الثروة السمكية.. أزمة البيئة وأزمة الغذاء.. أحمد الشربيني

الثروة السمكية.. أزمة البيئة وأزمة الغذاء.. أحمد الشربيني

تتعدد الأبعاد البيئية لأزمة الغذاء العالمية. وتبرز هنا بشكل خاص الآثار السلبية التي يخلفها تغير المناخ على الثروة السمكية وتربية الأحياء المائية (الاستزراع السمكي). فتغير المناخ يلقي، وسيلقي أكثر، بتبعات سلبية خطيرة على مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية.

من هذه التبعات: ارتفاع درجة حرارة المياه، وارتفاع مستوى سطح البحار والمحيطات، وذوبان الأنهار الجليدية، وتغيرات في ملوحة المحيطات وحموضتها، ومزيد من الأعاصير ومطر أقل في مناطق أخرى، وتغير أنماط المخزونات السمكية ووفرتها. وهكذا فإن تغير المناخ يعرض استدامة وإنتاجية مورد اقتصادي وبيئي رئيسي للخطر، غير أنه في الوقت ذاته يقدم فرصا متاحة، وعلى وجه الخصوص في مجال تربية الأحياء المائية. لكن البلدان النامية التي تعتمد على الأسماك في غذائها وصادراتها ستواجه تحديا حقيقيا يتمثل في التكيف مع هذه التغيرات.

آثار تغير المناخ

باتت المحيطات، وعلى وجه خاص في المناطق المتوسطة البعد عن خط الاستواء والمناطق الاستوائية أكثر دفئا. كما أن أجزاء منها غدت أكثر ملوحة. وأصبحت المياه في المحيط الأطلسي في المنطقة المجاورة للمنطقة القطبية الشمالية والمحيط المتجمد الجنوبي وأجزاء من المحيط الهادئ أكثر عذوبة. ويهدد التحمض المتزايد الشعاب المرجانية، التي تتعرض بالفعل للخطر بسبب ارتفاع درجات الحرارة الذي يسبب التبييض (علامة موت المرجان). كما يؤثر تغير المناخ على شدة وآليات حركة التيارات البحرية، التي تغسل وتنظف مناطق الجرف القاري في 75 في المائة من مناطق الصيد الرئيسية في العالم. والواقع أن 80 في المائة من مناطق الصيد القاري تقع في قارتي إفريقيا وآسيا. وستشهد أجزاء كبيرة من القارتين احترارا أكبر من المتوسط السنوي العالمي للاحترار مما يؤدي إلى خفض كميات هطول الأمطار وهبوط مستويات مياه البحيرات في تلك المناطق. وقد أخذت مستويات مياه البحيرات تهبط منذ الآن وعلى نحو متواصل نتيجة لاستخدام السكان مزيدا من المياه في المقام الأول. كذلك ستصبح المياه في المناطق الاستوائية والمناطق المتوسطة البعد عن خط الاستواء أقل إنتاجية. غير أن محيطات المياه الباردة ستشهد في المقابل إنتاجية أكبر من ذي قبل.

كما أن أنواعا عديدة من الأسماك التي لا تقوى على تحمل الارتفاعات السريعة والمفاجئة في درجات الحرارة، ولذلك ستتغير أيضا أنماط توزيع الأسماك. وسيكون أشد التغيرات وأكثرها سرعة هو التغير في مخزونات الأسماك التي تقع عند أطراف مجال عيش الأنواع السمكية. كما أن الأنواع السمكية، وبوجه خاص الأنواع القصيرة الحياة منها، ستغير مواقيت دورة حياتها، حيث ستتفتح بعض أنواع الطحالب بصورة مبكرة، مما يؤدي إلى عدم تناسق بين المراحل الأولى في حياة الأسماك وبين المراحل الأولى من حياة فرائسها، وتبعا لذلك ستقل وفرة هذه الأسماك. وتشكل الشعب المرجانية موئلا لكثير من الأنواع البحرية في العالم. غير أن تغير المناخ يهدد هذه الشعب، وذلك من وجهين: فهو يتسبب في تبييض الشعب المرجانية وتدميرها؛ كما تعطل زيادة حموضة المياه تكلسها، خصوصا وأنه يتعذر على الشعب المرجانية الانتقال بيسر إلى مناطق أكثر ارتفاعا على خطوط العرض وذلك لعدم توفر سطوح مناسبة تستطيع أن تتطور عليها.

