النّقد اللغويّ من العشرينيات إلى التسعينيّات وبالعكس

النّقد اللغويّ من العشرينيات إلى التسعينيّات وبالعكس

«أما كتاب النجّار، فأنا قليل المعرفة بالكتب الحديثة، كما قال أبو إسحاق الشاطبيّ رحمه الله: «وشأني ألاّ أعتمد على هذه التقييدات المتأخرّة البتة، تارة للجهل بمؤلفها، وتارة لتأخُّر زمان أهلها جدا، أو للأمرين معاً، فلذلك لا أعرف كثيراً منها ولا أقتنيه». ونعمّا قال.

هذا النص المقتبس هو ردّ لغوي يكتب - على شبكة الإنترنت - في الأخطاء الشائعة، يردّ فيه على سؤال أحد القرّاء الذي يقول: إنّ أستاذنا كان يذكر لنا أنّ للغويّ المعروف محمد علي النجار كتاباً في الأخطاء الشائعة. فهل اطلعت على هذا الكتاب؟

وقد اتخذت هذا النص الحواري مفتتحاً لمقالتي هذه لأنه يفصح عن ضمير كثير ممّن يُعرِّضون أنفسهم للكتابة في النقد اللغوي من غير أن «يتآدوا له بأداته»، تلك الأداة التي قد يكون أقربها منالاً الاطلاع على ما قدّمه السابقون في هذا الحقل، ليكون - على افتراض الخطأ فيه - مُعيناً لهم على تجنّب ما أخطأ فيه سابقوهم، أو يكون مساعداً لهم على التخلص من اجترار ما لفظه السابقون من القدماء والمحدثين، فلا تمتلئ كتب النقد اللغوي، وهي تنبّه على الأخطاء، بالأخطاء والعثرات التي باتت عقبة في سبيل كتّاب العربية ومستعمليها، بدلاً من أن تكون وسيلة لتنقية العربية ومساعدة كتّابها على استعمالها بيسر ومن غير عناء.

ولا أظنه يخفى على أحد ما يعانيه النقد اللغوي من أزمة القبول، فالخطأ يشيع والتنبيه عليه يكثر، وما من متقبّل أو مغيّر من الخطأ إلى الصواب إلا قلة قليلة مقارنة مع الكثيرين المستمرين على الخطأ. وحين يسأل كثير من اللغويين البارزين عن أسباب كثرة الأخطاء في ما يكتب ويذاع باللغة العربية، يوجهون أصابع الاتهام إلى ضعف التعليم المدرسي والجامعي، وإلى عدم اهتمام الساسة باللغة العربية وإصدار القرارات التي تُعنى بالمحافظة عليها، وإلى غزو اللغات الأخرى للعربية في عُقر دارها، وإلى آثار الترجمة... إلخ. وهي مشكلات حقيقية موجودة حقاً، ولكن أين يقف اللغويون من هذه القضايا؟

لقد أدّى بعض اللغويين دوراً كبيراً، من خلال بحث الأخطاء الشائعة، في تشويش صورة اللغة العربية على ألسنة أبنائها وأقلامهم. والسّبب الرئيس في ذلك غياب المعيار اللغوي الذي يجب أن يتفق عليه اللغويون، ثم يئول إليه من يكتب في النقد اللغوي، ويحكم بالخطأ أو الصواب على الاستعمال اللغوي الذي يدرسه انطلاقا من ذلك المعيار المعين، لا من معرفته واطلاعه اللذين يأبى عليهما في كثير من الأحيان مجرد النظر في كتب المحدثين (للجهل بمؤلفه أو لتأخر زمان أهلها جدا أو للأمرين معاً)، فيجيز بناء على ما حكاه الفرّاء من لغة بني أسد أن نقول (تفتر) في (دفتر)، فيقول: «يخطِّئون من يقول من العامة (تفتر) في (دفتر) وهو صواب، فـ (التفتر)، لغة بني أسد حكاها الفرّاء. فهل يجيز (الناقد اللغوي) لنا أن نقول: ما أنت؟ بدلا من: مَنْ أنت؟ بناء على ما حكاه أبو عمرو من أنّ أهل مكّة يقولون إذا سمعوا صوت الرّعد: «سبحان الله ما سبّحْتَ له»؟ بل هل يُجيز لنا أن كتب: «قد ذهبُ» بدلاً من: «قد ذهبوا» بناء على ما حكاه الفرّاء من أن هوازن وعليا قيس يحذفون ضميري الرفع الواو والياء اكتفاء بالضمة والكسرة قبلهما؟

ومعلوم أن باب لهجات القبائل هذا باب لا يفتح، وإذا فتح فبالحكمة والمأخذ الحسن على وفق معايير متفق عليها، وإلا فسيحتفل النقاد اللغويون عما قريب بإزالة آخر قاعدة لغوية تقول إن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب، اعتماداً ممن يتتلمذون على كتاباتهم على قول بعض العرب: خرق الثوب المسمار. وحينذاك لن يعود من الأمر شيء لا بأيدي التعليم المدرسي ولا بيد السياسيين، لأن اللغويين (الغيارى) قد فتحوا الأبواب على مصاريعها من جانب، وسدّوها إلا كوّة صغيرة من جانب آخر.

وكان مما أثار رغبتي في الكتابة في هذا الموضوع ما قرأته في مجلة العربي (عدد 595 يونيو 2008) من بحث الدكتور الفاضل مصطفى الجوزو (العشرينيات والثلاثينيات.. إلى التسعينيات)، أم يكون بغير هاتين الطريقتين كما يوحي عنوان المقالة.

