قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
---------------------------------------

أود أولا أن أحيي مبادرة «قصص على الهواء» والجدية التي يتعامل بها المسئولون عنها، ولا شك لدي أنها ستثمر ثماراً يانعة في تنمية الإبداع العربي عامة، وليس فقط فى القصة القصيرة. ومن حق القارئ والمشاركين في المسابقة أن يعرفوا الأسس التي تحكمت في اختيارى للنصوص الخمسة المنشورة.

القصة القصيرة ليست حكاية أو حدوتة أو مشروع رواية، بل هي نوع خاص متميز وصعب، تعرف عادة على أنها صياغة لغوية مكثفة للحظة أزمة في حياة كائن (إنسان أو حيوان أو جماد) تغوص في أعماق هذا الكائن (بما يبرز الأزمة) وتبنى بناء محكماً لا يجوز فيه الحذف أو الإضافة. ومع اقتناعي بهذا التعريف، فإنني أؤمن أيضاً بحق المبدع فى كسر هذه القاعدة - بعد معرفتها جيداً - ليأتي بجديد. ومن هنا فقد قبلت التمرد على هذا التعريف في بعض هذه النصوص.

قصة «البخت» لمنى محمد عبد الله. قصة جيدة وإن كان بها بعض التطويل. فهى تجسد أزمة الابنة الوسطى في مجتمعاتنا بدقة، غير أن أهم ما يميز القصة هو لغتها المكثفة والتي تعتمد الحذف تقنية أساسية، بما يعطي القارئ الفرصة للتخمين والتأويل. لا تعتمد القصة لحظة أزمة أساسية، لكنها تعتمد على لحظات توتر متتابعة، تنتهي نهاية منطقية، طبقاً لبناء القصة منذ البداية.

قصة «كرسي متحرك» لبيير سمير مكسيموس: تتميز هذه القصة بالدقة في الإمساك بلحظة أزمة عميقة لدى عجوز يرفض عجزه ويساعده الأطفال على هذا الرفض وحين يتجاوز تمرده حدود الممكن، تكون النهاية المأساوية. القصة محكمة البناء ولا تزيّد فيها ولغتها رقيقة وسليمة.

وقصة «البنات الثلاث» لأليس حسن كوراني: هي قصة جيدة عن أوهام الفقراء الذين يتبنون نسق حياة الأغنياء، وتأتي النهاية فاجعة مناسبة. وهي مكتوبة بلغة سليمة ودقيقة، لكن يغيب عنها التشويق.

وقصة «نانا» لعبد الواحد محمد، جيدة وممتعة بالرغم من الغياب الظاهر للحظة الأزمة, لكن التأمل العميق يكشف أنها كامنة وراء الوصف والسرد، وتتمثل في حب الراوي المكبوت والمهزوم لنانا. اللغة جميلة والسرد كذلك، والبناء محكم ودقيق.

«ليتني لم أفكر» لعمار حمود أحمد القاضي: قصة تمسك بحالة إنسانية تصيب البشر كثيرا, وخاصة في ظل نظم مضطربة, تضعهم فى حالة وسواس يفقدون معه التفكير الصحيح. والقصة تقوم على منطق المفارقة التى تفضح هذا الوسواس, لكنها لا تظهر إلا في النهاية، مما يضفي عليها عنصر التشويق المهم. غير أن بالقصة تطويلاً.

------------------------------------

البخت
منى محمد عبدالله (السعودية)

على عتبةِ السنة الثامنة عشرة مِن عمري.. وقفتُ أمام الجدار الفاصل بين منزل أمي وفناء خال.. الجدار أقصر بكثير مما كان عليه حين كنت طفلة، كنا ..أنا ومريم.. نصعد على كرسي و نعتلي فرن الخبز, و بخطوة واحدة نصعد فوق الجدار، نجلس.. نغني.. نراقب البيوت المجاورة. ونتلصص على الحجرات المفتوحة.