الأمن الغذائي

تنهض مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية بدور حاسم في إمدادات الأغذية والأمن الغذائي وتوليد الدخل، حيث يعمل نحو 42 مليون شخص بصورة مباشرة كصيادي ومربي أسماك، كما يعمل مئات الملايين في الصناعات المرتبطة بها. وتقول بيانات الفاو إنه فيما يخص فرص العمل، فإن: "مقابل كل فردٍ يعمل في عَرض البحر ثمة ثلاثة آخرون يعملون فوق الساحل. كما توفِّر الأسماك البروتين الحيواني الرئيسي لأكثر من مليار نسمة، وتضمن سُبل المعيشة لما يتجاوز 200 مليون شخص. ونحو 90 في المائة من هؤلاء هم من أبناء البلدان النامية". وتعيش الغالبية العظمى من هؤلاء في البلدان النامية. كذلك ترفع صادرات الأسماك من الإيرادات من العملات الأجنبية بصورة كبيرة، وهو أمر مهم على نحو خاص في البلدان النامية. كما أن الأغذية المنتجة من الأحياء المائية هي أوسع المواد الغذائية تداولا في التجارة، حتى أنها تتفوق على المنتجات الزراعية في هذا المضمار. كما تعد الأسماك المصدر الرئيسي للبروتين في وجبات ما يزيد على 2.8 مليار إنسان. ويمكن أن يصل إلى 50 في المائة في الأقاليم الأشد فقرا في العالم، وعلى رأسها جنوبي آسيا وإفريقيا، بل وتصل هذه النسبة إلى 90 في المائة في الدول الجزرية الصغيرة النامية والمناطق الساحلية. وستطال آثار تغير المناخ السكان المعتمدين في معيشتهم على مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية، وذلك بفعل ارتفاع تكاليف الإنتاج والتسويق، وانخفاض القوة الشرائية والصادرات وازدياد الأخطار الناجمة عن أحوال الطقس القاسية. كما ستواجه مجتمعات الصيادين الصغيرة وضعا شائكا وذلك نتيجة لتراجع توفر الأغذية والمستلزمات والحصول عليها واستقرارها واستخدامها إلى جانب تضاؤل فرص العمل. وستكون البلدان النامية هي الأكثر عرضة للمخاطر. ففي إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ستكون أنجولا، والكونغو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، والسنغال وسيراليون هي الأكثر تعرضا، وذلك لأنها - بالنظر إلى كونها شبه جافة وتمتلك مصايد ساحلية وداخلية مهمة - تصدر كميات كبيرة من الأسماك، ويمكن أن تصل إيراداتها من صادرات الأسماك إلى 50 في المائة من تكاليف وارداتها الغذائية. كذلك تعيش غالبية السكان الذين يعملون في مصايد الأسماك صغيرة النطاق في بلدان نامية. وإذا تغير توزيع الأسماك نتيجة للاحترار العالمي سيصبح الصيادون غير قادرين بقواربهم الصغيرة على اللحاق بالأسماك إلى مناطق الصيد الجديدة بيسر وسهولة. كما تتعرض هذه المجتمعات السكانية الساحلية للتهديد من جانب أعاصير أكثر تكررا وكذلك ارتفاع سطح البحار. وستكون مصايد الأسماك الآسيوية التي تعتمد على الأنهار، كتلك التي توجد في بنجلاديش، وكمبوديا وباكستان، كذلك معرضة للآثار السلبية لتغير المناخ، لأن وفرة أنواع الأسماك النهرية وتنوعها شديدا التأثر بالاضطرابات المناخية.

