت نفسه، حتى اقتربت قصيدة محمود حسن إسماعيل من أن تكون مدرسة شعرية مستقلة بذاتها، ولعلها في كثير من صورها كانت فعلاً.

ومحمود حسن إسماعيل المولود عام 1920م في قرية النخيلة في أسيوط ، بدأ رحلته التعليمية في كتّاب القرية، حيث حفظ القرآن الكريم، ثم تدرج في المدارس النظامية بين أسيوط والقاهرة، قبل أن يلتحق بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة ليتخرج فيها ويعمل في المجمع اللغوي في بداية حياته العملية، وهو الأمر الذي أتاح له أن يكتسب ثقافة لغوية متميزة جداً انعكست بشكل غير مباشر على معجمه الشعري. فقد تميز هذا المعجم بالابتكار والرونق، حيث أعاد الشاعر بحاسته اللغوية المدربة اكتشاف الكثير من مهمل المفردات القديمة وحولها إلى كلمات نابضة بحياة جديدة بعد أن صاغها في تعبيرات مركبة ودقيقة.

وقد ساعده ذلك المعجم الخاص في التعبير عن مكنوناته الشعرية بطريقة رمزية، رأى البعض فيها غموضاً أفسد بعض شعريته فيما رأى البعض الآخر فيها عمقاً أضاف لتلك الشعرية الكثير من جمالياتها الساحرة.

ولعل في عناوين دواوين محمود حسن إسماعيل ما يشير إلى تلك الخاصية المعجمية في شعره، فقد تميزت تلك العناوين برمزية تحيل إلى موضوعاتها عبر إيحاءات لغوية خالصة.

وقد ساهمت غزارة إنتاج الشاعر في التعريف بطريقته الشعرية، والتي يستطيع متلقيها أن يلمح الكثير من الملامح الصوفية التي يحاول الشاعر من خلال استلهامها أن يغوص في فلسفة الوجود ويثير التساؤلات الإنسانية العميقة بمجرد الشعر.

ولعل في المقدمات النثرية لبعض قصائد الشاعر، والتي تميز بها، ما يؤكد تلك الملامح الصوفية ذات النفس الإسلامي الهادئ ، فقد كان محمود حسن إسماعيل يقدم لبعض قصائده بمقدمات نثرية ذات نفس شعري بملامح صوفية في أغلبيتها. أما الملمح الأوضح في كل دواوينه فهو تلك الروح المصرية الخالصة، والتي تعددت صورها، وإن كانت تنبثق من بوتقة واحدة جعلت من ديوان الشاعر هوية وطنية وشعرية في الوقت نفسه.

وترك محمود حسن إسماعيل -الذي توفي في الكويت عام 1977م حيث قضى سنواته الأخيرة فيها - عدة دواوين هي على التوالي: «أغاني الكوخ، وهكذا أغني، والملك، وأين المفر، ونار وأصفاد، وقاب قوسين، ولابد، والتائهون، وصلاة ورفض، وهدير البرزخ، وصوت من الله، ونهر الحقيقة، وموسيقى من السر، ورياح المغيب». ولعله من المناسب أن نشير إلى أن آخر كتابين له وهما «موسيقى من السر» و«رياح المغيب» قد صدرا بعد وفاته، كما صدرت منذ بضع سنوات مجموعة أشعاره الكاملة في سفر واحد. هذا غير كتابه الضخم «الشعر في المعركة» والذي صدر الجزء الأول منه عام 1957، والجزء الثاني عام 1967 وعبر فيه عن رؤيته للشعر ودوره في خضم المعركة النقدية المحتدمة ما بين أنصار الفن للفن وأنصار الفن للحياة. ولم يكن محمود حسن إسماعيل سوى شخصية متفردة في رؤيته الخاصة للفن باعتباره للفن والحياة معاً.

 

 

سعدية مفرح