على هذا الجدار بكيت حين أخبرتني مريم أن جدتي وهبتها شاة للمرة الثالثة..البخت الثالث..مريم.. أصغر مني بسنتين.. وتملك أضعاف ما أملك.. منحتها جدتي شاة.. وحين أنجبت باعتها و باعت صغارها واشترت لمريم خواتم ذهبية.. ثم منحتها شاة أخرى.. وباعتها واشترت لها قلادة ذهبية..

أختي الكبرى نالت نصيبها أيضاً.. نالت البخت. واشترت لها بثمنه أقراطاً ذهبية..

و أنا لم امتلك إلا سلسلة ذهبية وخاتماً.. تمتلك شقيقاتي مثلها تماماً.. فما يمنحه والدي لنا.. يجري على الكل.. و نتساوى فيه.. أما امتيازات الأقارب.. فقد كانت تفرقنا..

مريم.. حبيبة جدتي.. ابنتها باختصار.. تنام معها.. وتقسم جدتي أنها لن تدرس.. لأن المدرسة و المذاكرة سترهقها.. ولن تصلي.. لأن الصلاة مفروضة على الكبار... ومريم لن تكبر أبداً.. ولن تسمح لها بالصوم.. لأنه سيوهنها..

هذا الجدار الفاصل بين منزلين, وبين زمنين.. بكيت بسبب الشاة الثالثة هُنا. طلب من جدتي أن تهبني أي بخت, أي بهيمة مِن بين أغنامها الكثيرة، وحين عَـلِـم والدي.. وقف خارج البيت خلف سيارته.. ظناً منه أني لن أراه، وأخرجَ من جيبه ورقة من فئة الـ (005) ريال ثمناً لبختي.. ونلتُ البخت.. أبيض.. بلا بقع سوداء أو بنية، طرتُ به فرحاً مع أني كنت أعلم أنه هدية مُشتراة.. بخت مدفوع الثمن..

جدتي التي اغتاظت من والدي.. همست لأمي أن أبي يحبني أكثر مما يحب شقيقاتي..وكانت تقول لي بتهكم : (يا ابنة أبيك). ولأني الابنة الوسطى.. كان هذا أول امتيازاتي, أول استثناء حصلتُ عليه من والدي، فالكبرى نالت وتنال كل شيء لأنها الكبرى, و الصغرى من واجبنا أن نعطيها كل شيء.. لأنها الصغرى..أما الوسطى.. فهي منسية على الجدار الفاصل بين المنزلين.. تتأمل البيوت المجاورة وتقف بحذر لترى الأودية الممتدة.. وتلتفت إلى اليمين لتفكر في قيمة هذا البخت.. كنتُ أعلم أنه بخت مقطوع.. لن يتناسل ولن تمتد هبته فأنال صغاره, لأنه ذَكَر.

على هذا الجدار الفاصل بين منزلين.. بين زمنين.. كنتُ أجلس، أتأمل البخت الأبيض, يأكل ويشرب, وأصرخ حين يتعرض لأي أذى.. وأتشاجر مع مريم حين تدعي أن شاتها أجمل منه.. وأرد بكل فخر: (يكفي أنه الوحيد هنا المميز بيياضه الكامل).

وغبتُ عن الجدار الفاصل بين زمنين.. لأيام..غادرته إلى حجرة أمي.. ولادة متعسرة.. بنت رابعة.. و أبي بوجهه المكتئب وصمته المهيب.. و أمي في إغماءة مفزعة..و نزف مستمر.. ومن على هذا الجدار أيضًا لمحتُ سيارة والدي وصرختُ لأخواتي و جدتي لأخبرهم بعودة أمي..لكن أمي عادت.. و غاب أبي.. و بعد أسبوع عاد ليخبرها أنه سيتزوج.. فقد ظلم نفسه بالصبر على إنجابها للبنات..

بكيتُ على هذا الجدار.. فبعد أن كانت تناديني جدتي (يا ابنة) أبيك..علمت أني لن أكون بعد اليوم ابنة لأحد..و من على هذا الجدار راقبتُ حزن أمي.. كنتُ أجلس هنا.. ولاأغني..و أمي تبكي كثيرًا, وأبي يغيب طويلاً.