فرص جديدة

إن إنتاج قطاع تربية الأحياء المائية - الذي يشكل الآن 45 في المائة من استهلاك الأغذية البحرية في العالم - سيستمر في التوسع لكي يلبي الطلب المتزايد عليه في المستقبل. وهنا يقدم تغير المناخ فرصا متاحة جديدة، حيث من المرجح أن يزداد الإنتاج في الأقاليم الدافئة نتيجة لتحسن وتأثر النمو، وطول موسم النمو، إضافة إلى إتاحة مناطق جديدة لاستزراع الأسماك في أماكن كانت في يوم من الأيام تعد مناطق باردة غير ملائمة. كما أن الفرص المتاحة لتربية الأحياء المائية سوف تزداد في بعض المناطق، ما يعد أمرا مهما على نحو خاص في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية، كما هو الحال في إفريقيا وأمريكا اللاتينية. غير أن فعاليات الطقس القاسية، كالفيضانات والأعاصير، يمكن أن تدمر في الوقت ذاته مزارع الأسماك. كما يمكن أن تتأثر مزارع الرخويات وسمك السلمون التي تقع في الأقاليم الباردة والمعتدلة سلبيا بالاحترار، لأن الأسماك لن تكون قادرة على البقاء حية في ظل ازدهار الطحالب ومسببات الأمراض الجديدة التي سيتسبب بها ارتفاع درجات الحرارة. استراتيجيات التكيف يتعين أن تقوم استراتيجيات التكيف على أساس "نهج النظام الإيكولوجي" الذي يعرف بأنه النهج الشامل والمتكامل في فهم التغير الإيكولوجي والتنبؤ به، وتقدير أنواع التبعات كافة، وتطوير الاستجابات الملائمة لإدارتها. ودعما لهذا النهج، تعد الدراسة المتواصلة لظاهرة تغير المناخ، وآثار هذه الظاهرة على النظم الإيكولوجية لمصايد الأسماك أمرا حاسما. كذلك، وبالرغم من أن مصايد الأسماك تعد مساهما صغيرا في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، فإن هناك مجالات تتحمل فيها مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية مسئولية في الحد من هذه الانبعاثات إلى حد كبير.

كذلك فإن تخفيض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون يؤدي إلى تحسين قدرة النظم الإيكولوجية المائية على الاستجابة للصدمات الخارجية، كما أن إزالة أساطيل الصيد العالمية وممارسات الصيد غير الكفؤة مثلا من شأنها خفض الاحتياجات من الوقود. ومن شأن زيادة كفاءة مزارع تربية الأحياء المائية أن تقلل استخدام المياه والطاقة، وخفض خسائر ما بعد الحصاد، إلى جانب زيادة تدوير المخلفات والذي سيقلص بدوره مساهمة هذا القطاع في انبعاثات الكربون. والواقع أن تقديم أفضل ظروف ممكنة لكفالة الأمن الغذائي- من حيث الكمية والوصول والاستخدام وتوقيت التزويد- يستدعي إدارة رشيدة وحكما رشيدا.