والخيط الموضوعي الذي يربط حديثي عن هذه المقالة بما بدأت الحديث عنه من أمر النّقد اللغوي هو عدم الاطلاع على ما قدّمه اللغويّون السابقون في القضية اللغوية التي هي مدار البحث، أو تجاهل ما قدّم ربّما (لتأخر الزمان)، فإذا كان ناصر الدين الأسد قد نشر بحثاً في مجلة مجمع اللغة العربية الأردني (عدد 1، 1978) بعنوان المقالة - إلى حد كبير - (العشرينات والعشرينيات)، ثم نُشر البحث ضمن كتاب «تحقيقات لغوية» لناصر الدين الأسد عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت، سنة 2003. وإذا كان بحث الأسد هذا قد ناقش مناقشة علمية ما أقرّه مجمع اللغة العربية بالقاهرة من تخطئة الجمع بغير ياء وأنّ الصواب هو إلحاق الياء قبل الجمع، ثم رجّح استناداً إلى ما ورد عن العرب من شواهد أنّ استعمال العشرين والثلاثين... إلخ، من غير جمع للدلالة على ما ندلّ عليه بقولنا «العشرينيات والثلاثنيات» هو ما جرى عليه العرب في كلامهم، وأنه لا بأس، على من أراد المخالفة عن استعمال العرب الذي ألفوه، أن يجمع لفظ العقد من غير ياء، فيقول: العشرينات والثلاثينات... إلخ، أما الجمع بإلحاق الياء (العشرينيات) فلا وجه له في العربية ولا مسوّغ.

فأخذ من انتهى إلى علمهم ما خطّأه مجمع القاهرة وما أجازه، باستعمال العشرينات وأخواتها وتخطئة من يستعملون العشرينات وأخواتها. وأخذ، بعد ذلك، من انتهى إلى علمهم ما جاء في بحث ناصر الدين الأسد بضدّ ما أخذ به أولئك أنفسهم. وبدأ قلة باستعمال الوجه العربي الصريح (العشرين والثلاثين...) من غير جمع، وربّما لم يُفهم مقصود هؤلاء القلّة لما ألفته أذواق أبناء اللغة المعاصرين وأسماعهم من ضرورة الجمع سواء بالياء أم من دونها.

ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل بدأ فريق آخر، سمع مقالة من هنا ومقالة من هناك، يستعمل الوجهين (الجمع بالياء، والجمع من دونها) في النص الواحد يكتبه، أو الحديث الواحد يُذيعه، ذلك أنّه يسمع جدلا وتخطئة وتصويباً في هذه المسألة، كغيرها من مسائل الأخطاء الشائعة، فلم يستطع أن يتبيّن الصواب، وآثر السلامة من أحد طرفيها باستعمال الوجهين حذلقة وتخلصا.

إلا أن الذي استقرّ عليه رأي أكثر الأكاديميين والكتّاب - في حدود معرفتي - هو جمع ألفاظ العقود من دون الياء، وهو ما يميل إليه الذوق، وتؤكّده قوانين التطوّر اللغوي من السعي إلى الاقتصاد في الجهد، والتخفّف من الإطالة والتشديد. فإذا كان كلّ ذلك قد جرى منذ السبعين من القرن الماضي، فماذا عسى أن تضيف مقالة الدكتور الجوزو وهي تُجيز الاستعمالين (بالياء وبغير الياء) «مع تفضيل العشرينيات وأمثالها على العشرينات»؟ فهل مازال بوسع مستعملي العربية أن يحتملوا تفضيلا وتفصيلا في شأن العشرينات وأخواتها؟ خاصة أن هذا التفضيل لا يستند إلى مرجّحات لغوية مقنعة، فالعشرينات «توحي في العربية - على حد تعبير د.الجوزو - معنى العشرين + العشرين + العشرين، وليس السنوات العشر التي تلي العشرين». وهذا الإيحاء قد يكون صادقا إذا ما فصلت العشرينات عن سياقها ووضعت في سياق آخر، كقولنا: «أعطني خمس عشرينات» ونحن نريد خمس أوراق نقد من فئة العشرين ديناراً. ولكن كيف للعشرينات وأخواتها أن (توحي) بغير ما يفهمه الأعاجم فضلاً عن العرب إذا ما استعملت في سياق يدل على مدة العقد؟ فهل يُفهم من قولنا (وقعت الحرب في الستينات من القرن الماضي) أنّها وقعت في غير السنوات العشر التي تلي الستين من ذلك القرن.

وأمّا مرجّح تفضيل العشرينيات فلا يقل ذوقية واعتسافا عن الإيحاء الذي هو مرجح استبعاد العشرينات، إذ افترض د.الجوزو وجود (عشرينية) أو (عشريني) صفة لسنة عشرينية أو عام عشريني، ثم عند الجمع نقول: أعوام أو سنوات عشرينيات، ثم حُذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، فقيل: عشرينيات.

فإذا كانت العشرينات والعشرينيات مما لم يستعمله العرب الفصحاء، ومع ذلك هو ممّا جرى عليه العرب المعاصرون في استعمالهم، أليس من الأولى أن نقول إن لفظ العقد قد جُمع جمعَ مؤنث سالماً، فزيدت عليه الألف والتاء؟ ويؤيد ذلك أن القياس يسمح بجمعه جمع المؤنث السالم، كما بيّن د.الجوزو نفسه في مقالته. فيكون في هذا الوجه تيسير على المعلمين والمتعلمين من افتراض النسبة أو المصدر الصناعيّ أو الصفة التي تقوم مقام موصوفها... إلخ. ممّا يُظهِر العربية عاجزة أو معجّزة، ويجعل كتّابها ومستعمليها في حيرة دائمة، يشعرون بالخطيئة وبعض الإثم كلّما امتدّت أيديهم إلى أقلامهم، أو نبتت فكرة في أذهانهم.

د. إسماعيل القيّام
باحث وأستاذ في جامعة فلادلفيا - الأردن