بعد شهور.. تم عقدِ قران أبي.. وشاهدتُ البخت على موقدِ أمي القديم.. حينَ كانت تطبخ ذبائح (المِلكة).. عرفتُ البخت بالرغم من أن رأسه مقطوع.. و بالرغم من لونه الأبيض الذي تحول بفعل النار.. إلى سواد..

كرسي متحرك
بيير سمير مكسيموس (مصر)

من ردهة غرفته في دار المسنين الذي يطل على إحدى المدارس, يرى (جدو وحيد) - كما يلقبونه في الدار- الأولاد الصغار يلعبون ..يداعب أحدهما الآخر و تتعالى ضحكاتهم فيضحك معهم .

منذ سنوات تبدو له قليلة كان مثلهم يلعب و يضحك و يملأ ضحكه الجو.. وهاهم يرمون الكرة و إذ بها تعلو ثم تستقر في ردهته ويقترب منه حتى يمسكها براحتي يديه .. فرح بها وقد تذكر أيام شبابه عندما كان قائداً لفريقه في كرة اليد..

وكان أفراد الفريق دائما ما يعطونه الكرة فيسددها في المرمى مباشرة ..تحسس الكرة بيده و نظر لنفسه ..الآن هو عاجز، يتحرك على كرسي متحرك.. يلهث، خلف قطار الزمن.

«الكرة يا جدو» هكذا ينادي الأولاد منتظرين ان يدفع الكرة لهم ليستكملوا اللعب يتخيل نفسه في الملعب، يقذفها بقوة حتى تكاد مفاصله أن تنخلع.. و لكنه سعيد .. فلا يزال فيه شيء من الحياة ..يكتشفه بعد كل هذه السنين.. بالرغم من أنه جاء متأخراً .. و قد اقتربت محطة نزوله..

الممرضة تأتي لتعطيه الدواء..بها جمال هادئ و ابتسامة حانية و فيها شباب افتقده منذ فترة طويلة .. تقول له بوِدٍ:

- «عامل إيه يا جدو».

يبتسم بسخرية، يستلقي على الكرسي، يحلم ثانية ..يتذكر شبابه ،حبه ،عواطفه و أحاسيسه القديمة التي غطاها تراب الزمن. إنه يوم غريب جديد عليه أثار فيه مشاعر الشباب وحماسه.

أصبح متقلقلا على الكرسي، يقبض بشدة على المقبضين ..يدفعه يمينا و يسارا كأنه في مباراة .. يهزه بقوة ..يحاول أن ينهض فلا يستطيع.. هل التصق بالكرسي؟! أصبح يروح و يجيء بروح مضطربة رافضة، صوت الأطفال يعلو وصور الماضي تهيج مشاعره.

الكرة تعلو و تقترب منه ثانية، «لا يزال في القوة، سأمسكها وليكن ما يكون» ..«الكرة ..امسكها يا جدو» فينهض ليمسكها فيسقط على الأرض صامتا ويندفع الكرسي بعيداً في اتجاه الحائط.

البنات الثلاث
أليس حسن كوراني (لبنان)

جلسن حولها بعيون ملؤها الأمل ... قالت الكبرى: لا شك أنك ستبتاعين لي الثياب الجديدة والفساتين الجميلة يا أمّي... فلا أبدو بعد اليوم كالحشرة بين صديقاتي... سيكون باستطاعتي أن أبدو مثلهنّ، وأن أتباهى بزييّ الجديد وبحذائي الملمعّ في كل عيد... وسأربط جدائلي الطويلة بأقمشة حريريّة جذّابة الألوان، أو ربما سأتخلّص من تلك الجدائل وأقصّ شعري بطريقة عصريّة تليق بفتاة بلغت الرابعة عشرة من عمرها... وسيكون بمقدوري المشاركة في الرحلات المدرسيّة، فلا أتغيّب لسوء الأحوال الماديّة، ولا أعود أختلق الأعذار لعدم الانضمام إليها، أو لعدم حضور حفلات ميلاد صديقاتي... وسوف تصطحبيننا يا أمّي، في نهاية الأسبوع، إلى المطاعم ودور السينما، وإلى الأسواق الحديثة....آه كم سيكون هذا ممتعاً وجميلاً...