تحذيرات جديدة

وجاءت آخر التحذيرات من خطر تراجع مخزون الثروات السمكية حول العالم خلال العقود القليلة المقبلة، جراء تهديدات الاحتباس الحراري والصيد الجائر، من دراسة علمية جديدة أجراها برنامج البيئة التابع للأمم المتحدة. وقال آخيم شتاينر، رئيس البرنامج، إن تجاهل الخطر المتمثل في ارتفاع درجات حرارة أسطح المحيطات، بجانب التغيرات المناخية الأخرى، وتأثيره على قطاع على الصناعة السمكية، الذي يعد المصدر الرئيسي، إن لم يكن الوحيد، للبروتينات لأكثر من 2.6 مليار شخص حول العالم، يعني: «دق مسمار في نعش الثروة السمكية العالمية».. وألقت الدراسة الضوء، ولأول مرة، على الآلية المساعدة في تجديد المخزون السمكي في ثلاثة أرباع أهم مناطق إنتاج الثروة السمكية على مستوى تجاري حول العالم. وقال، كريستيان نيلمان، رئيس فريق العلماء الذي أجرى الدراسة، إن الاحتباس الحراري يزعزع دورة التجديد، واستطرد: «إذا توقفت الميكانيكية تلك، فهذا ربما يعرض معظم مناطق صيد السمك الرئيسية للخطر». وأوضح نيلمان أن المخاطر التقليدية على الثروة السمكية من التلوث والصيد الجائر معلومة وموثقة، إلا أنها المرة الأولى التي يتسنى فيها دمج تلك المؤثرات، بجانب التغيرات المناخية في دراسة متعمقة. واستطرد قائلاً: «رأينا تحولاً في الحياة البحرية لم يسبق ملاحظته قط». وورد في الدراسة أن روبيان البحار في البحر الأبيض المتوسط ضمن الأنواع المعرضة للخطر، كما ذكر التقرير أن بعضاً من أنواع المحار، التي زخرت بها مناطق المياه الدافئة في المحيط الأطلسي في السابق، انتقلت بعيداً، نحو 600 ميل، إلى الشمال خلال العقود الأخيرة. وطمأن التقرير لإمكانية اتخاذ خطوات علاجية لإنعاش الثروة السمكية، وذلك بخفض انبعاثات غاز الكربون على المستوى العالمي، والتلوث الذي تتسبب به السفن، ووقف عمليات الصيد الجائر وممارساته المدمرة. وكانت دراسات سابقة قد كشفت أنه على الصعيد الدولي الشامل يتبيّن أنه: «مقابل كل طن من مصيد الأسماك يُستهلك نصف طن من الوقود تقريباً ويتبدد معظمه على جهودٍ فائضة من عمليات سحب الشِباك». وقال نيلمان إن 50 في المائة من الشعاب المرجانية ستختفي بحلول العام 2050 بسبب ظاهرة «التبييض» bleaching، التي يتسبب بها ارتفاع درجات حرارة أسطح المحيطات. وبدوره، حذر «مركز أسماك العالم» Worldfish Center من مخاطر الاحتباس الحراري على الثروة السمكية، إلا أن نبرة تقديراته كانت أكثر حذراً.

وأشار المركز في آخر إصدارته إلى أن الاحتباس الحراري قد يتيح خلق المزيد من الفرص، مثل السماح للمزارعين، التي غرقت مناطقهم الزراعية، باستخدامها كمزارع للأسماك.

مصايد الأسماك

  • تشغل مصايد الأسماك في العالم كله ما يزيد على 200 مليون شخص ينحدر 98 منهم من بلدان نامية.
  • تسند مصايد الأسماك الصغيرة النطاق 99 في المائة من الصيادين غير أنها تنتج أقل من 50 في المائة من مجموع كميات الأسماك المصيدة.
  • تقدم منتجات الأحياء المائية ما لا يقل عن 50 في المائة من البروتين الحيواني والأملاح المعدنية لنحو 400 مليون شخص من سكان البلدان الأشد فقرا في إفريقيا وجنوبي آسيا.
  • تعد الأسماك المصدر الرئيسي، إن لم يكن الوحيد، للبروتينات لأكثر من 2.6 مليار شخص حول العالم.
  • تشمل البلدان الأكثر تعرضا لآثار تغير المناخ المتصلة بمصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية البلدان التي تقع في غربي ووسط إفريقيا وشمال غربي أمريكا الجنوبية وجنوبي شرقي آسيا.
  • بعض أنواع المحار، التي زخرت بها مناطق المياه الدافئة في المحيط الأطلسي في السابق، انتقلت بعيداً، نحو 600 ميل، بسبب تغير المناخ.
  • يتوقع العلماء أن 50 في المائة من الشعاب المرجانية ستختفي بحلول العام 2050 بسبب ظاهرة «التبييض» bleaching، التي يتسبب بها ارتفاع درجات حرارة أسطح المحيطات.

 

 

 

 

أحمد الشربيني