ثم قالت الوسطى: سئمت يا أمّي من كتبي المستعملة ومحفظتي القديمة، ومن ثيابي البالية... سوف تسمح لي ظروفنا الجديدة بالالتحاق بمعهد الموسيقى لإجادة العزف على البيانو، وآخر للفنون لتنمية موهبتي في الرسم... سيكون بمقدورنا دفع تكاليف تلك المعاهد التي لا يرتادها إلا أصحاب المداخيل العالية... آه يا أمّي كم سئمت حياتنا البائسة، ها قد أصبحت في العاشرة من عمري، فلن يفوتني الوقت لتحقيق أمنياتي في الحياة...

ثم قالت الصغرى: سأقتني الألعاب الجديدة ... لا أريد بعد اليوم تلك العرائس التي تصنعينها يا أمّي من أخشاب وأقمشة... وأريد دراجة زهريّة اللون ... وسوف تسمحين لي بابتياع بعض أنواع الشوكولا والسكاكر التي لا نجرؤ على الاقتراب منها لسعرها الباهظ...وسوف تصطحبينني يا أمي إلى مسبح النساء لألهو بالماء، فقد أخبرتني صديقاتي أن تلك المسابح جميلة وممتعة جداً في فصل الصيف... لقد أصبحت في السابعة من عمري ولم أزر تلك المسابح... آه يا أمّي كم سأكون سعيدة...

نظرت الأمّ إليهنّ ثمّ قالت: اسمعن أيّتها الفتيات... الخطوة الأولى التي سأقوم بها هي الانتقال إلى منزل فسيح... منذ رحيل أبيكنّ ونحن نسكن في هذا البيت الضيق الذي لا تصله أشعة الشمس، والذي نكاد نختنق فيه... أريد منزلاً حوله حديقة... منزلاً يكون جنتنا على الأرض، نشتاق للعودة إليه كلما خرجنا منه... وسوف أخصّص غرفة منه للمطالعة تطل على الحديقة، وتنساب من زواياها الموسيقى الهادئة... وسوف أشتري أثاثاً مريحاً ولائقاً بأمّ وثلاث بنات...وسيتزامن ذلك مع تقديم استقالتي من معمل الخياطة... ذلك المعمل القذر الذي تسبب لي بأنواع العذابات النفسية والجسدية... آه كم هو متعب عملي، وكم أقاسي من ألاعيب رب العمل... أنتظر اللحظة التي سأصفعه فيها عند المغادرة، وربما سأركله على مؤخرته... وسوف أبتاع حانوتاً لبيع الثياب، وسأكون سيدة نفسي وسيدة عملي... وعندما تنتابني نوبات الربو سأخلد إلى الراحة التامة، وسيكون بمقدوري الذهاب إلى المشافي لتلقي أفضل العلاج... وسوف تتاح لكنّ الفرصة لإكمال تعليمكنّ في أفضل الجامعات... أتوق إلى اللحظة التي أراكنّ وقد حققتن آمالكنّ في العلم والعمل... وسأقتني سيارة من جديد، بعدما اضطررت إلى بيع سيارة والدكنّ رحمه الله لتسديد الديون... ولن أكون مشوّشة الذهن وأحار كيف أتدبّر أمور معيشتنا... آه كم تعبت... آه كم تعبت...

ثم جلسن جميعاً حول التلفاز وكأن على رءوسهنّ الطير... لحظات وستظهر تنائج اليانصيب... تسمرت العيون... واحد، سبعة، ثلاثة عشر،أربعة عشر، واحد وعشرون، ثمان وعشرون... لم يرد رقم عشرين، رقم الأم، ذرفن الدموع يأساً وحزناً فها هي المرّة الأولى التي ابتاعت الأم ورقة يناصيب، وخاب أملهنّ، وعدن إلى أحلامهن التي لمّا تتحقق!!!.

نانا
عبدالواحد محمد (مصر)

معجزة الزمن .. وفاتنة كل عصر .. المنصورة .. بكل ماتحمله من تاريخ وعبق ينم عن إبداعها .. صوت شجي يطوف بك إلى عواصم ومدن ليعود بك من حيث أتيت إلي ست الحسن شجرة الدر؟

استوقفتني لأستعيد تاريخي.. منحتني حرية التجوال بين ربوعها الخضراء .. ذات صباح مشرق ... وجها لوجهه .. ودون ترتيب جلست على مقهاي المفضل «الفراعنة» في مواجهة نهرها الممتد. أرتشف من فنجان قهوتي المضبوط. وكل نشوة في استعادة جزء مهم من ذكرياتي وتكويني..

حبيبتي نانا.. التي سكنت أوصالي طفلاً وشاباً يافعا بأنوثتها الطاغية. ورقتها المعهودة، وفي أي طريق اتجهت، لقد تركتها منذ عقد من الزمن مهاجراً، وكانت هي في السنة الأخيرة من دراستها الجامعية في كلية الآداب، من المؤكد أنها تزوجت وأنجبت ولداً وبنتاً على أقل تقدير، أما أنا فمازلت أبحث عما يملأ فراغ قلبي الحائر.

ما إن فرغت من فنجان قهوتي، حتى جاءني ماسح الأحذية ليضفي على حذائي بريقاً جديداً. وبالرغم من عدم حاجتي إلى ذلك، قبلت، فمنحني ابتسامة أولاد البلد، وتركني أستعيد حلم نانا؟!

الذكريات تلو الذكريات، قصائدها الشعرية التي كانت تشدو بها في منتدى الجامعة، مجلة الحائط وحواراتها الصحفية مع محافظ المدينة. فنانيها، علمائها، مبدعيها من كل صوب وحدب. حدوتة منصورية مائة في المائة. تذكرت كم كان عقلها كبيراً بالرغم من سنوات عمرها الصغير، جرأتها، ريادتها، حميميتها لكل من عرفها.

قطع ذكرياتي ماسح الأحذية بقوله: اتفضل ياباشا؟

أخرجت من حافظة نقودي ورقة فئة العشرة جنهيات ومنحته إياها.. وهو يدعو لي بالصحة، وفي عينيه سؤال: هل تبحث عن شيء أدلك عليه ياباشا؟

تجاهلت نظراته عن عمد .. أقبل علي صديق قديم بخطواته الرشيقة، ونظارته الطبية الكلاسيكية، التي لايزال محتفظا بها.. تعانقا:

- المنصورة نورت، غربة طويلة.

تأملته في شوق، واحتضنته بعمق أكثر ، زمن، صداقة لاتقدر بثمن، تغيرالعالم .. وهو كما هو . صداقته لاتقبل القسمة علي أثنين، جلسنا نتبادل الحوار، وجاءت ذكرى نانا. بهت وجهه بمجرد أن ذكرت اسمها، شعرت أنه قد أصابها مكروه . حاول أن يغير الحديث فلم أتح له الفرصة، عرفت بتفاصيل مأساتها، المرض اللعين الذي أودى بحياتها، بعد زواج لم يدم عامين، رحلت وتركت طفلين توأمين.

امتلأت عيناي بالدموع، دون إرادة مني . وحاول صديقي أن يبحث عن مخرج . أذّن المؤذن لصلاة الظهر، فوجدها فرصة للصلاة والخروج من حوار حزين. توضأنا سوياً، وصلينا في جامع النصر المجاور للمقهى. تجولنا في المدينة .. تجولت عيناي تقرأ ما فيها من تغير جديد، ناطحات عملاقة، زحام كثيف، ملامح لجيل مختلف.مازلت دار «ابن لقمان» موجودة ولكن المكتبة العتيقة اختفت من الوجود . ربما منحتنا المكتبة الجديدة بسمة بإطلالتها على نهرها الخالد، وصديقي يختلس النظرات من وراء من نظارته، وهو يقرأ في وجهي قصيدة لم تكتمل برحيل نانا.

ليتني لم أفكر
عمار حمود القاضي (اليمن)

الساعة تشير إلى العاشرة والنصف صباحاً وأنا لاأزال في مكتبي أحاول جاهداً إنجاز بعض الأعمال والمراجعات الخاصة والتي لم أتمها منذ يومين لأول مرة بسبب انشغالي بالإعداد لحفلة خاصة بي.

بينما أقلب في أوراقي تذكرت بأن علي الذهاب إلى البنك القريب من مقر عملي، فقمت بلملمة الأوراق وانطلقت إلى البنك قبل أن يغلق أبوابه، ولانشغالي لم أتذكر بأن أخبر السيد المدير بأني ذاهب إلى أين أنا ذاهب، وحينما وصلت إلى البنك وجدت صفاً طويلاً من الناس كل ينتظر دوره فوقفت في آخر الصف أنتظر مرور الدور إلي كي أنجز عملي وأعود سريعاً إلى المكتب دون أن يشعر بغيابي أحد. الوقت يمضي سريعاً, حرارة الجو أجبرتني على التوجه لشراء قنينة مياه معدنية، وعندما عدت وجدت أن مكاني بالصف قد أخذه مَن كان خلفي، وأصبحت متأخراً عن مكاني السابق , وقفت مجدداً في الصف وأنا في قمة الانزعاج وكنت أردد في نفسي (لابد أن أتعامل بصبر وحكمه أكبر) وأثناء مرور الوقت، كانت حواسي متنقلة بين النظر إلى الطابور والنظر إلى تلك الساعة القديمة المعلقة فوق شباك موظف البنك وساعة يدي التي جعلتها متقدمة بالوقت لعشر دقائق حتى أضبط مواعيدي, أخيراً وجدت نفسي أمام شباك موظف البنك، الحمد لله خرجت وأنهيت المهمة، ولكن الساعة تشير إلى انتهاء الدوام, توجهت سريعاً إلى مكتبي، ولكن مع الأسف وصلت ولم يبق أي موظف سوى وليد حارس المكتب والذي أبلغني قائلاً:

- لقد سأل عنك المدير كثيراً وفي يده ورقة يبدو أنها تتعلق بك وقد كان شديد الغضب, لقد بحثنا عنك كثيراً واتصلنا بك لكن هاتفك كان مغلقاً.

انصرفت وأنا في غاية العصبية والغضب, لم أتناول غدائي ولم أخرج إلى أصدقائي كما يحدث يومياً, بل لم أستطع النوم، أسئلة تدور في بالي, ماذا يريد المدير؟ ماذا تحمل تلك الورقة التي كانت في يديه؟؟ ربما اكتشف أني قد خرجت دون إذن؟ ربما... وربما.

أخيراً طلع الفجر مثل كل يوم، واتجهت إلى عملي وأنا خائف والتساؤلات لاتزال تدور في بالي من حين لآخر, اتجهت إلى مكتبي دون أن يراني أحد، وما إن جلست على الكرسي حتى أتى أحد الموظفين وقال لي:

- السيد المدير العام يراك.

أجبت بخوف: أنا قادم الآن. اتجهت إلى مكتب المدير، خطواتي كانت ثقيلة كأنني أقاد إلى حبل المشنقة, لا أستطيع مواصلة المسير إلا بصعوبة على الرغم من ثقتي بنفسي، وأني موظف ناجح في عملي, دخلت مكتب المدير، وسلمت عليه لمحت في عينيه أمراً مهماً وجلست إلى جواره وسألني عن العمل وبعض الأشياء، ثم سحب دفة المنضدة التي أمامه وأخرج ورقة , تذكرت ماقاله وليد عن هذه الورقة, لحظات عصيبة مررت بها, أخذ الورقة وقرّبها إلي قائلاً: هذه المذكرة وصلت من السيد الوزير!

أخذتها وكلي خوف ولم أطمئن إلا حين قال لي: مبروك يا أحمد، أنت إنسان تستحق أكثر من ذلك, هذا قرار تعيينك مدير إدارة.

 

 

سيد البحراوي